لا يختلف اثنان في العالم أن المسلمين هم أضعف الأمم اليوم، وأنهم يحتلون مؤخرة لوائح ترتيب الدول في جميع المؤشرات: مؤشر التنمية البشرية؛ مؤشر الشفافية؛ مؤشرات الحريات العامة؛ مؤشر التنافسية... وحتى إذا حصل بعض الاستثناء فهو لا يغير شيئا من الوضعية العامة لمجموع دول المسلمين، وليس الدول الإسلامية لأن الدول التي يصنعها الإسلام تكون من القوة والتميز ما يجعلها في مقدمة دول العالم إن لم تكن هي التي تقوده. فما هي مظاهر القوة الحديثة؟ وكيف السبيل لكي يمتلكها المسلمون؟ حتى يصبحوا يصنفون ضمن القوى العظمى. أ-مظاهر القوة الحديثة: يمكن حصر مظاهر القوة الحديثة في خمسة: القوة السياسية؛ القوة العسكرية؛ القوة الأمنية؛ القوة الاقتصادية؛ والقوة العلمية. 1. القوة السياسية: والمقصود بها قوة الجهاز الدبلوماسي، والتحكم في العلاقات الدولية، وأن يكون للدولة كلمة ورأي مسموعين في مختلف القضايا التي تهم دول العالم. وتنطبق هذه المواصفات على الدول الخمس دائمة العضوية في مجلس الأمن المالكة لحق النقض، تنضاف إليها بعض الدول التي أصبح لها دور على المسرح الدولي كألمانيا وبدرجات أقل: اليابان وإسبانيا وإيطاليا وأستراليا... أما الدول الإسلامية المتميزة في هذا المجال فينحصر دورها فقط في المحيط الإقليمي، ولا يتجاوز عددها دولتين هما: تركيا وإيران، وما عدا ذلك فهي دول ضعيفة وتابعة، بما فيها تلك التي يقال عنها أنها محورية، ولكن محوريتها تتمثل في تنفيذ سياسات الدول العظمى، ولعب دور العراب والدركي لا غير. 2. القوة العسكرية: وتتمثل في الجيوش المدربة والمكونة والمنتشرة في عدد من المواقع الاستراتيجية خارج الحدود القطرية، والتي بإمكانها الانتشار وإعادة الانتشار والتدخل السريع والفعال في مختلف بقاع العالم. وهي الجيوش التي تتوفر على أحدث الأسلحة التي أنتجتها مصانع بلدانها، وابتكرتها أو طورتها مختبرات بلادها، بل هي الجيوش التي تمتلك سلاح الردع المتمثل أساسا في أسلحة الدمار الشامل، والتي تحتكر أسلحة جديدة مازالت أسرار تصنيعها لا تتجاوز جدران المختبرات التي اخترعتها. وهي الجيوش التي تتوفر على قوة ضاربة في سلاحي الجو والبحر، ذلك وأنه منذ الحرب العالمية الثانية أصبحت كلا من القوات الجوية والبحرية هي الفاصلة في الحروب، وليست فقط القوات البرية. الجيوش التي تعتمد على التكنولوجيات الحديثة، والتي لا وجود فيها للأميين وأشباه الأميين، والتي يقودها جنرالات في الأربعينات وليس الشيوخ والعجزة. وهذه الأوصاف لا تتوفر كذلك إلا في ست دول، هي الدول الخمس دائمة العضوية في مجلس الأمن بالإضافة إلى الهند، متبوعة أساسا بما تبقى من الدول الأعضاء في حلف شمال الأطلسي –الناتو- على تفاوت في الإمكانات والقدرات والإرادات أيضا. أما الدول الإسلامية، فباستثناء تركيا العضو الوحيد في الناتو من العالم الإسلامي، وإيران وباكستان اللتان تجتهدان في امتلاك التكنولوجيا العسكرية، فباقي جيوش المسلمين ما هي إلا حرس للأنظمة الحاكمة، ووسيلة للتربح بالنسبة للحكام وعائلاتهم وأعوانهم، فقطاع الدفاع هو القطاع الأكثر فسادا