ما أن يحل الشهل المبارك حتى تفاجئك آلاف اللترات من الحريرة المتدفعة... فتفاجئك كل رمضان عبارات مثل: "اليوم تنطلق عملية توزيع المساعدات الغذائية بمناسبة رمضان" أو "لقد تم توزيع مساعدات غذائية على عدد من الأشخاص، إيذانا بانطلاق عملية توزيع الدعم الغذائي التي تقوم بها مؤسسة محمد الخامس للتضامن بدعم من وزارتي الداخلية والأوقاف والشؤون الإسلامية"... الأمر نفسه تعرفه بلدان المشرق تحت ما يعرف ب "موائد الرحمان" بالرغم من أنني ضد هذه الموائد وهذه العادات التي تكرس الفقر. نفس الأمر وفي نفس السياق تسمعه هنا وهناك عن محسن أردني يتبرع لصندوق الزكاة بثلاثة ملايين دينار لتوزيعها على الفقراء في شهر رمضان، وآخر سعودي يدبح الأضاحي للفقراء، وآخر مغربي يبني مسجدا... كل هذه الأمور مطلوبة وجميلة، ولكن وفي نفس الوقت كان الله في عون الفقراء وهم يلهثون وراء موائد الرحمان وسيظلون يلهثون وراء مثل هذه الموائد والتسابق للاستفادة من الأضحيات أو الأعطيات، ما دامت الدول تكرس هذا النمط من العمل الاجتماعي الذي يزيد المجتمعات الثالثية خمولا وجمودا وخنوعا بعيدا عن الكرامة والحرية وتحصين الهوية والإحساس بالمواطنة الكاملة...
ويبلغ الغلاف المالي الإجمالي المخصص لمثل هذه العمليات، التي تروم تقديم المساعدة للأشخاص المعوزين والمحتاجين لاسيما النساء الأرامل والمسنين والمعاقين الملايين...
لكن..! لنتخيل أنه في كل عام يختار المسؤولون واحدة من أكثر المناطق فقرا وتهميشا في المغرب وتمول بنفس الميزانية التي كانت لتفريق الحريرة وما إليه على المواطنين لبناء مشروع تنموي أو استثماري أو معمل أو تعاونية... يستفيد منها وبشكل بنيوي ومستدام تلك الجهة الأكثر فقرا والتي وقع عليها الاختيار من بين مناطق المغرب جميعا. ألن يكون هذا عملا بنيويا أفضل من دعم غذائي سنوي مصيره قنوات الصرف الصحي في نهاية الأمر..! لتفتح الأفواه من جديد في السنوات المقبلة للوقوف في طوابير طويلة للمسحوقين والمعدمين لتلقي مساعدات جديدة في شكل عادة مرضية جديدة تكرس "السعاية" و"الدونية" والتواكل والاستهلاك السلبي بدل الإنتاج الفعال...
فبدل الحريرة التي يتم بها تخليد الفقر ومأسسته، أنا أقترح أن الناس محتاجين إلى صندوق لبناء معامل بأحزمة الفقر لا يشتغل فيها إلا السيرورات والمعدمون والفقراء والآكلون من القمامة وحضيض المجتمع فكل واحد أنقد من وضعيته الكارثية ينقص من عالم "الشوهة المغربية" والجوع والجنون والمجون والإقصاء والتهميش والعالة إلى المواطنة والحياة الكريمة والصورة المشرفة وإلى الإنتاج بدل منطق الاستهلاك والعيش على حساب الآخرين.
آلاف مؤلفة من المتسولين يمكنهم الاستفادة وآلاف الملايير يمكن للمغرب إن كان جادا في القضاء على الفقر أن تصب في صناديقه من المنظمات العالمية والدول المانحة. فقط يحتاج إلى فكرة جيدة وإرادة حقيقية وائتمان المشروع في أيدي مسؤولين شرفاء ووطنيين والشروع بعدها في العمل الخلاق والمنتج إقتصاديا والبناء اجتماعيا.
