رغم أن وتيرة التقدم التقني والانتشار الواسع والسريع للوسائل والأجهزة الحديثة، خاصة الالكترونية، غيرت من استعدادات المجتمعات غير المصنعة وأشكال تقبلها وتلقيها والتفاعل مع الابتكارات والوظائف التقنية والثقافية المرتبطة بها، حيث تقلصت درجة الغرابة رغم ما تحمله أحيانا من مستوى اختراعي ووظيفي مذهل، فإن آلية التكييف والتحوير وإعادة ترتيب العلاقة مع الحديث التقني لازالت نشيطة، وتثير صور وتمثلات المتخيل حول الخارق وحول رمزيته وحاجياته، كما يبدو من خلال إقحام التقنية والأدوات الجديدة في مناخ من الوظائف والممارسات المغايرة والمناقضة أحيانا لروحها وإطارها الثقافي والعقلاني. فهل يتعلق الأمر بشكل للمقاومة أمام جبروت التقنية وصدمتها، أي الاحتماء في المتخيل الرمزي للتخفيف من صدمة العقل التكنولوجي، أم هي مجرد ردود تقليدانية للعقل والمجتمع المتخلفين أمام إنتاجات وتحديات نظيريهما المتقدمين؟ إن أشكال وكيفيات تشكل هذه المقاومة والتحوير تتجلى عبر عدة ممارسات وصور اعتيادية، فإضافة الى السلوكات الاعتيادية التي تثير السخرية كامتلاك مشعوذ أو ساحر لجهاز كومبيوتر وتقديم خدماته على موقع وشبكة الانترنيت، وتوظيف الطابعة وآلة التصوير والسكانير... والتكنولوجية الحديثة التي هي ثمرة العقل العلمي المتطور، في طقوس واستعمالات مرتبطة بإيقاع ثقافي متأخر عن الزمن التكنولوجي، ينبغي تأمل كيف عجزت الوسائل التقنية الحديثة التي ولجت إداراتنا وحياتنا العامة عن تحديث الأداء والخدمة العمومية وتسريعها كما هم مطلوب، بل أن سلوكيات الزبونية والرشوة والتقاعس في أداء الواجب وتعقيد المساطير والتواصل... لم تزد سوى تفاقما على مرأى الحاسوب والهاتف وشبكات الاتصال التي لم تغير من أمرنا شيئا كثيرا. أضف إلى ذلك توظيف التقنية لأغراض ميتافيزيقية واستمرار تواجد الثقافتين التقليدية والتقنية جنبا إلى جنب في فضاء المجتمع بشكل غير منسجم، بل وهجين أحيانا كثيرة،. بل يمكن إضافة القول بأن حضورنا كمجتمع في الفضاء الرقمي هو حضور عرافات، والإنتاجات السلفية والخدمات والظواهر المتخلفة، بدل منه حضور فكر وعلم وإنتاج ثقافي وخدمات حديث. فهل هي عملية إفراغ التقنية من سلطة الشكل عبر تحوير وظيفي ومحتوى وممارسات مناقضة لأهدافها وروح العقلانية التي أنتجتها، حيث ينزع المتخيل إلى إضفاء اغتراب خاص على هذه الوسائل والوظائف والفضاءات الرقمية، وبقدر ما تؤثر فيه وتخلخل تصوره وتحدث ثقافته، بقدر ما يكيفها ويستوعبها من خلال إقحامها في نسيجه الرمزي وطقوسه المحلية وإيقاعه البطيء؟ أم الأمر مجرد تلفيقية زائفة تعكس هشاشة الثقافة والعقل المستهلكين وعدم قدرتهما على استيعاب التقنية من حيث هي فكر وحداثة وكيفية في الوجود، قبل أن تكون آلات وأدوات وإمكانات مادية وتكنولوجية؟ حكاية المجتمعات المستهلكة مع التقنية والوسائل والآلات الصناعية التي ظهرت في الغرب ودخلت إلى فضاءاتهم التقليدية هي حكاية متعددة الأطوار والمراحل، فكلما ظهر اختراع تقني وتم تصديره أو استيراده إلى الوسط الاجتماعي المغربي مثلا، إلا وحمل وقع الصدمة وقوبل بطابع المفاجأة والغرابة، وأحيط في بدايته بنسيج من التمثلات والتطورات المستمدة من المتخيل السائد، وكأنه يتم تكييفه مع الطقس الثقافي والاجتماعي الجديد الذي سيحيى ويشتغل فيه، والتخفيف من حدة الصدمة التقنية والحضارية التي يحدثها. إضافة إلى بطء عملية تقبل الحديث الصناعي والوسيلة التكنولوجية والتعود عليها بالتدريج منذ أكثر من قرن، فإن سلطتها العلمية وصورتها النفسية ارتبطت أكثر في ذهن المغاربة واستعدادهم الفكري والاجتماعي بما تحمله من برهان ودليل نفعي ومادي وملموس يؤكد جدارتها و قيمتها مع الزمن، كما أن ردودهم وكيفية استيعابهم الثقافي إياها تميزت بالتصورات والاعتقادات التي أثارتها لدى الأفراد والمجتمع وبما اقترنت به من وظائف وقيم وتفسيرات غريبة ومتخيلة. من الصعب تصور كيف تلقى المغاربة في بداية القرن الماضي فكرة انتقال وتبادل الأصوات من آلاف الكلمترات عبر أسلاك نحاسية، واستقبلوا دخول الهاتف السلكي أول مرة إلى فضائهم الاجتماعي ؟ ويصعب تصور كيف تعودوا على قبول إمكانية تحليق جسم ميكانيكي في السماء، والسفر عبر الطائرة جوا لآلاف الكلمترات مع التحكم فيها، رغم أن الطيران حصل على مستوى المتخيل والأسطورة قبل أن يحدث في واقعهم الملموس. يذكر الشيب انه بعد دخول الأقراص الصوتية Disque phone وبداية انتشارها في أوائل القرن الماضي، حملت مفاجأة كبيرة إلى بيوتهم وأوساطهم التي لم تقبل إلا عن مضض كيف تتسع هذه الأقراص البلاستيكية لأصوات وأغاني حية، تنطق بها بمجرد الاحتكاك بإبرة على آلة صوتية، و بينما بدأ الناس يتعودون على وظيفتها واستعمالها دون إدراك لمبادئها العلمية والتقنية، تحولت غرائبيتها وصدمتها إلى موضوع تمثل حول تعدد وظائفها وتحويل قدرتها الخارقة، فصار الناس يعتقدون في القدرة العلاجية لهذه الأقراص التي تحولت إلى مادة وبخور يليق دخانها لطرد الجن ولعلاج الزكام والمس وغيرها من الأمراض العضوية والنفسية! وقبل هذه المرحلة المتطورة من دخول واستعمال التقنية الصوتية، كانت صفائح الدواب من أولى الأدوات والمصنوعات المعدنية التقليدية التي ألف الناس صناعتها بأيديهم، لكن سرعان ما تحولت بدورها إلى موضوع رمزي من خلال اقترانها في الاعتقاد الشعبي بالقوة على ردع العين الشريرة واتقاء عداوة الخصوم وتحصين البيوت... حيث صارت تثبت فوق الأبواب والعتبات .. كقطع صناعية لكن برمزية محصنة للأمكنة وقاطنيها. كما أن بداية استعمال المذياع في المجتمع المغربي لم يكن ممكنا أن يثير إلا الاندهاش حيث إنه أمام تعذر فهم الخاصية العلمية للبث والتقاط الصوت على الأمواج وعبر الأثير خلال تلك المرحلة، ذهب التفسير والتأويل إلى استعادة صورة الخارق والقدرات الغرائبية للجن والسحر والأسطورة التي يعج بها المتخيل الرمزي، وإسقاطها على الوظائف والاستعمالات الخارقة للوسائل الحديثة. ويتضح ذلك أكثر مع دخول التلفاز في منتصف القرن الماضي واقترانه بتسمية الصندوق العجيب، حيث تطلب الأمر وقتا طويلا حتى تعود الناس على شكله التواصلي وفهم خاصية الصورة التي تبقى وطيدة الصلة بتصورات المتخيل حول الأجسام والحركات والأحداث الوهمية والأسطورية، وذلك كتجسيد مرئي للأشكال والقدرات السحرية الخارقة. يلاحظ أيضا، كيف أن الغيب التقني الحديث، كما يظهر من خلال نظام التواصل والسرعة الخارقة، وإحضار الغائب والبعيد ونفي الحاضر والقريب، وصناعة