لم يخذل الشعب التونسي شاعره أبو القاسم الشابي حين قال " إذا الشعب يوما أراد الحياة / فلا بد أن يستجيب القدر" وهذا لا ينطبق على التونسيين وحسب وإنما على كل شعوب تجد عسفا من حكامها الذين عندما يطول بهم الأمد في السلطة يتحولون الى طغاة يمارسون الدكتاتورية ليستمروا في الحكم، وعبر التاريخ كانت النماذج تتساقط الواحدة تلو الأخرى، ولكن السلطة تحدث غشاوة ليست في البصر وإنما في البصيرة. قبل يوم من الهروب الكبير ظهر الرئيس المخلوع في التلفزيون ليوجه خطابا للشعب التونسي أشار فيه الى أنه ليست هناك رئاسة مدى الحياة، وأنه سينهي ولايته الرئاسية في العام 2014م، وهو في الواقع يطلب من الجياع الذين أفرغ بطونهم أن يصبروا عليه ثلاث سنوات أخرى وبعدها يغادر وكأن شيئا لم يكن، مثل هذا التبسيط لا يليق بالقيادات الحاكمة الرشيدة، فعدم احترام إرادة الشعوب أسوأ أشكال التصرفات التي يمكن أن يمارسها الرئيس أو الزعيم. لم يعد التعاطي الفوقي مع الشعوب كفيلا بممارسة الطغيان كما فعلت ماري انطوانيت زوجة لويس السادس عشر حينما علمت بمظاهرات الجياع فقالت أطعموهم بسكويت بدلا عن الخبز، هذه المرأة استخفت ليست بالمظاهرات وإنما بإرادة أبناء شعبها الذين اقتلعوها ولكن مقولتها ذهبت مثلا للسطحية السياسية في سوء تقدير حركة الجماهير واتجاهاتها ومتغيراتها الفكرية والحياتية. زين العابدين بن علي مارس طغيانا بشعا على الشعب التونسي، وصادر كثيرا من حقوقهم وخياراتهم الى الحد الذي قاد شاب جامعي يبيع الخضار لإحراق نفسه تعبيرا عن السخط الشعبي وعدم الرضا عن سياسة حكومة وقيادة بلاده، ومثل هذا الشاب يعكسون صورة محبطة لكثير من الشباب العربي والذين هم جيل التغيير وسواعد البناء وقادة المستقبل، وبئس الظروف هي التي ينشأ فيها هؤلاء في ظل سلطات قمعية. تونس الآن أحد النماذج الماثلة لتغيير الشعوب، وليس هناك من شعب يمكن أن يبقى الى ما شاء الله له تحت السلطة الحاكمة، ذلك يحدث في أكثر من بلد عربي تضيع فيها كثيرا من الحقوق وتتعرض لكثير من الطغيان ومصادرة الحقوق الأساسية في الخيارات الطبيعية لواقع حياتهم وأنظمة حكمهم، ولعل المشكلة الأكبر أن معظم الأنظمة الحاكمة تأتي السلطة بشعارات وبرامج مفتوحة على الأمل، وأول استلام السلطة تتحول الى وحوش تفتك بذات الشعوب التي قدمتها للسلطة. تماما كما قال بن علي "لا رئاسة مدى الحياة" ولكن من يحدد ذلك؟ إنه الشعب ذاته وليس فخامة الرئيس الذي باع بضاعة كاسدة للشعب فأرجعها له، لأن الدرس انتهى ولم تعد لغة الشعارات والخطاب المتفائل مجديا، وذلك يعني أن على الشعوب العربية الباقية أن تحاول التخلص من طغاتها الذين يحكمون منذ عشرات السنوات ويطمحون لسنوات أخرى، يمكن للشعوب العربية أن تحدث التغيير عندما تستيقظ من سلبيتها وترتفع هاماتها وهمتها الى مستوى أقدارها في الحكم الرشيد. هناك أثمان لا بد وأن تدفع، والخوف من التضحيات هو ما يجعل العجز مقيما ومرضا مزمنا في أجساد الشعوب، وبدلا من الموت في زنازين أمن الدولة أفضل منه الموت خلف شعارات الانعتاق من سلطة غاشمة تمسك بالسلطة لأجل مصالحها الشخصية، وفي تقديري أن ما يجب أن تخاف منه ليس الخوف وإنما مواجهة الخوف، حينها تحقق إرادتها وتنتزع حقوقها وتغير بحسب تطلعاتها، ولا يعني ذلك بالضرورة أن تسعى الشعوب للتغيير لمجرد التغيير، وإنما عندما يحدث الاستبداد وينتشر الظلم ويسوم الحاكم شعبه سوء العذاب، لأن ثقافتنا المجتمعية ليست من ذلك النوع الذي يضيق سريعا بالخروج على الحاكم حيث يعتمل الصبر وانتظار الفرج، وذلك ما قد يستغله بعض السطحيين من الحكام ويسيؤون تفسيره وتأويله. الفراغ الفكري بين الحاكم والمحكوم في عالمنا العربي سببه المباشر جفوة الحاكم واستبداده حينما يجلس على الكرسي، فحلاوة السلطة رغم أنها علقم، تذهب بعقول الساسة ولا يجدون مشقة في أعباء السطة، والمفارقة أنهم سريعا ما يديرون ظهورهم لشعوبهم ويستنصرون عليها بالقوى الأخرى، والتي بدورها لها تاريخ صلاحية لكل رئيس، وحين تنتهي ترفض حتى استضافته أو الحديث عنه وحينها يمكن التأكد من أن الرئيس تم بيعه بالرخيص، والمفارقة الأعظم ألا رئيس يتعظ أو يعي الدرس. إنها حصانة واحدة وخيار واحد، وهو ذات الشعب الذي يمارس كل رئيس جبروته عليه، بدون ذلك الشعب ليس لأي رئيس كان دعم أو عون أو تعزيز لسلطته الحاكمة، ودون غطاء الشعوب فكل رئيس عربي مكشوف وبيته الرئاسي من زجاج يمكن أن ينهار في أي لحظة ولا يمكن إصلاحه مطلقا.