ٍأربكت الثورة التونسية وبعدها المصرية، كل الحسابات والتقديرات، وفندت الكثير من المعتقدات والقناعات التي كانت راسخة لزمان طويل جدا لدا الكثيرين، وعلى رأس القناعة كلها، تلك التي مفاده "أن الفقر والجوع لا يصنعان الثورة، وأن الجياع والفقراء المحرومين لا يمكنهم القيام بأي فعل أو نشاط سياسي، لانشغالهم بتوافه الحياة وصغائرها، وتركيز اهتمامهم على تأمين لقمة الخبز، سبب استعبادهم وإذلالهم وإبعادهم عن السياسة وما يجي من باباها"، ما يجعلهم لقمة سائغة في حلوق الأغنياء الذين يستغلون حاجتهم والخصاص العارم، كعامل للإخضاع والتركيع للبقاء في السلطة المتحكمة في الرقاب لمدد طويلة، ومن أجل ذلك طبقوا المثل السائر "جوع كلبك يتبعك" ناسين المثل المضاد "جَوِّعْ كَلْب *** يَأْكُلْك" الذي يلخص قصة أحد ملوك حِمْيَر، الذي كان عنيفًا على أهل مملكته يغصبهم أموالهم ويسلبهم ما في أيديهم وكانت امرأته سمعت أصوات السُّؤَّال، فقالت" إني لأرحم هؤلاء لما يلقون من الجَهد... ونحن في العيش الرغد، إني لأخاف عليك أن يصيروا سباعًا وقد كانوا لنا أتباعًا. فردّ عليها "جَوِّعْ كَلْب *** يَتْبَعْك" وأرسلها مثلاً. فلبث بذلك زمانًا ثم أغزاهم فغنموا ولم يقسم فيهم شيئًا، فلما خرجوا من عنده قالوا لأخيه وهو أميره "قد ترى ما نحن فيه من الجَهد، ونحن نكره خروج المُلْكِ منكم أهل البيت إلى غيركم، فساعِدْنا على قتْلِ أخيك واجلس مكانه"، وكان قد عرف ظلمه، فأجابهم إلى ذلك، فوثبوا عليه فقتلوه، فمرَّ به عامر بن جذيمة وهو مقتول... وقد سمع بقوله" جَوِّعْ كَلْب *** يَتْبَعْك" فقال: ربما أكل الكلب مؤدبه إذا لم ينل شِبَعَه، "جَوِّعْ كَلْب *** يَأْكُلْك" فأرسلها مثلاً سائرا". قصة طريفة ذات مغزى عميق يؤيد نظرية أن الجوع والفقر والحرمان والإذلال قد يحول الفقراء والجياع إلى سباع يأكلون من منع عنهم الخبز بالضبط كما هو حال العالم العربي اليوم مع تحول كياناته الراكعة الخاضعة المستسلمة، إلى مواطنين أكثر وعيا واهتماماً بالسياسة، وطرح المزيد من الأسئلة ووضع الكثير من علامات الاستفهام السياسية ومتلازماتها البسيطة والمتمثلة في المطالبة بالخبز والحرية والكرامة التي أججت من حدتها ثورة الانترنيت، وسرع من وثيرتها الفيسبوك والتويتر، وعجل نضوجها واكتمال ثورتها اليوتوب إلى جانب باقي وسائل الاتصال الحديثة التي كونت لدا أغلبية الناس قناعة، بأن هؤلاء الفقراء الذين كانوا إلى زمن قريب، مجرد أشباح جائعة مهمشة مهملة لا تعني أي شيء لأي كان، ولا تدخل في حسابات الأنظمة، ولا في ميزانيات أولئك الذين ألفوا العبث بمصائر ومقدرات الشعوب العربية منذ أن حصلت هذه الشعوب على استقلالها، هم دينامو تحريك الغضب اللازم لقهر الخوف، وبعث الشجاعة القمينة بتحقيق التغيير/الثورة، والدفع بالشباب إلى الشوارع لمواجهة غول السلطة القمعية وزبائنها الساديين، للمطالبة بحياة تليق بإنسان القرن الحادي والعشرين..