لأن ميزانية الدفاع وصفقات الأسلحة تكون في الغالب سرية، وهذا ما يساعد بقوة على انتشار الرشاوى والعمولات. وهذا ما يفسر احتلال عدد من دول المسلمين المقدمة في لائحة ترتيب الدول الأكثر شراء للأسلحة وللعتاد العسكري (وليس الأكثر تسليحا)، مع أنها لا تخوض الحروب للدفاع عن الأمة ومقدساتها ولا تنوي خوض هذه الحروب، ولا تستعمل هذه الأسلحة حتى في المناورات والتدريب، بل إن جيوشها المكونة من العجزة في القيادة ومن الأميين في القاعدة لا تصلح للخدمة العسكرية العصرية أصلا. 3. القوة الأمنية: وهي تتمثل في جميع الأجهزة التي توفر الأمن للمواطنين كأفراد أو كشعب (أمن الدولة أو الأمن العام)، من شرطة بكل اختصاصاتها (شرطة المرور؛ شرطة مكافحة المخدرات؛ شرطة الآداب العامة؛ الشرطة العلمية؛ الشرطة الإلكترونية...) وفرق التدخل السريع واستخبارات... على أن قوة الأمن لا تمنع من ازدياد ارتكاب الجرائم، لذلك فالقوة الأمنية معناها هو القدرة على جمع المعلومات والانتشار المتوازن في جميع مناطق البلاد، والقدرة على ملاحقة المطلوبين حتى خارج الحدود القطرية. وهذه القوة نجدها متوفرة في أغلب الدول المتقدمة، والتفاوت بينها يكاد يكون بسيطا، بما في ذلك محاربة الجريمة المنظمة والعمليات الاستخباراتية. بحيث نجد دولا متقدمة مشهورة في المجال الاستخباراتي بالرغم من صغر حجمها الديمغرافي أو الاقتصادي وبالرغم من ضعف دورها الدبلوماسي أو العسكري. ومع ذلك يمكن تصنيف المخابرات المركزية الأمريكية والموساد الإسرائيلي وسكتلانديار البريطاني في المقدمة على الصعيد العالمي. أما دول المسلمين فهي في معظمها يسودها الأمن، ولكنه نسبي ومرده إلى القوة الأخلاقية للإسلام رغم ما لحقه من ضعف في مختلف الميادين، وبالرغم من الضعف الكبير لجميع الأجهزة الأمنية، والاستثناء الوحيد البارز هو الاستخبارات الموجهة ضد المواطنين والنجاح الباهر للتضييق الأمني على الحريات العامة وبعض الحريات الفردية. أما ما يتعلق بالأداء الأمني ضد الأعداء الخارجيين فالحصيلة تكاد تكون صفرا. 4. القوة الاقتصادية: والمؤشرات المعتمدة في الغالب هي: الدخل القومي؛ متوسط الدخل الفردي؛ النمو الاقتصادي السنوي؛ معدل البطالة؛ مؤشرات الأسواق المالية؛ نسبة التضخم؛ الاحتياطي من العملات؛ الميزان التجاري؛ حجم الميزانية الوطنية؛ عدد الشركات المتعددة الجنسيات؛ نسبة القطاع الصناعي من الدخل القومي؛ مؤشر الشفافية؛ مؤشر التنافسية؛ مؤشر الدول الفاشلة... وبالنظر إلى هذه المؤشرات فالعالم أصبح ينقسم إلى ثلاث مجموعات: الدول المتقدمة الغنية؛ والدول الصاعدة (في مقدمتها الصين؛ الهند؛ البرازيل؛ روسيا)؛ والدول الفقيرة والنامية. ومؤخرا تشكلت مجموعة اقتصادية كبرى هي مجموعة العشرين التي تحتكر 90 بالمائة من الاقتصاد العالمي. وهناك ثلاث دول إسلامية فقط تتمتع بعضوية هذه المجموعة هي: تركيا والسعودية وأندونيسيا (بهذا الترتيب)، وباقي الدول الإسلامية تصنف ضمن باقي العالم الذي يشترك في ال 10 بالمائة المتبقية من الاقتصاد العالمي. على أن تركيا لم تحقق هذه الوضعية إلا بعد وصول حزب العدالة والتنمية إلى الحكم سنة 2002، حيث تضاعف دخلها القومي في ثماني سنوات وتعافى اقتصادها من الفساد والتضخم وستشهد قفزة قوية إذا تم قبولها في الاتحاد الأوروبي. بينما السعودية لم تكتسب هذه الوضعية إلا بفضل الفورة المالية المتأتية من البترول وليس من الاقتصاد الإنتاجي. فيما أندونيسيا مازالت تعاني من فقر السكان (أكثر من 240 مليون نسمة) رغم النمو الاقتصادي الذي بدأت تعرفه. 