مطلب الماء بزاكورة هو واحد من ضمن مجموعة من المطالب الأخرى التي تم رفعها في سياقات عديدة وتُغوفل عنها في عدد كثير من المناسبات، وكل التحركات السلمية كانت تتعرض للإجهاض. غير أن هذا الخروج الحاشد للساكنة والذي أدى إلى اعتقالات جديدة لا يؤكد في الحقيقة سوى حقيقة واحدة وهي انتهاج الدولة الدائم للخيار الترهيبي من أجل إخراس كل من سولت نفسه التلفظ بحق مشروع، بشكل يعزز المقاربة الأمنية ولا يدع أي مجال للتواصل والحوار. ولئن كانت زاكورة، هذا المجموع الذي بدأ يخرج عن صمته، معبرا في أشكاله الاحتجاجية عن تبلور وعي جديد وعن نضج المعرفة بالفوارق الطبقية والجغرافية باعتبار أن هذه المدينة القابعة في تخوم الجنوب تقع في جهة درعة تافيلالت التي بدورها تعد من أفقر الجهات فإن حدة الفوارق لازالت قائمة، ولازال التقسيم قائما، هناك "مدن المركز" وهناك "مدن الهامش"، هناك المدن التي تنتج، وفي المقابل هناك المدن التي لا تنتج. وحتى في الأوقات الرسمية فلا يلتفت إلى مدن الهامش، وزاكورة واحدة منها إلا من أجل غايات نفعية يعلمها الغادي والرائح، الصغير والكبير، حتى أن الأطفال ما عادوا يثقون في تلك الوجوه التي تزورهم في مناسبات معلومة. صحيح أن المدينة عرفت تبدلات نوعية، وبدأت تفتق طريقها الشاق والوعر المسالك لأن تصبح "مدينة" بالمفهوم المتعارف عليه، إلا أن ذلك، في مجمله لا يروي عطش الساكنة وانتظاراتها التي تكبر سنة بعد أخرى. ويرتبط جزء من ذلك بالإقصاء الذي لقيته هذه المدينة ولاتزال. إن مطلب الماء في تقديري ليس سوى الشجرة التي تغطي الغابة، وبذلك ينضاف إلى جملة المطالب التي من المفترض أن تسهر الجهات المسؤولة على توفيرها كبناء مستشفيات وتجهيزها، الاستثمار في الرأسمال البشري عبر توفير أنشطة مدرة للدخل، وبناء فضاءات عمومية…إلخ. ولئن كان واقع الحال يسمح لنا بالقول إن هذه المدينة المهمشة تنعم على الأقل ببعض أبسط حقوق العيش "الكريم" حتى لا يقال عنا أننا متشائمين فإن ذلك يغيب في قرى مجاورة منسية، لا يتم تذكرها إلا في فترات "مناسباتية" كفترة الحملات الانتخابية حيث يتوافدون عليها من كل حدب وصوب، بسياراتهم الفارهة وب"لوكاتهم" الجديدة وكل أشكال الحياة التي نفتقدها هناك! وإذا كان الماء هذا العنصر الأساسي الذي لا يخفى على أحد الأدوار التي يضطلع بها في الحياة يجيء ويمشي، يغيب وينقطع، "يتلون" بتلون أمزجتهم فإن القرى المجاورة لا زالت تعيش على الماء "المالح" و مياه الآبار و"السقايات" التي يُؤدى عنها دونما تمتع بمياه تُشرب فبالأحرى التساؤل إن كانت صالحة أو غير صالحة. يمكن أن نذكر في هذا السياق قرى كثيرة ومجموعة من الدواوير التي تعيش على حافة العطش، فضلا عن مجموعة من الدواوير الأخرى النائية التي تقاوم في صمت. يكفي أن تلقي نظرة وأنت مار من فوق لتحت، من مقربة أكدز وصولا إلى زاكورة وانتهاء بمجموعة من الدواوير التي لا عهد لك بها. بل يمكن أن أقول بأن تلك الدواوير لا عهد لها بالصنبور أو الساعات المائية، وإنما تتعامل بمفهوم "القنينات" الصفراء التي تملأ في الآبار البعيدة وتحملها الدواب من على ظهرها! يحدث ذلك في هذا القرن، في الزمان والمكان، في هذا الوقت الذي تشققت فيه قيم الديموقراطية والعدالة الاجتماعية وأصبحت مجرد خطابات يُتشدق بها في أكثر من مناسبة وعلى أفواه كم كم مسؤول! يكفي هنا أن أذكر "سارت" و "أسرير" و"إنكزاط" و"أغلاودرار" و" أيت خدو " ومجموعة من الدواوير الأخرى التي سيخطئ في لفظ اسمها فبالأحرى أن تطأ قدمه في تلك البقع الطيبة. يكفي أن تجيء وتلقي نظرة على نساء الجنوب الشرقي المكلومات وهن يحملن في تلك الصباحات الباكرة القنينات الصفراء و"البراميل" الزرقاء متجهات بها صوب بئر أو سقاية عقيمة. يكفي أن تخمن حجم الصعاب التي يلاقينها عندما تغيب تلك القطرات من الماء المالح. إن التهميش هنا مزدوج: تهميش لمشروع مدينة مصغرة مادام أن زاكورة لم تتوفر فيها بعد في تقديري المواصفات التي تجعل منها مدينة بالمعنى المتعارف عليه، ومن جهة أخرى هو تهميش مضاعف وبأكثر تكلفة بالنسبة للقرى والدواوير التي يفصلها جدار سميك بينها وبين الفضاء "المديني". أريد في الختام، أن أشيد بكل التحركات الناضجة والتي جوبهت بالقمع والتنكيل، وهو حال عدد من التحركات التي لا تنتصر للإنسان الذي يجب أن يكون فوق كل اعتبار. أشيد بهاته التحركات من زاوية "الإنسان" الذي عاش في تلك التخوم ولا زال وخبر بعض ما تقاصيه أهاليها في صمت. وتدليلي بهشاشة الوضع في زاكورة المنسية لا يستثني أيضا هشاشة الفروع فيها ( دواوير وقرى) التي تحارب على جبهتين، جبهة البقاء وجبهة مقاومة الاحتضار.