حياة مفعمة بالرفاه والحرية والمساواة، فمن يتمتع بأدنى درجة من الرؤية المنصفة، يرى أن الثورة التي يعيشها العالم العربي اليوم لا تخلو في حقيقتها من غرابات طريفة مبهمة، ومفارقات عجيبة غير مفهومة، ولعل أول تلك الغرابات هو كون ما حدث في تونس، هي أول ثورة عربية شعبية تحدث بعد نحو قرن من الصمت ومصادرة الحقوق والمبادئ وعجزت ضد الأنظمة التي عجزت عن تأمين أبسط متطلبات الشعوب الغنية بطاقاتها وشبابها ومصادرها وثرواتها. وثاني الغرابات، هو انطلاقها من شرارة انبعثت من احتراق جسد أحد الباعة المتجولين الجامعيين الفقراء بعد مصادرة عربة خضراواته، لتتحول إلى قبس ينير ويضيء طريق التحرر في باقي البلدان المجاورة الأخرى كمصر والجزائر واليمن، ويبعث الرعب في الكثير من الأنظمة والحكومات العربية الأخرى التي يعتمد معظم حكامها، وبكل أسف، سياسة التخويف والتجويع، على افتراض وأساس أنه السبيل الكفيل بالحد من تطلعات الفقراء وتقزيم طموحاتهم.. أما أعجب المفارقات وأغربها غير المفهومة التي ويقف المتتبعون أمام حقيقتها، مشتتي الأذهان تائهي الأفكار، هو ذاك الكرم الحاتمي الفجائي الذي "طاح" وانهال فجأة على رؤساء وحكام الأنظمة والحكومات العربية ورموزها التي كانت إلى حين قريب بين المن والبخل على شعوبها بكسرة خبز حافية، أو بنسمة ديمقراطية ولو شكلية، فمن أين خرجت كل تلك الأموال والمساعدات والعطايا لتقدم هكذا، على من كان إلى البارحة، يتوسل بالركوع والدعاء علّهم يفيضون عليهم بالبركات؟ وهل هي هداية من العالي القدير، أحيت الضمائر فجأة وبالجملة؟ أم هو الخوف من الفقراء، وقود كل الثورات ومعولها الأقوى المحطم لكل القيود والمخلص للمستضعفين من قبضة الجبابرة والمستهترين.. نعم إنه الرعب الذي ركب المستبدين المتسلطين على الشعوب، فأرغم أكثرهم على الاعتراف بالذنوب، كما فعل بن علي في سابقة، بعد أن أرغمه الذعر على مخاطبة الشعب التونسي للاعتراف بعدم إحساسه بالمسؤولية نحو معاناة شعب حكم أكثر من ثلاثة وعشرين عاما، حين قال: "فهمتكم، فهمتكم" لكن فهمه، مع الأسف، جاء متأخرا عن رسالة بوعزيزي التي كانت أكثر وضوحا وأقوى صدقية وتأثيرا، لأنها نابعة من قلب وجسد كابد ما يعيشه عامة الشعب من حاجة وخصاص. أو كالذي أقدم عليه حسني مبارك تحت ضغط الاحتجاجات الشعبية التي عمت متخلف محافظات الجمهورية للمطالبة برحيله، فخاطب الشعب المصري ، وتعهد مرغما، بعدم السعي للترشح لولاية جديدة، وإدخال تعديلات دستورية، وتنصيب نائب له، والتخلي عن سياسة التجويع والتركيع والظلم، والعمل على تخليص الملايين من الجياع وتخصيص الملايين من الجنيهات لإشباع من جاع من شعبه. ولم يكن بن علي ومبارك وحدهما من لجأ من الرؤساء إلى التهدئة، بل هناك العديد من الأنظمة والحكومات التي نحت نفس المنحى، فتقدمت بالعروض والإغراءات لمن كان إلى الأمس القريب، مجرد أرقام مهمشة مهملة لا تعني أي شيء لأي كان، لا تدخل إلا في حسابات وسجلات دفن الموتى وإحصائيات الجوع والفقر والمرض والكوارث. حيث أنه بعد ساعات من خطاب الرئيس المصري حسني مبارك، وعقب أسبوعين من التظاهرات الحاشدة المطالبة بتخلي الرئيس اليمني علي عبد الله صالح عن الحكم، وقبل موعد التجمع الحاشد الذي أطلق عليه اليمنيون ، "يوم الغضب" خاطب