إذا كانت براءة الاختراع فيما مضى تعتبر ثمرة إبداع فردي لشخص معين، فإنها أضحت اليوم نتيجة عمل جماعي مشترك تتكاتف مجموعة من الجهود المختلفة المشارب لتحقيقه، فالاختراع كان عبارة عن إبداع فكري ومجهود مالي يقوم به شخص معين يتميز عن غيره بعبقريته ونبوغه، أما اليوم فقد أصبح مقترنا بضرورة تكاثف جهود مشتركة بين عدة فعاليات تقنية ومالية وبشرية مؤهلة. فبدل المبدع الفردي أصبحنا أمام مؤسسات ومقاولات للبحث والابتكار تضم العديد من العلماء والباحثين والتقنيين ورجال القانون والخبراء، وكل فئة من هذه الفئات تدلي بدلوها وتقوم بدور معين يعتبر مجرد حلقة تضاف الى حلقات غيرها من الفئات لتشكل سلسلة هي ثمرة العمل الجماعي. عيسى كتب: محامي متمرن بهيئة الرباط دبلوم الدراسات العليا في قانون الأعمال وقد برز في هذا الصدد التعاون والتنسيق بين المقاولات التجارية والصناعية الكبرى في الدول المتقدمة والجامعات والمعاهد التقنية كأحد المؤشرات الأساسية التي تبرهن على أن الابتكار والتجديد في عالم اليوم لم يعد يعتمد على مجرد الصدفة أو على عبقرية ومهارات المبتكر الفرد بقدر ما أصبح عملا جماعيا من بدايته الى نهايته1. ويترتب عن هذا التطور أن تكلفة البحث والاختراع أصبحت باهظة الثمن أكثر من أي وقت مضى وبالتالي عدم استطاعة ميزانية المقاولات الصغرى والمتوسطة التي تمثل نصيب الأسد ضمن الوحدات الإنتاجية الوطنية في مختلف القطاعات تحمل مثل هذه الأعباء المالية، فتراها «مستهلكة» لإبداع غيرها عن طريق عقود الترخيص مثلا أكثر «منتجة» لها 2، ذلك أنه قليلا ما تلجأ مثل هذه المقاولات الى الاستفادة من الآليات التي توفرها لها حقوق الملكية الصناعية وترى فيها هدرا مبالغا فيه لمصاريف مالية من الأجدر تخصيصها لاستثمارات أخرى أو للتسيير الداخلي للمقاولة، وينتج في أخر المطاف عن هذا الاعتقاد الخاطئ غياب أية إستراتيجية للإبداع والبحث لديها 3. إن مقتضيات من هذا الشأن تشكك في إمكانية انسجام نظام براءات الاختراع وغيره من حقوق الملكية الصناعية مع محيطنا الاقتصادي وبنياتنا الفلاحية والصناعية والتجارية. وتجدر الإشارة أيضا الى أن المستجدات التي جاء بها قانون الملكية الصناعية رقم 17/97 وحتى قانون 31/05 أصبحت «تقليدية» ومعروفة منذ زمن ليس بالقصير في العديد من الدول المتقدمة كالولاياتالمتحدةالأمريكية، بل ظهرت في هذه الأخيرة نوعية جديدة من الإبداعات أفرزت نقاشا فقهيا وقضائيا وتشريعيا غزيرا تحت تأثير التطورات التكنولوجية والتجارية، مما زاد من اتساع الهوة بين نظامنا القانوني المنظم للملكية الصناعية والأنظمة المقارنة في هذا الشأن. فالدول المتقدمة عرفت تطورات هائلة من شأنها أن تحدث ثورة فكرية واسعة في مجال براءة الاختراع وتحولات جذرية في مفاهيمها وأن تفتح آفاقا في النقاش مستقبلا، خصوصا وان هذه الابداعات الجديدة هي مسكوت عنها لحد الساعة في المغرب على مستوى البحث العلمي والأكاديمي. وإذا كانت