ونتساءل هاهنا بصيغة أخرى ومن جانب آخر؛ لماذا لا تخرج المساعدات عن مسار معين محدد مسبقا؟ لماذا تنحصر إسهامات الموسرين في بناء المساجد وتوزيع الأضاحي وتوزيع الحريرة وموائد الرحمن..؟ لماذا لا تتسع الحسنات والإسهامات إلى بناء المدارس وتشييد المعامل أليس من الأهمية بمكان مثلها مثل التعييد للفقراء وتوزيع الحريرة على المسحوقين..؟ ما أقصده هو أن العالم يتغير والمنطق عليه أن يتغير أيضا بما يتوافق وتغير العالم ويفي بحاجاته ومتطلباته وأساليب اشتغاله. وهنا أستحضر المثل الصيني الشهير القائل "علمني كيف أصطاد سمكة ولا تعطني عشر سمكات كل يوم".
تخيلوا معي كل رمضان كم تستطيع الدولة من خلال جمع التبرعات من أجل بناء معامل ومنشآت اقتصادية، وتخيلوا لما تعلن النتائج من خلال الصحافة وفي الإعلام من خلال البرامج الوثائقية والتقارير المفصلة عن مردودية هذا الإسهام المنتج، كم سيزداد الناس تشجيعا للمساهمة ذاتيا ومعنويا وماديا في النهضة الإقتصادية والتنموية والإجتماعية.
تخيلوا معي الأموال التي تضيع في الحريرة كل رمضان لو تم تجميعها لبناء مصنع يشتغل طول السنة كم من الأسر ستستفيد منه وطيلة السنة. وأما الحريرة فتنتهي بانتهاء رمضان وأما الفقر فهو مستمر، وأما الصدقة فتنقطع لأنها ليست جارية كمدرسة أو جامع أو غرس أو معمل...
لا بد من تغير للمنطق؛ منطق اليد السفلى المتعطشة دوما للصدقة، إلى اليد المحتاجة والتي علينا منحها الفرصة للبناء والعمل والإنتاج فيكون ذلك وقفا للفقر وتنمية للبلد ونقل فئات واسعة من المجتمع من الاستهلاك وحياة العالة إلى حياة الإنتاج والإعتماد على الذات.
ومن المحفزات، يمكن القيام بتكريم سنوي لأكثر المنعشين الاقتصاديين والتنمويين المغاربة بجوائز تكريمية وشواهد رمزية على مواطنتهم وإسهامهم الوطني في التنمية.
إننا نرى أنه مهما طال بنا الزمن فنحن مطالبون بتغيير مبدأ الترقيع والانتقال إلى حلول بنيوية تقتلع الفقر من جذوره ولا تكرسه وتؤسس له عبر مؤسسات هبوية ومانحة تستديم الفقر وتمأسسه.
إن الفقر في العالم محتاج للتجارة وليس للمساعدة لأن المساعدة تكرس وضعية الشخص الذي نساعد وتبقيه على ماهو عليه بل تزيد من أعدادهم، بينما التجارة وإدماجهم في سوق العمل يؤدي بهم إلى الإنخراط والفعل والإنتاج والوجود الفاعل لا الوجود السلبي تقول الباحثة "نورينا هيرتس" في كتابها "السيطرة الصامتة-الرأسمالية العالمية وموت الديموقراطية-". ونحن المغاربة الشرفاء الأحرار لا نريد لا "لاكريمة" ولا حريرة ولا زيت ولا سكر ولا هبة ولا فيرمات... نريد سواعد مغربية تعمل وتكسب، نريد كرامة للمغربي، نريد أمانا داخل مخافر الشرطة، نريد عدلا داخل المحاكم، نريد حرية وديمقراطية وحقوقا...
وأنتم أيها الشباب المغربي حين تلتقون الملك لا تطلبوا ريعا أ و كريمة أو صدقة، أو وظيفة... اطلبوا فرصة لبناء الوطن، أطلبوا فرصة لتنمية وإصلاح مدنكم بمشروع أو جمعية أو مؤسسة، أطلبوا من الملك أن يهتم بقريتكم، أطلبوا منه شيئا يفيد بلدكم، أنسوا ذواتكم وتذكروا الوطن فالوطن أبقى منكم... أرجوكم تحدثوا له عن الوطن...