5. القوة العلمية: أهم المؤشرات المعمول بها لقياس القوة العلمية والثقافية والتكنولوجية للدول: نسبة العلماء من كل ألف نسمة؛ عدد براءات الاختراع في السنة؛ نسبة الميزانية المخصصة للبحث العلمي من مجموع الدخل القومي؛ ترتيب الجامعات على المستوى الدولي؛ عدد عناوين الكتب التي يتم تأليفها سنويا؛ متوسط عدد نسخ الجرائد لكل مواطن... وطبعا نجد الدول المتقدمة والدول الصاعدة هي التي تحقق أعلى الأرقام، بينما الدول النامية والفقيرة ومنها الدول الإسلامية لا تكاد تذكر بالنسبة لبعض المؤشرات. فغالبية الدول لا تتعدى نسبة الميزانية المخصصة للبحث العلمي 1 بالمائة من الدخل القومي، والمطلوب أن تتراوح ما بين 2.5 و5 بالمائة (في إسرائيل 4 إلى 5 بالمائة). وفيما يخص عدد براءات الاختراع، فالعالم العربي لا يتجاوز العدد فيه 200 براءة اختراع في السنة (المغرب 23 براءة)، بينما في إسرائيل حوالي 1900 اختراع وفي تركيا 370 وماليزيا 180، وطبعا لا مجال للمقارنة مع الدول الصناعية والدول الصاعدة، حيث مازالت تحتكر الولاياتالمتحدةالأمريكية حوالي نصف عدد براءات الاختراع في العالم (بمعدل 3500 براءة اختراع أسبوعيا) متبوعة ب: اليابان 28774؛ ألمانيا 18428؛ كوريا الجنوبية 7908؛ فرنسا 6867؛ الصين 6089؛ بريطانيا 5517). أما ترتيب الجامعات فتلك فضيحة أخرى، فلم تحتل مؤخرا أية جامعة عربية الرتب ال500 الأولى في العالم من أصل 14 ألف جامعة في العالم (سواء الترتيب الصيني أو ترتيب ويبو ميتريك الإسباني). الخلاصة مؤلمة جدا بالنسبة لوضعية المسلمين كأمة أو كدول، والمسافة الفاصلة بينهم وبين الأمم الأخرى تزيد اتساعا. ولكن لا بد أن يبقى الأمل، أمل الخروج من هذه الوضعية الذليلة إلى الوضعية التي ارتضاها لنا رب العزة "كنتم خير أمة أخرجت للناس"، فكيف السبيل إلى ذلك؟ هذا ما سنحاول معالجته في العدد القادم إن شاء الله تعالى. ب- كيف السبيل لامتلاك المسلمين لمقومات القوة العظمى: هذا هو التساؤل الذي من الواجب على كل مسلم غيور على أمته المهتم بشؤونها أن يطرحه، وأن يسعى إلى الحصول على الجواب (منه ومن غيره)، وأن يجاهد بكل مؤهلاته وإمكانياته لكي يحقق قدرا من القوة لأمته في حياته وبعد مماته عن طريق توريث المنهاج والخطط لسلفه. 1- المنهج: السبيل المقصودة هنا هي الخطط والاستراتيجيات والسياسات، التي يجب أن تعتمدها دول المسلمين للارتقاء إلى الوضعية التي ابتغاها رب العزة للمسلمين والتي لا تقل عن الصدارة والإمامة في كل مجالات الحياة، وفي حالة عجز هذه الدول أو لا مبالاتها انتقل الواجب إلى كافة المسلمين جماعات وأفرادا. والمنهجية العلمية المطلوبة لرسم هذه السبيل تقوم –في نظري- على خمس خطوات أساسية، تتمثل في الإجابة على الأسئلة الخمس: كيف كنا؟ وكيف أصبحنا؟ وكيف أصبح غيرنا؟ وكيف نريد أن نكون؟ وكيف العمل لكي نصل إلى المكانة التي نبتغيها؟ فالسؤال الأول الهدف منه هو معرفة تاريخنا كله، سواء المستنير منه الذي كنا فيه أسياد العالم للوقوف على الأسباب والعوامل التي كانت وراء تبوئنا تلك المكانة المتميزة في كل المجالات، أو الفترات المظلمة منه للخروج بالدروس والعبر، خصوصا التاريخ القريب لأنه هو الذي أنتج حاضرنا المر. وهذا الحاضر المر بكل مظاهره وتجلياته هو الجواب على السؤال الثاني. أما السؤال الثالث فهو يدعونا للتعرف على تجارب الآخرين الذين يحتلون صدارة الأمم في مختلف الميادين، كيف هم الآن وكيف وصلوا إلى ما وصلوا إليه، و"الحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أحق بها"، كما قال نبي الأمة عليه الصلاة والسلام. وفيما يخص السؤال الرابع، فهو الوضعية المرجوة أو النتائج المنتظرة حسب الاصطلاح المعمول به في مقاربة المشروع، بمعنى مواصفات كمية أو كيفية للدرجات التي نريد أن نحققها في المستقبل. والسؤال الأخير يتعلق بالتخطيط للأعمال المطلوبة الموصلة إلى تحقيق الأهداف والنتائج المرجوة. ويطبق هنا كل ما هو متعارف عليه في إعداد المخططات: تحديد الإجراءات أو الأعمال المتعلقة بكل هدف ونتيجة؛ مدة وتاريخ إنجازها؛ الوسائل الموظفة في إنجازها... إن الجواب على هذه الأسئلة، أو تطبيق الخطوات الخمس، من غير المعقول أن يقوم بها فرد أو حتى مجموعة أفراد، بل إنها تدخل ضمن مهام وأعمال الدول والمنظمات المؤهلة لذلك، سواء المنظمات القطرية أو الدولية، الحكومية أو الأهلية. وهذا لا يرفع المسؤولية على الأفراد والجماعات الصغيرة من جمعيات وأحزاب ومجموعات بحثية وغيرها، بل من الواجب عليهم جميعا العمل كقوى اقتراحية أو جماعات ضغط على المسؤولين، أو عبر إنجاز التجارب النموذجية في مختلف المجالات والأزمنة والأمكنة حتى وإن كانت صغيرة ومجهرية من حيث الحجم، فالغرض والمبتغى من ذلك هو: إعطاء القدوة؛ وإحراج المسؤولين بالعمل وليس بالقول؛ وضمان استمرارية المنهج؛ وإبراء الذمة أمام الله وأمام الأجيال القادمة. 2- التجارب الناجحة: بكل تأكيد، لن يكفي ما تبقى من هذه المقالة لتقديم تجارب الآخرين الناجحة، ولكن لا بأس من الاطلاع على بعض منها بشكل مختصر. - التجربة الأمريكية: وهي تجربة قديمة بعض الشيء ولكنها مهمة، وأهميتها تكمن في أنها تجربة دولة حديثة مكونة من المهاجرين واستطاعت أن تصبح القوة العظمى رقم واحد في العالم وفي كل المجالات، فهي القوة الوحيدة التي تهيمن على مظاهر القوة الخمس، وبالتالي كان حتما أن تهيمن على العالم بأسره. وللوقوف على تفاصيل التجربة أقترح الاطلاع على كتاب "إمبراطورية الثروة" الذي نشر على جزأين في سلسلة عالم المعرفة سنة 2008 عددي 357 و358. فهذه الدولة عرفت أكبر حرب أهلية في تاريخ البشرية تقريبا، خرجت منها دولة موحدة قوية بنظامها السياسي والاقتصادي والمالي، تصنيع كبير وجيش قوي حيث أصبح ثاني قوة بحرية في العالم