الماريشال صالح -الذي يحكم اليمن منذ أكثر من ثلاثة عقود- الشعب اليمني واعدا الجماهير الثائرة والغاضبة بمزيد من الدعم الحكومي وزيادات في الرواتب وتخفيضات في أسعار السلع، متعهدا هو الآخر بعدم السعي للترشح لولاية جديدة، أو توريث السلطة لابنه وإدخال تعديلات دستورية، تنص على تداول للسلطة وإنهاء احتكارها. ونفس الشيء قام به النظام الجزائري حين أمر حكومته بفك الحصار على أقوات الشعب، وإجراء تخفيضات على السلع الأساسية ودعمها إلى جانب وعده برفع حالة الطوارئ المفروض مند 1992سنة. ومن أطرف المفارقات وأغربها، ما جاء في الخطاب الجماهيري الحاشد غير المسبوق الذي ألقاه عمر البشير بمدينة الدامر عاصمة ولاية نهر النيل والذي قال فيه إنه لن ينتظر أن يقول له الشعب "غادر"، وأنه لا يخشى انتفاضة السودانيين عليه، وأنه في حال حدوث ثورة شعبية مماثلة لتونس، فإنه سيخرج لشعبه ليرجمه بالحجارة، وتعهد "البشير" في نفس الخطاب، بزيادة دعم السلع تدريجيا ومصاحبة ذلك بزيادة الرواتب والمعاشات ودعم الأسر الفقيرة، ووعد بإحداث ثورة تنموية شاملة مع توفير الخدمات للمواطنين والاهتمام بالطفرة الزراعية.. كما أعلن الديوان الملكي الأردني عن قرار فاجأ مختلف الأوساط السياسية، تمثل في إقالة الملك عبد الله الثاني لحكومة سمير الرفاعي التي تواجه منذ فترة مطالبات شعبية بإقالتها، وكلف خلفا له رئيس الوزراء السابق عضو مجلس الأعيان معروف البخيت بتشكيل حكومة جديدة، مهمتها "اتخاذ خطوات عملية وسريعة وملموسة لإطلاق مسيرة إصلاح سياسي حقيقي يعزز الديمقراطية ويحقق الإصلاح الاقتصادي. حسب وكالة الأنباء الأردنية (بترا).. وليست البلدان الأخرى بمنأى عن الأحداث الجارية في المنطقة العربية والمغاربية، حيث نجد أن أكثريتها قدمت تطمينات ووعود بتخفيض الأسعار أو عدم رفعها، على الأقل، كما فعلت الحكومة المغربية مؤخرا حين أبدت عزمها على الاستمرار في دعم المواد الأساسية، مثل الطحين والسكر والزيت وغاز البوتان، لمنع ارتفاع أسعارها، كما جاء ذلك في تصريح وزير الاتصال خالد الناصري الناطق الرسمي باسم الحكومة الذي ذكير بأن تلك الإجراء لم تتخذ تحت تأثير الثورة التونسية التي أطاحت بالرئيس زين العابدين بن علي، حيث قال يوم الخميس 3 فبراير 2011، بالرباط: إنه يتم التعامل مع دعوات للتظاهر عبر الأنترنت "بكثير من الإطمئنان على أساس أن هذا أمر عادي وطبيعي بالنسبة للمغرب، وأضاف خلال لقاء مع الصحافة عقب انعقاد مجلس الحكومة برئاسة الوزير الأول، "نحن متعودون على ذلك انطلاقا من أن المغرب فتح فضاء ممارسة الحريات منذ سنوات عديدة. وفي معرض رده على سؤال حول ما يتداول عن دعوات موجهة عبر الأنترنت لتنظيم تظاهرات احتجاجية قال: أن كل ما من شأنه أن يسمح للمواطنين بأن يعبروا عن آرائهم، لا يزعجنا طالما أن الأمور تتم في نطاق احترام الضوابط والتقيد بالدفاع عن المصلحة العليا لبلادنا" وخلص إلى أنه ليس هناك ما من شأنه أن يمس بهذه الضوابط التي نؤمن بها جميعا". بينما تعاملت بعض الدول الأخرى مع الأحداث، بتكثيف الاستعدادات لقمع أي تحرك أو انتفاضة تطالب