الأحاسيس والرغبات وسيادة الصورة والوهم والافتراض... إذ يصدم ويخلخل الحقيقي والواقعي والبطيء، فهو أيضا يتراجع أمام الغيب الرمزي والمتخيل، حيث يعاد تشكيل وقعه وهالته الوظيفية وروحه التقنية، ويتم تكييفها مع وسطه الحيوي الجديد. يظهر هذا جليا من خلال استعمال الهاتف النقال وتحوير قيمته الوظيفية وهالته التقنية في الأوساط التقليدية، حيث صار يرتبط بقيمة وطقس تبادليين فتحول إلى «حلية» تتعلق قيمتها بحجمها ولمعانها والتظاهر بها... تستمد وضعيتها الثقافية من تصورات المتخيل المحلي حول الزينة والمظهر الاجتماعي، وليس من القيمة الاستعمالية للجهاز ومواصفاته التقنية ووظيفته التواصلية. ينضاف إلى هذا التحوير الذي حصل في اقتصاد القيمة والعلامة، إقحام الهاتف النقال في غلاف رمزي جديد، وتوظيفه في استعدادات وحاجيات وتبادلات ثقافية محلية، كما يبدو من خلال شحنه بمحتويات صوتية دينية وغنائية مرتبطة بالمتخيل الشعبي كالأذان ومقاطع من أشرطة الوعظ ... أو كالأغاني الإيقاعية والشعبوية التي تعكس الرغبة الجسدية وتبادلاتها، وهي كلها ذات انتماء ثقافي محلي بطيء، ورمزي متخيل، ينافي الشكل التكنولوجي وما يرتبط به من وظائف وتبادلات وسرعة بصرية، ومن إنتاجية ورفاهية وحياة. ففي خضم انتشار التكنولوجية الحديثة ووسائط الاتصال وشبكة الانترنت... وما يصاحبها من وقع و إيقاع الاندغام والاتصال السريع والمباغت والعابر لكل الحدوديات الحميمية والثقافية والجغرافية، ومن خلخلة لأشكال العلاقات وزمنية التبادل الرمزي والاجتماعي التقليدية، يكون من الطبيعي أن تصدر عن الأفراد والمجتمعات غير تقنية ردود فعل نفسية وأنتربولوجية إزاء صدمة ومنطق التحول، حيث يتحول الرفض والمقاومة إلى مواقف إيديولوجية ومرجعات نقيضة وبعض أشكال المقاومة من تحوير وظيفي ورمزي للطقوس والوسائط الحديثة، ومحاولة التكييف مع ثقافتها وتأثيرها من خلال إضفاء طابع المحلية على هالتها الغيبية والأسطورية. وإذا كان من المعروف أن التقنية ليست فقط آلات ووسائل ومصنوعات ذات استعمالات معينة، بل هي ثقافة تحدث تحولات كبرى في أنظمة القيم وفي كيفية التفكير والتنظيم الاجتماعي، وتحمل معها روحها العقلانية ووقعها التحديثي والمادي إلى الأوساط التي تحل بها، فإنه من الواضح أن دخولها واشتغالها في بعض المجتمعات يواجه مقاومة الثقافة المحلية وما يرتبط بها من نظام قيمي ورمزي كالتفكير الأسطوري والاعتقاد الديني المنغلق والتبادلات الاجتماعية التقليدية والممارسات الرمزية الشعبية، وذلك بشكل ينقص من حدة الصدمة التقنية وأثرها الثقافي، ويختزل الوسائل والأجهزة الحديثة في جانبها الوظيفي الضيق. بيد أن السؤال المطروح هو كيف يحدث أن تتغير بنيات المتخيل بدوره، وهو يتعرض باستمرار لتأثيرات الصورة الوسائطية ولوقع التقنية التي هي ميتافيزيقا الأزمنة الحديثة، حيث الحاجة إلى التغيير الاجتماعي والحداثة الفكرية والثقافية التي تساهم فيها التقنية بقوة تتجاوز عائق المحافظة والتقليد و بنيات التخلف، من جهة، والحاجة إلى الفعالية الرمزية التي تحمي الكينونة الثقافية وتقوي اختلافها، من جهة أخرى؟ ولعل النموذج الياباني أفضل مثال يتقدم في سياق هذا التفكير، وتلك بداية موضوع آخر.