بعد البحرية الملكية البريطانية، كما أصبحت قوة فلاحية كبيرة، ونشطت فيها حركة البحث العلمي والاختراع. وبعد الحرب العالمية الأولى ستخسر أوروبا مركز الحضارة الغربية لينتقل إلى غرب الأطلسي، إلى الولاياتالمتحدةالأمريكية التي أصبحت القوة الاقتصادية الأولى في العالم حيث أصبحت سلعها الفلاحية والصناعية تغزو مختلف بقاع المعمورة وتنافس السلع الأوروبية. كما أصبحت القوة المالية الأولى في العالم، حيث انتزعت المركز المالي العالمي من بريطانيا، وانتقلت من دولة مدينة قبيل الحرب إلى دولة دائنة بعيد الحرب، ومن الدول المدينة لها نجد كلا من بريطانيا وفرنسا التين كانتا تقتسمان العالم تقريبا فيما بينهما. وبعد الحرب العالمية الثانية ازدادت قوتها، حيث كان إنتاجها القومي يشكل نصف الإنتاج العالمي (الآن الربع تقريبا)، وأصبح الدولار عملة عالمية. وأصبحت القوة العسكرية الأولى بلا منازع، بل إن قوتها البحرية والجوية كانتا تفوقان كل ما لدى دول العالم، والآن تفوق ميزانيتها العسكرية كل ميزانيات دول العالم مجتمعة. والأكثر من ذلك أصبحت هي القوة السياسية الأولى في العالم، حيث ورثت تركة بريطانيا العظمى، وأصبحت أمريكا اللاتينية تنعث بحديقتها الخلفية، وانتشرت قواعدها العسكرية في جميع القارات. وأصبحت هي قاعدة العلم والتكنولوجيا الأولى، وقبلة العلماء والباحثين. والخلاصة هي أن تجربة أمريكا هي نموذج للاستثمار والتوظيف الجيد للحروب، خصوصا في التطور التكنولوجي، حيث كل المخترعات المتميزة التي تنتشر حاليا (ومستقبلا أيضا)، تم استخدامها من قبل الجيش والأجهزة الأمنية الأمريكية، ولم يسمح لها بالانتقال إلى الاستخدام المدني إلا بعد استنفاذ الغرض منها عسكريا أو بعد ظهور مستوى متطور منها. كذلك كان للدور الجغرافي والديموغرافي أهمية قصوى، فالدولة هي عبارة عن قارة تمتد على مساحة تصل إلى 10 ملايين كلم مربع تقريبا. وسكان يبلغ عددهم حاليا أكثر من 300 مليون نسمة، نسبة منهم أصلهم مهاجرين من مختلف بقاع العالم، حيث تستقبل أمريكا سنويا أكثر من 700 ألف مهاجر، معظمهم من الأدمغة والأطر الجاهزة. هذا بالإضافة إلى كثرة وتنوع مواردها الطبيعية. وهذه الشروط الثلاثة (الجغرافيا والديموغرافيا والموارد الطبيعية) لا تتوفر مجتمعة إلا في عدد قليل من الدول، وبالتالي فإن احتمال بروز قوة عظمى منافسة في المستقبل لأمريكا سينحصر في ست دول هي: الصين والهند والبرازيل وروسيا وكندا واستراليا، وباقي الدول ومنها دول المسلمين الحالية فلا تتوفر على هذه المقومات إلا إذا توحدت وكونت دولا كبرى أو تكتلات قوية مثل ما فعل الاتحاد الأوروبي. - التجربة الآسيوية الحديثة: هي في الحقيقة تجربة مجموعة دول، متفرقة ولم تكن مجتمعة، ولكن مسارها واحد تقريبا (الصين والهند وكوريا الجنوبية وماليزيا وسنغافورة وطايوان...)