قراءة في الخطاب السياسي للثورة شهد الخطاب السياسي للرؤساء المخلوعين بعيد اندلاع ثورة الربيع العربي تحولا كبيرا وطفرة نوعية، فظهرت مفردات سياسية لم تكن يوما تنتمي إلى القاموس السياسي العربي.ان المتأمل في الخطاب السياسي الذي تبناه الحكام العرب ابان الثورة يلاحظ اتفاقهم على الغرف من نفس القاموس واستعمال نفس المصطلحات السياسية.لكن لاغرابة في هذا الأمر فكلهم تخرجوا من مدرسة الاستبداد، وأتقنوا فن الضحك على أذقان الشعوب والاستهتار بمصائرها,ونهب ثرواتها والعبث بمقدراتها الوطنية.ظهور هذه المصطلحات بين ثنايا الخطاب السياسي لم يكن ليعكس تغيرا حقيقيا في أبجديات الممارسة السياسية لهؤلاء الحكام الذين أدمنوا الاستبداد,والذين جاءت الثورة لتخلص رقاب الشعوب من قبضتهم,بقدر ما كانت جزءا من إستراتيجية خطابية تروم استمالة الرأي العام وكسب وده بعدما أيقنوا أن الشعوب نفرت منهم وطلقت نفسها منهم طلاقا خلعيا بعد عهود عقيمة وكارثية من زواج المتعة الذي استمتع فيها الحكام بكل مباح وغير مباح، بينما حرمت الشعوب من ابسط حقوقها المشروعة. في الوقت الذي كانت أجهزتهم الأمنية تقتل شباب الثورة المسالمين في كل ساحة وميدان كان الحكام يستثمرون الخطاب السياسية جبهة أخرى للدفاع عن كراسيهم التي ارتجت من تحتهم في الأيام الأولى للثورة مستعملين في ذلك كل استراتيجيات الخطاب في التمويه والتأثير. في الخطابات الأولى خلال الثورة لجأ بن علي ومبارك والقذافي إلى استراتيجية التخويف والترهيب، وهي من أهم استراتيجيات التأثير والتلاعب manipulation في الخطاب السياسي، والغاية منها استمالة مشاعر المواطن وإثارة نزعة الخوف لديه وإظهار السلطة القائمة بمظهر مصدر الأمن والطمأنينة، وبالتالي الانحياز إلى صفها. من هذا المنطلق رأى بن علي أن الثورة "وراءها أياد تحث على الشغب ". أما مبارك فرأى أن مظاهرات الشباب المسالمين في ميدان التحرير "تهدد النظام العام والسلام الاجتماعي،ولا يعلم احد مداها وتداعياتها". وبنفس الخطاب خرج القذافي ليعتبر أن الثوار ليسوا إلا "جرذانا...ومأجورين تدفع لهم مخابرات أجنبية" في إحالة منه على نظرية المؤامرة التي طالما استعملت ذريعة للتآمر على الشعوب. إن اختيار مفردات من قبيل "الشغب، المنحرفين، العصابات، تهديد النظام"، بالإضافة إلى بثها الخوف في وجدان المواطن العادي، فإنها تهدف إلى تشويه صورة الثائرين، وتصويرهم على أنهم ثلة من الخارجين عن القانون والعاقين للحاكم. الإستراتيجية الثانية التي تبناها الخطاب السياسي خلال فترة الثورة تجلت في تصوير الحركة الشعبية على أنها حراك اجتماعي ليس إلا، وان الثورة إنما هي ثورة جياع، وليست ثورة من اجل الكرامة والحرية والحقوق السياسية. على الرغم انه لايمكن إغفال حقيقة أن الوضع الاجتماعي المأساوي الذي أوصلت إليه هذه الأنظمة شعوبها كان وراء التعجيل بالثورة، فان المستهجن هو اختزال الثورة في مطالب الخبز والحليب، كما جاء في خطاب