المستجدات المؤسسية التي جاء بها قانون 14/97 سوف تتنافر وتتقاطع مع محيطنا الاقتصادي العام، فإن هذه الإبداعات الحديثة التي ظهرت في دول الغرب وبالأخص الولاياتالمتحدةالأمريكية مؤخرا، والتي مازالت تتفاعل كل يوم وبسرعة كبيرة 4، أن تصطدم هذه المرة بمحيطنا الفكري والثقافي والديني بالدرجة الأولى. ومن هذه الزاوية ارتأينا أن نطرحها للنقاش كآفاق مستقبلية لبراءة الاختراع بالمغرب. وسوف نتناول هذه المجالات على الشكل التالي: 1 الاختراعات المرتبطة بالأحياء: بظهور ما يعرف بالبيوتكنولوجيا، أي مجموعات التقنيات العلمية والطبية الهادفة الى القيام بتعديلات جينية في أي جسم حي، برز في الدول المتقدمة اقتصاديا نقاش غزير تمحور حول مدى إمكانية استفادة الكائنات الحية المعدلة جينيا من براءة الاختراع؟ وهل من الممكن التمييز في هذا الصدد بين الكائنات النباتية والحيوانية الآدمية؟ أم أنه ينبغي معاملتها جميعها على قدم المساواة5؟ كما يتبادر الى الذهن التساؤل عن مدى أخلاقية إخضاع مجالات حية لنظام البراءات مع ما يترتب عن ذلك من «حق التملك» و «الاستثمار بالاستغلال» على مواضيع تجد ارتباطها العضوي والطبيعي بأجسام حية؟ وبصيغة أخرى، هل يصلح نظام البراءات بصيغته الحالية الذي وضع أساسا ليطبق على اختراعات مادية وجامدة لمواجهة أشياء حية؟ ويتفرع عن هذا السؤال إشكال جوهري أخرى وهو هل تعتبر عملية استخراج الجينات من كرموزون خلية من خلايا كائن حي، ثم عملية إعادة إنتاجها لجينات مماثلة بعد التعديل واستنساخها، هل تعتبر عملا إبداعيا يستحق أن يحمى بواسطة قانون براءات الاختراع؟ وبعبارة أخرى، هل تعتبر هذه الجينات المعدلة في المختبرات بمثابة اختراعات الجينات من كرموزون خلية من خلاليا كائن حي، ثم عملية إعادة إنتاجها لجينات مماثلة بعد التعديل واستنساخها، هل تعتبر عملا إبداعيا يستحق أن يحمي بواسطة قانون براءات الاخراع؟ وبعبارة أخرى، هل تعتبر هذه الجينات المعدلة في المختبرات بمثابة اختراعات وإبداعات بشرية محضة، أم أنها تبقى في أخر المطاف مجرد مخلوقات إلاهية تدخل الإنسان فقط لتعديل تركيبتها الداخلية وهيكلتها؟6. مما لاشك فيه أن تغيير ميدان البحث والإبداع من المسائل الجامدة الى الأخرى الحية ترتب عنه بالضرورة اصطدام نفسي وثقافي وحضاري وديني أخلاقي، ليبرز الى السطح تخوف مشروع من أن يحطم الضغط الاقتصادي جميع الاعتبارات الأخلاقية وينتصر عليها في آخر المطاف. وعموما لقد انقسم الباحثون الغربيون بشأن هذا الموضوع الى موقفين: موقف أول تزعمته الولاياتالمتحدةالأمريكية 7، يدعو الى حماية هذه المجالات المرتبطة بالتكنولوجيا على اعتبار أن الإبداع الفكري كيفما كان نوعه والمجال الذي ينصب فيه، ينبغي حمايته من كل اعتداء. ففي نظر أصحاب هذا الموقف، إن كل براءة اختراع في نمطها التقليدي تخفي في طياتها ابداعا فكريا لصاحبها، والبراءة من هذا المنظور هي مجرد وسيلة لحماية هذا الإبداع أي حماية المعارف