، وهي تجربة متفردة لكونها بلغت أهدافها في أقل من ثلاثة عقود. هذه التجربة ركزت في البداية على مسألتين في غاية الأهمية، هما: تعميم التعليم ومحاربة الجوع، وأنا أسميها بمرحلة محاربة الجيمين (حرف الجيم) الجهل والجوع، وليس محاربة الفقر، فهناك اختلاف، ففي الهند مثلا ما زال الفقراء يشكلون أكثر من نصف المجتمع، ويسكنون على الرصيف أو على شجرة ولكنهم يرسلون أبناءهم إلى المدرسة، ونحن نريد القضاء على دور الصفيح والسكن العشوائي والسكان غارقون في الأمية، والمدرسة عبارة عن فصول في الهواء الطلق تحت ظل شجرة وأحيانا بدون كراسي وطاولات ولكن بالصبورة وبوجود معلم كفء مخلص في عمله، ونحن نبني المدارس ولا نبني المعلمين الجيدين والمناهج المناسبة. وبالنسبة لمحاربة الجوع، عرفت هذه الدول ما سمي بالثورة الخضراء التي استهدفت تحقيق الاكتفاء الذاتي في مجال الغذاء. ولما تم القضاء على الجهل والجوع، قاموا بتعميم التصنيع، بجلب الاستثمارات الأجنبية اعتمادا على عمالتهم الرخيصة والمدربة وعلى الإعفاءات الجمركية حيث انتشرت المناطق الحرة. في البداية كان التصنيع يعتمد على إنتاج السلع التابعة للماركات العالمية والشركات المتعددة الجنسيات، إما بالترخيص أو بالتقليد، وبعد أن توفروا على قاعدة صناعية بدؤوا يصنعون منتوجاتهم الخالصة، حتى غزت كل أسواق العالم. وبعد تعميم التعليم انتقل الاهتمام بالجودة وبالبحث العلمي، وهكذا بدأت العديد من جامعاتهم ترتب في المراتب المتقدمة ضمن لائحة ال500. كما أن نسبة كبيرة من الطلاب والباحثين الذين يتوجهون إلى قبلة العلم الحالية أي أمريكا هم من هذه الدول. وهنا أعطي مثالا عن كوريا الجنوبية التي في منتصف الثمانينات، وبعدما أصبح نصف سكانها حاصلون على الباكلوريا و 2 بالمائة فقط من السكان هم من لا يعرف القراءة والكتابة، بدأت التخطيط الجدي للبحث العلمي، فأعدوا مخططا لتكوين 60 ألف عالم (عدد السكان حاليا 50 مليون نسمة) في أفق سنة 2000، وبالفعل تحقق هذا الهدف والدليل على ذلك هو احتلالها للرتبة الرابعة حاليا في عدد براءات الاختراع، حيث تفوقت على عدد من الدول الصناعية الكبرى بما فيها الصين التي أصبحت ثاني قوة اقتصادية في العالم والمتوقع منها أن تزحزح أمريكا عن الرتبة الأولى في أفق سنة 2015 أو 2020. وبالمقارنة نجد بعض الدول العربية البترولية تبني الجامعات الضخمة وتصرف عليها المليارات من الدولارات، ولكن بدون نتيجة لأنها استوردت كلا من الأساتذة والطلبة كما تستورد السيارات الفارهة. وبفضل امتلاكها للقوتين الاقتصادية والعلمية، بدأت هذه الدول تمتلك ناصية القوة العسكرية، خصوص الصين والهند، القوتان النوويتان، والجيشان الكبيران من حيث عدد الجنود، وامتلاكهما لتكنولوجيا غزو الفضاء، كما أن الهند أصبحت ثاني قوة بحرية في العالم. وخلال الأزمة المالية الحالية ظهرت الصين كقوة مالية كبيرة بسبب عائداتها الكبيرة من العملات الصعبة نتيجة ارتفاع صادراتها خصوصا السلع الصناعية، حيث أضحت الصين هي مصنع العالم. والخلاصة أن هذه الدول استطاعت أن تصبح قوى اقتصادية صاعدة في وقت قياسي، من خلال تركيزها على التعليم والبحث العلمي وتوفير الضروريات للحياة مثل الغذاء والصحة. وفي غضون العقد القادم ستكلل التجربة الآسيوية بامتلاك القوة السياسية. *باحثمغربي في البيئة والتنمية والعمارة الإسلامية [email protected]