بن علي حين وعد "بتخفيض في أسعار المواد والمرافق الأساسية كالسكر والخبز والحليب" وكأن الحشود التي خرجت ثائرة على الطغيان والقمع ما خرجت إلا طلبا لكسرة خبز يقذف لها بها الطاغية، تسد بها رمقها، لتعود بعدها إلى تجرع كاس الاستبداد في صمت. وقد نسي ابن علي انه ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان. عبارات مبارك لم تشد عن القاعدة حيث اطل على شباب الثورة واعدا "بتحسين المعيشة ومكافحة الفقر" بين عشية وضحاها وهو الذي أفقر مصر وشعبها، وكدس ترواثها في أيدي أبنائه وطغمة من حاشيته. وعلى المستوى المعجمي فان استعمال مفردات مثل "السكر والخبز والحليب والفقر و المعيشة" في الحديث عن الثورة، التي كانت معالمها وأهدافها قد تحددت وبدأت تهتف بإسقاط النظام، فالهدف من ورائه تحويل الثورة عن مسارها الحقيقي واعتبارها احتجاجا اجتماعيا، مادام هذا الأخير بات يعتبر أمرا معقولا ومقبولا في الظرف الذي يعيش فيه العالم كله ركودا اقتصاديا واحتجاجات اجتماعية حتى في اغنى دول العالم، ومن وراء ذلك ايضا الحفاظ على الصورة الخادعة للنظام السياسي المستقر والثابت. الاستراتيجبة الثالثة التي عمل عليها الخطاب السياسي في السياق السياسي للثورة العربية تمحورت حول الاعتراف بالمشروعية، مشروعية التظاهر والاحتجاج وحرية التعبير. أخيرا وبعد اندلاع الثورة، وتجاوز الحشود عقدة الخوف، وفشل الأمن في إخماد الحراك الشعبي، رغم إبداعه في وسائل القمع والتنكيل التي تنوعت بين الرصاص و دهس المواطنين بالسيارات المدرعة في مشاهد سريالية، بعد كل هذا أصبح بن علي يرى بأنه "لا بأس حزب أو منظمة يريد تنظيم مظاهرة سلمية". أما مبارك فقد وعد بأنه سيتمسك "دائما في الحق في ممارسة حرية الرأي والتعبير" . هذه الأنظمة التي حكمت شعوبها بقانون الطوارئ، وقوانين الإرهاب، وكل القوانين التي تمنحها الحق في كتم الأنفاس، أصبحت بين عشية وضحاها تؤمن بحرية التعبير، وتضمن الحق في التظاهر السلمي. يضيف بن علي بان " الاحتجاجات السلمية المشروعة لا أرى مانعا فيها" وهو الذي زرع بوليسه السياسي في كل مفاصل الدولة والمجتمع، على نحو ماكانت تعمل الأنظمة الفاشية في بدايات القرن الماضي. مع تقدم الثورة وإدراك هؤلاء الرؤساء أن هذه الشعوب لم تخرج لتطلب خبزا، بل لتنشد خلاصها وحريتها، أخد الخطاب السياسي منحى أخر، ودخلت مصطلحات جديدة ظلت إلى عهد قريب غريبة عن القاموس السياسي العربي. لم يعد الحاكم يخاطب شعبه كقطيع من الجياع، بل كمواطنين يطلبون حقوق سياسية حرموا منها عقودا من الزمن. يتجلى هذا في خطاب "فهمتكم" لزين لعابدين بن علي الذي وعد فيه "بمزيد من الحريات"وأضاف "راني باش نعمل على دعم الديمقراطية". يأتي هذا بعد سنين من حكم الحزب الواحدٍ، والحاكم الأوحد. تكرر نفس الخطاب مع مبارك، الذي أدرك متأخرا أن التظاهرات التي وصفها من قبل بانها "تهدد الأمن والسلام الاجتماعي "جاءت لتعبر عن تطلعات مشروعة لمزيد من الديمقراطية". واللافت