ما أن تندلع ثورة أو مسيرة احتجاج في العالم العربي إلا وترتفع الأصوات بأنها تقليد لما جرى في تونس وبالتالي تكون التوقعات بنتائج سريعة متشابهة.صحيح أن التقليد أو التأثير المتبادل لا يمكن إسقاطه من الحسبان في ثقافة عربية إسلامية تجمعها كثير من القواسم المشتركة كالانتماء القومي والديني التي تشكل حوافز مشتركة وكذا وحدة الحال سياسيا واجتماعيا بالإضافة إلى المشاعر والأحاسيس بل والغيرة الإيجابية وصحيح أن شروط وإرهاصات الثورة في العالم العربي كانت متواجدة بقوة وإلا ما كانت الثورة بهذه القوة والسرعة وانتشار النار في الهشيم بحيث تسقط زعماء خلال أيام،إلا أن خصوصيات تميز كل دولة عربية عن غيرها. كان لا بد للانفجار أن يحدث وينتشر في أكثر من بلد عربي لأن كل الشعوب العربية تخضع لأنظمة غير ديمقراطية وتعاني من الفقر والبطالة والحد من الحريات ومن تدهور على كافة الأصعدة: في التعليم والصحة والتكنولوجيا ،وكلها تشهد غياب للعدالة الاجتماعية،ولكن لم يكن أحد يتوقع أن يكون الانفجار بالشكل السلمي والحضاري الذي جرى في تونس ومصر.كانت الأنظمة تتوقع أن تلجأ جماعات مسلحة لتغيير الأوضاع عن طريق العنف والعمليات التفجيرية والتخريبية كالتي شهدتها الجزائروتونس ومصر والمغرب والسعودية،فحشدت مئات الآلاف من عناصر الأجهزة الأمنية لمواجهة جماعات مسلحة هنا أو هناك، ولكنها لم تحسب حسابا لحدوث ثورة شعبية تشمل كل المدن لأنها لم تكن تحترم شعبها أو تثق به وكانت تنظر له نظرة دونية باعتباره جموع من الجهلة والجياع والباحثين عن مصالحهم الضيقة بدون وعي سياسي او إحساس بالمسؤولية،وعندما تحرك الشباب ،والشباب يمثل غالبية الشعب، تفاجأ الحكام ونخبتهم وارتبكت الأجهزة الأمنية ووقفت عاجزة أمام الثورة.صحيح أن واشنطن طالبت أنظمة عربية بإدخال إصلاحات سياسية خوفا من أحداث عنف متوقعة ،ولكن حتى واشنطن لم تكن تتوقع حدوث ثورات شعبية بالحجم الذي جرى .لقد أدركت القوى الخارجية وخصوصا واشنطن قوة وخطورة حالة الاحتقان الجماهيري وخصوصا في بلد كمصر وخطورة حدوث حالات عنف وتمرد ،إلا أن توقعاتها لم تصل لدرجة حدوث ثورة شعبية تزعزع مرتكزات الوضع القائم،كانت تتوقع أو تراهن على حروب طائفية أو إثنية ،أو عمليات مسلحة تمارسها بعض الجماعات الدينية،ولذا فإن واشنطن اتخذت خطوات استباقية تنطلق من رؤيتها السابقة لمصدر الخطر الذي كان يختلف من دولة لأخرى،كان ضمان ولاء الجيش لواشنطن والغرب أهم إجراء استباقي. وجود المشترك المشار إليه بين الدول العربية لا يخفي وجود خصوصيات تميز كل بلد عن غيرها وبالتالي فسيرورة وصيرورة الثورة قد تأخذ مسارات مختلفة ،ونعتقد أن المفاجئة والعفوية كانا أهم ما ميز الثورة التونسية عن غيرها وهو ما لم يتوافر في الثورات اللاحقة التي تم التخطيط والتهيئة لها،والتخطيط والتهيئة قد يكونا عناصر سلبية في الثورات الشعبية.في تونس جرت الثورة بداية بدون تخطيط وبعفوية وبسرعة ومع قليل من الدم والخراب،وفي مصر حدثت خسائر وسقط ضحايا ولكن تم استيعاب الثورة من قبل الجيش بسرعة لاعتبارات خاصة بمصر،مصر الشعب ومصر الدولة ومصر المكانة الدولية ،ولكن ليست كل الدول العربية لها خصوصيات الحالة المصرية،مصر كانت تعاني من أزمة نظام سياسي وليس أزمة دولة ،فالدولة المصرية قديمة ومتجذرة وغير مهددة بوجودها كوحدة واحدة –بالرغم من ارتفاع أصوات قليلة تتحدث عن دولة للأقباط – .