القابلة للاستغلال والاستعمال الجماعي، فليس الجهاز أو الآلة أو الوسيلة هو الذي يعتبر موضوع البراءة، إنما الفكرة الإبداعية التي رصدته وجسدته الى حقيقة. فلا يهم أن تكون هذه الإبداعات منصبة على أشياء جامدة أو أخرى حية ولا علاق لهذه الأمور بالجانب الأخلاقي أو الديني. كما أن رفض منح حماية قانون براءات الاختراع على هذا النمط الجديد من الإبداع لن يؤدي الى توقف البحث العلمي في هذه المجالات بقدر ما يؤدي الى جعل هذا البحث خفيا وغير خاضع لمراقبة الدولة. وفي المقابل، يؤكد توجه فقهي آخر أن نظام البراءات يطغى عليه مفهوم الاستغلال التجاري وتنظيم المنافسة التجارية، وهي مفاهيم ينبغي تركها بعيدة متى تعلق الأمر بأشياء حية، وأن المساح في مرحلة أولى باستصدار براءات اختراع عن خلايا وجينات مرتبطة بالنبات أو الحيوان سيؤدي في مرحلة لاحقة وبالضرورة الى ظهور نوعية جديدة من براءات الاختراع مصدرها هذه المرة الإنسان نفسه وخلاياه وأعضاءه8. 2 الطرق والأساليب التجارية: إذا كانت كل الأنظمة المقارنة أجمعت على أن الأفكار المجردة لايمكنها الاستفادة من حماية براءة الاختراع، ولهذه العلة كانت الأساليب التجارية مقصية الى عهد قريب من حماية قانون البراءات في دول المعمور. ويصعب في واقع الأمر وضع تعريف دقيق وشامل للطرق والأساليب التجارية 9، ومما يزيد من صعوبة هذه المهمة، هو ارتباط هذه المؤسسة بمؤسسات أخرى حديثة النشأة يصعب تحديد نطاقها المادي بدورها كالتجارة الإلكترونية وبرامج الحاسوب. وعموما تشمل هذه المؤسسة جميع الطرق والأساليب المستعملة في عالم التجارة والأعمال ومن بينها على سبيل المثال وليس الحصر طرق وأساليب التسويق وطرق تقدير مدى تغير أذواق المستهلكين وطرق المحاسبة وغيرها. فهي إذن أساليب ومناهج اقتصادية تساعد المقاولة على تنظيم السير العادي لعملها الداخلي، وتنظم علاقاتها مع زبنائها وأيضا مع محيطها الخارجي من موردين وإدارات ومنافسين. ولعل أهم أسلوب تجاري على الإطلاق وأشهره هو الأسلوب الذي حاز على براءة اختراع في أمريكا والمعروف بالأسلوب التجاري «أمازون» والذي يمثل طريقة للبيع عن طريق الانترنيت تعرف بالبيع بنقرة واحدة على فأرة الحاسوب. وتعتبر الولاياتالمتحدةالأمريكية الدولة التي ظهرت فيها أولى بوادر استفادة مثل هذه الأساليب التجارية من براءات الاختراع إلى حد أنه في الفترة الممتدة ما بين 1996 و2000 عرفت براءات الاختراع الممنوحة عن الأساليب ارتفاعا بنسبة 386% . كما أن الولاياتالمتحدةالأمريكية تضم حوالي 70% من براءات الاختراع الممنوحة عن هذه الأساليب في العلم كله، تليها اليابان بحوالي 15%، ثم انجلترا وألمانيا وفرنسا مجتمعة بحوالي 15%، ثم انجلترا وألمنيا وفرنسا مجتمعة بحوالي 15% المتبقية 10 . وقد برر الأمريكيون ذلك، بمقتضيات وأحكام اتفاق (ADPIC) الذي نص الفصل 27 منه في فقرته الأولى على أنه يمكن الحصول على براءات الاختراع في جميع المجالات دون ضرورة التمييز مابين القطاعات الإنتاجية، مما يعني أن القول بإقصاء الأساليب التجارية من حماية براءة الاختراع فيه خرق واضح للالتزامات الدولية المنصوص عليها بمقتضى هذه الاتفاقية11. وبما أن المغرب عضو في هذه الاتفاقية، كما أنه طرف في اتفاقية التبادل الحر مع الولاياتالمتحدةالأمريكية، فإنه لن يبقى بمنأى عن هذا الحدث. 