في هذين المقطعين التركيز على عبارتي "مزيد من الديمقراطية" و"دعم الديمقراطية" في محاولة للإيهام بان هذه الشعوب كانت تنعم بالديمقراطية قبل الثورة، والمطلوب اليوم هو فقط اللمسة الأخيرة ليكتمل المشهد الديمقراطي في هذه البلدان التي لم تستأنس يوما بهذا الكائن السياسي الغريب عنها. لما نضجت الثورة وأدرك الطغاة أن الشعوب خرجت تطلب رحيلهم لجئوا إلى إستراتيجية مركبة تمثلت في الاستنجاد الغير مباشر، عن طريق التذكير بأمجادهم الوهمية، وما زعموا أنهم أسدوه لأوطانهم . خرج بن علي يمن على وطنه بقوله " فديت خمسين سنة من عمري في خدمة تونس". خمسون سنة يعلم التونسيون انه قضاها في مراكمة السلطة والمال الذي لم تمهله الثورة الوقت لتهريبه، ففر دون أن يتمكن من إفراغ خزائن قصوره منه. أما مبارك فقد أفاض في تعداد مناقب نفسه، قائلا بأنه قضى"ما يكفي من العمر في خدمة مصر وشعبها" ومذكرا بمبالغة مكشوفة بأنه " أمضى حياته من اجل الوطن سلما وحربا" و "أفنى عمرا من اجل الدفاع عن أرض مصر وسيادتها" جاعلا من نفسه بطلا قوميا، في محاولة لتضخيم الذات المهزومة. أما المكون الثاني لهذه الإستراتيجية فتمثل في ادعاء العزوف عن السلطة، وعدم طلبها، والزهد فيها. فبعد قضاء أكثر من ربع قرن في حكم تونس، وتغيير الدستور مرات عديدة ليتسع ثوبه للتأبيد، وتجريف الساحة السياسية، فجأة ظهر بن علي ليدعي انه "لارئاسة مدى الحياة"، وردد بعده مبارك، مع نفحة أخلاقية مزعومة "لم اسع يوما إلى سلطة زائفة" مضيفا " بصدق لم أكن انتوي الترشح لفترة رئاسية جديدة". ربما يكون مبارك جادا في قوله هذا لأنه بات يدرك أن وضعه الصحي لم يعد يحتمل، لكنه كان سيسعى إليها من اجل نجله قصد توريثه. وقد كان قد قطع شوطا مهما في هذا الاتجاه، حيث دفع به في سنوات قليلة إلى مواقع متقدمة في الحزب الحاكم تمهيدا لاستلامه السلطة بطريقة ما، مؤسسا بذلك لأول جملوكية في تاريخ مصر. هذه الاسراتيجية الأخيرة امتدت إلى الخطاب السياسي للقذافي أيضا، لكن مع لمسة من التميز الساخر الذي عودنا عليه العقيد، حيث رأى أن "معمر القذافي ما عندو منصب ... وليس رئيسا" . والواقع أن القذافي، عن وعي منه أوعن غير وعي، كان يعبر عن واقع الحال. فالسلطات التي منحها لنفسه واستفرد بها مع أولاده لم تكن لتمنح لرئيس أو زعيم. فحتى غاندي ومانديلا وغيرهم من الزعماء لم يحضوا بامتيازات من دون شعوبهم. لقد جعل القذافي من ليبيا مرتعا لأفكاره الهلامية و نظرياته السياسية الغريبة الأطوار. يوما يوجهها نحو الشرق، ويوما نحو الغرب، ويوما نحو إفريقيا، ويوما نحو أمريكا اللاتينية، في ارتجال وعربدة سياسيين عز نضيرهما في العالم. لم تتمكن الثورة العربية من تغيير المشهد السياسي وحسب، بل بتغييره ستغير أيضا مفردات المعجم السياسي، وستدفن إلى الأبد مصطلحات التأبيد والتوريث، وتفتح معجما سياسيا جديدا أهم مداخله الديمقراطية، حرية التعبير، الانتخاب والتداول السلمي للسلطة.