لكن هناك دول عربية مأزومة تاريخيا كدول وليس فقط كنظام سياسي لاعتبارات سياسية أو طائفية أو قبلية،وجاءت أزمة النظام السياسي والسلطة لتكشف أزمة الدولة التي هي أخطر من أزمة النظام السياسي.عندما تخرج الجماهير في دولة تعيش أزمة دولة فإمكانية توظيف الثورة الشعبية من طرف قوى طائفية أو إثنية أو قبلية أو خارجية تكون كبيرة،ومن هنا يجب عدم وضع كل التحركات الشعبية في سلة واحدة . عندما تتأزم الأوضاع المعيشية والحياتية والسياسية تصبح الثورة واجبا وحقا وضرورة،ولكن يجب عدم المبالغة بالتوقعات التي تقول بصيرورة كل ثورة عربية إلى سقوط رأس النظام أو النظام بكامله وتحقيق الديمقراطية والعدالة الاجتماعية ،فهناك خصوصيات تحكم كل بلد عربي وهناك قوى معادية للتغيير تختلف قوتها من بلد لبلد حسب الموقع الاستراتيجي للدولة العربية وحسب المصالح الأجنبية في هذا البلد وحسب موقف دول الجوار،أيضا ليست كل الدول العربية على نفس الدرجة من حيث التجانس الطائفي والإثني ،ففي بعض البلدان العربية توجد ثقافات مضادة كامنة تتحين الفرصة لتتمرد على الدولة ولتثبت حضورها كحالة كيانية قائمة بذاتها. قد يسقط رأس النظام ويبقى النظام السياسي،وقد يسقط رأس النظام والنظام ويقوم محله نظام أسوأ،وقد يسقط النظام ويتحول لأنظمة وكيانات.وعي الشعب والقوى الثورية المؤمنة بالديمقراطية ضمان عدم انزلاق الثورة نحو الفوضى . وجود خصوصيات لكل بلد عربي وافتقار الثورات لعنصري العفوية والمفاجئة كما كان الأمر في الثورة التونسية يُفقد الثورات اللاحقة زخمها و يُصعِب المأمورية على الثوار،فأعداء الثورة سيتهمون الثوار بأنهم مقلدون لغيرهم ،كما أن الأنظمة العربية منذ الثورة التونسية اتخذت إجراءات أمنية وسياسية واقتصادية استباقية.عندما تندلع الثورات ستتداخل المطالب المشروعة بالحرية والديمقراطية ورفض الدكتاتورية والاستبداد مع مطالب أو تطلعات سابقة لجماعات طائفية أو قبلية أو عرقية ،الأمر الذي يُولج الثورة في متاهات خطيرة وقد يحرفها عن مسارها إن لم تتصدى القوى الوطنية العقلانية لتوجيه مسار الثورة . ففي تونس لم تستقر الأوضاع بعد وفي مصر لم تجر الأمور كما جرت في تونس حيث كان الرئيس مبارك أكثر تعنتا واتسمت الثورة بدموية أكثر وحتى الآن من السابق لأوانه القول أن الثورة المصرية أسقطت النظام ،فمبارك تخلى عن منصب رئيس الدولة فقط وهو مازال يعيش في مصر حرا طليقا والجيش الذي هو العمود الفقري للنظام يحكم البلد ،ولكن هناك مراهنة على انتخابات قادمة تغير الأمور بشكل تدريجي.ثم جاءت الثورة في البحرين لتأخذ بعدا طائفيا حيث تفاوتت المطالب ما بين الدعوة لملكية دستورية إلى المطالبة بإسقاط حكم الأقلية السنية،مما يُدخل الحالة في البحرين في إطار أزمة الدولة بل أزمة وجود الدولة حيث يجب أن لا يغيب عن الأنظار إدعاءات إيرانية بأن البحرين جزء من إيران.