3 - برامج الحاسوب: لقد أثارت برامج الحاسوب زوبعة من النقاشات الفقهية القضائية في أغلب الدول المصنعة كالولاياتالمتحدةالأمريكيةواليابانوفرنسا، تمحورت حول الكيفية الواجب بها حماية برامج الحاسوب والطريقة الأنسب التي تتلاءم وخصوصياتها، هل عن طريق قانون حماية حقوق الملكية الصناعية أم قانون حقوق المؤلف. فهناك طرح تتبناه الولاياتالمتحدةالأمريكية يرى أنه ليس هناك أي مرر يقتضي استبعاد أي مجال ابتكاري من الاستفادة من براءة انسجاما مع مقتضيات وتوصيات الاتفاقية ADPIC، والتي تحث على إمكانية استفادة الإبداع بصفة عامة من براءات الاختراع دونما اهتمام بالمجال المعني به، وأيضا على اعتبار أن الحماية التي وفرها قانون حماية حقوق المؤلف تنحصر فقط في الشكل الخارجي لبرامج الحاسوب وطريقة إنجازه وبنائه التقني ولا تصل إلى مضمون وجوهر هذه البرامج 12. بينما يرى موقف آخر، أن المرونة التي تقدمها ضوابط وآليات قانون حماية حقوق المؤلف وسهولة مقتضياته ومساطره هي الكفيلة بالانسجام مع برامج الحاسوب، وبالتالي اعتبار هذه الأخيرة بمثابة مصنفات أدبية وفنية 13. وقد كانت فرنسا من الدول التي تزعمت موجة رفض حماية برامج الحاسوب بواسطة براءة الاختراع وكذا بسبب صعوبة إن لم نقل استحالة تقدير عناصر الجدة والنشاط الإبداعي في هذه البرامج. ويمكن القول أن ظاهرة حماية برامج الحاسوب بقانون الملكية الأدبية والفنية هي عامة في جميع دول14، ولو أن التساؤل والتشكيك في مدى نجاعة هذه النوعية من الحماية بدأت تطفو إلى السطح 15. بعد كل هذا نعود لنتساءل عن مستقبل وآفاق براءة الاختراع في المغرب في ظل هذه المتغيرات التي يعرفها حاليا نفس الموضوع في دول العالم، وبالأخص في الولاياتالمتحدةالأمريكية. فمما لاشك فيه أن بلدا ناميا كالمغرب، بتبنيه نمط الانفتاح الاقتصادي وولوج عالم العولمة من بابه الواسع، لايمكنه أبدا أن يبقى بعيدا على هامش التطورات المتحدث عنها أعلاه، وهذا يعني بالضرورة أن هذه المستجدات سوف تفرض ذاتها في المغرب بقوة عاجلا أم آجلا مما ينبغي معه أن نعد لها العدة ونفتح نقاشا واسعا حول أهم الإشكالات التقنية والأخلاقية والدينية التي تفرزها. وشيء طبيعي أن النقاش الأكاديمي يأتي دوما في طليعة ومقدمة التعديلات التشريعية المرتقبة، لذلك نتمنى أن يفتح نقاش حول المواضيع القانونية المرتبطة ببراءة الاختراع والمستجدات المرتبطة بها، علها تدق ناقوس الخطر الذي تخفيه بعض هذه التطورات. كما أننا نعود لنتساءل هل بنياتنا الاقتصادية والفكرية قادرة في وضعها الحالي على استيعاب هذه الثورة القادمة؟