بالحقوق، كما علم ذلك عن ليبيا والسعودية اللتان زادتا من اقتناء الكثير من أسلحة ودبابات خاصة بمواجهة التظاهرات وقمع الانتفاضات.. ومما لاشك فيه، أن هذه التحركات الشعبية الأخيرة التي انطلق ماردها من قمقمه من تونس الحالمة، بعد فترة ركود وسبات دامت عقودا طويلة من الزمن، بسبب حرق بوعزيزي لجسده، والتي عم لهيبها البلدان الأخرى،هي السبب الأساس في تعاطف كل الحكام مع من يحكمون من الفقراء والمقهورين، ووراء ذاك الكرم الحاتمي الذي يعد سلوكا غريبا عن عالمنا، و لم يكن أبدا نتيجة لحب هذه الشعوب المقهور فقرائها، إنه الخوف من الغضب من هؤلاء الفقراء، وبغية احتواء احتقانهم العام الذي ساد الشارع جراء سياسات التجويع والإفقار والنهب المنظم لثروات البلاد الذي تنهجه الطبقة الحاكمة مند عقود. إنها عدوى فيروس انتصار الثورة التونسية، الذي أصاب كل من مصر واليمن والجزائر، وستصيب لامحالة غيرها كثير، لأن مارد الصورة- على ما يبدو - شديد الوقع على الظالمين وأعوانهم، وقد خرج من قمقمه، عاقدا العزم على ألا يعود إليه، رغم كل محاولات الأنظمة بشتى الطرق والوسائل لتحطيم ثورته، إلا بعد أن حقيق أهدافه في الحرية الخالصة والعدالة التامة والمساواة الكلية بين الناس والشعوب التي فقدت ثقتها في سياسات الدول والحكومات المفتقدة للجدية والمستخفة بعقول الناس المؤدية إلى تراكم الإحباطات. لقد تصور بعض النفعيين الانتهازيين الذين لم تتجاوز نظرتهم جيوبهم ومصالحهم، أنهم يستطيعون بإقدامهم على الإصلاحات الشكلية سيمتصون حنق المضطهَدين المسلوبة أموالهم وخيرات بلدانهم، والمداس على حريّاتهم وكراماتهم، عبر عقودٍ طويلة،و أنهم سيسبغون بذلك على أنفسهم صفة الجدية والوطنية والتفاني في العمل من أجل هذا الوطن ورفعته والارتقاء به، بينما هم في حقيقة الأمر يفضحون ويكشفون لشعوبهم عن حقيقتهم التي أخفوها زمنا طويلا، ولا يعملون إلا إلى تهدئة الأوضاع ليعودوا إلى ما استمرؤوه.. فالمشكلة ليست في غلاء الأسعار أو رخصها، -التي لا تختلف الشعوب على الحاجة إليها دائماً وأبداً- فالقضية أكبر من ذلك، لأنها تتعلق كليا بحاجة هذه الشعوب إلى صياغة معادلة سليمة ترتقي بواقعهم السياسي والاجتماعي والاقتصادي من خلال وجود شراكة حقيقة في صياغة القرار، تعتمد الحوار الذي يستمع خلاله الحكام لشعوبهم من دون استعلاء ومن دون غضاضة ويأخذوا برأيهم من دون أن يستنكفوا أو يستكثروا عليهم حقهم ذاك. فما تحتاجه الشعوب العربية والمغاربية اليوم هو وقفة حكيمة وعاقلة تراجع الحسابات بشكل أكثر جدية وصدقية من أجل القيام بتغييرات جذرية وسريعة في أنماط التفكير الجامدة والخروج من دائرة الخوف من الشعوب التي لا يمكن الاستغناء عنها أو تجاوزها لأنها هي الرأسمال الحقيقي للأوطان وهم أرضية أية انطلاقة نحو تحقيق التنمية والنهوض الحضاري.. هذا التغيير يستدعي تغييراً في السلوك السياسي والثقافي والإعلامي وبناء نظام سياسي يهدف للارتقاء بالناس والوطن وعياً وأخلاقاً وسلوكاً يتساوى فيه الناس، ويستطيع أن يكون قوة جاذبة ومحفزة للطاقات وليس قوة منفرة أو ضاغطة أو محبطة.