وفي ليبيا تأخذ الثورة سياقا مختلفا،فالقذافي الذي حكم ليبيا حوالي 42 وربط كل شيء بشخصه مدمرا ومهمشا الأحزاب والنقابات وكل مؤسسات المجتمع المدني بل وحتى المجتمع السياسي المنظم ،يواجه الثورة بدموية غير مسبوقة ليس فقط في الثورات العربية بل في التاريخ ،وإن كان الشعب الليبي يتحمل جزءا من المسؤولية لأنه قَبِل أن يحكمه رجل معتوه ومهرج لأربعة عقود إلا أن الغرب يتحمل المسؤولية الأكبر لأنه صمت على حكم القذافي مقابل حصوله على النفط. الثورة الليبية تواجه دكتاتورا معتوها ومجرما لم يتورع عن نعت الشعب الثائر بالجرذان والحشاشين والمهلوسين أو أنهم عملاء بن لادن والزرقاوي وواشنطن، ولم يتورع عن قصف شعبه بالطائرات وتسليط المرتزقة الأفارقة ليروعوا الشعب ،والأخطر من ذلك انه يلعب لعبة قذرة وهي لعبة القبائلية حيث يحرض قبيلة على أخرى ويهدد بتقسيم ليبيا مجددا على أساس قبائلي،وما نخشاه أن تتقاطع مصالح القذافي مع مصالح الغرب،بمعنى أن يصمت الغرب على تقسيم ليبيا وعلى جرائم القذافي إن سارت الأمور نحو تقسيم ليبيا مع وتأمين تدفق النفط . أما بالنسبة لليمن فهي خليط من أزمة ديمقراطية ونظام سياسي حيث يطالب الشعب بالحريات وبإنهاء حكم على صالح ووقف مهزلة التوريث، و لكنها أيضا أزمة دولة تتمثل بالطائفية الدينية كما تعبر عنها علاقة النظام بالحثيين،وأيضا أزمة دولة تتمثل بالقبائلية ،وأزمة دولة تتمثل بالحراك الجنوبي ومطالبه بانفصال الجنوب عن الشمال.وبالتالي إن كنا نتمنى أن تنجح الثورة في اليمن في تأسيس نظام ديمقراطي إلا أن تخوفات تنتابنا على وحدة اليمن واستقراره .ويمكن أيضا تعميم الأمر على حالات أخرى فثورة في الأردن قد تتجاوز المطالب بالملكية الدستورية والإصلاحات لتتداخل مع القضية الفلسطينية ومأزق التسوية وإحياء الخيار الأردني، وثورة شعبية في لبنان قد تأخذ طابعا طائفيا ،وفي دول خليجية يمثل الأجانب حوالي ثلثي السكان فإن حدوث أية أزمة مالية قد يؤدي لثورة الأجانب على أهل البلد،وربما تقوم أطراف خارجية بتحريضهم على الثورة للضغط على الأسر الحاكمة،الثورة المتوقعة في بعض الدول الخليجية ستكون ثورة الأجانب على أهل البلد بما يذكرنا بثورة العبيد في روما قبل الميلاد عندما قاد سبارتاكوس عام 72 ق.م العبيد في ثورة هددت بسقوط روما . وأخيرا نقول بأن الثورات الشعبية العربية ظاهرة نبيلة وتشعرنا بالفخر وستكون لها تداعيات إيجابية إن لم يكن حاضرا فمستقبلا ،ولكن يجب الحذر من نقطة تتقاطع فيها حالة الثورة مع سياسة الفوضى الخلاقة التي تريدها واشنطن،فوضى تؤدي لتفكيك الأنظمة القائمة لإعادة بناءها ،ليس على أسس ديمقراطية كما تريد الشعوب العربية بل على أسس طائفية وإثنية وقبلية كما تريد واشنطن والغرب .ولتجنب هذا المنزلق أو التوظيف المشبوه لثورة الشعوب العربية ،على القوى الوطنية الديمقراطية في كل بلد عربي أن تنظم وتوحد جهودها بسرعة وأن تقطع الطريق على كل من يريد سرقة الثورة أو حرفها عن طريقها.إن أي تراخ في مطلب الوحدة الوطنية والترابية للدولة أو في مطلب الحرية والديمقراطية ودولة القانون ورفض الدولة الدينية،سيُدخل البلاد في حالة من الفوضى و عدم الاستقرار.الجماهير الغفيرة التي خرجت للشارع منفعلة هائجة ستعود لبيوتها وستستلم شخصيات وقوى سياسية مقاليد الأمور،على هذه الشخصيات والقوى تقع مسؤولية استكمال الأهداف المتعددة للجماهير والتي يمكن تلخيصها بمطلبي الحرية والعدالة الاجتماعية في إطار وحدة الشعب والدولة. 25/02/2011[/align]