التنمية البشرية, الرشوة, مناخ الأعمال والتنافسية.. دأبت المؤسسات والمنظمات الدولية والأممية على إنجاز تقارير دورية حول دول العالم فيما يشبه عملية تقييم مستمرة لأداء الدول ومؤسساتها في عدد من المجالات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والحقوقية.وغالبا ماتتضمن هذه التقارير تصنيفا للدول وفق مؤشرات عامة تحدد مراتبها وتعكس مابلغته من تقدم أو تراجع في برامج التنمية الاقتصادية والمجتمعية عامة. "" وقد توالت خلال السنوات الأخيرة انتقادات المغرب لمضامين هذه التقارير،حيث تكررت تحفظات الحكومة على المراتب التي توليها التقارير الدولية للمغرب.هكذا ضلت الحكومة تعتبر أن المنظمات والمؤسسات الدولية تبني خلاصاتها على مؤشرات لا"تستحضر المجهودات التي مافتئ المغرب يقوم بها في مختلف القطاعات الإنتاجية والبشرية، ولا تولي الاهتمام للتقدم الحاصل في عدد من القطاعات موضوع التقارير". وتعتبر السلطات المغربية أن من شأن توالي التقارير المنتقدة للمغرب أن يؤثر على صورته في الخارج ويقلل من فرص الاستثمارات الأجنبية ويؤخر إمكانيات النمو والتنمية الاقتصادية فيه وعلاقة المغرب بالتقارير الدولية ليست وليدة اليوم،بل هي علاقة سابقة تقاطعت فيها لحظات الرفض والتحفظ بفترات الترحيب والتهليل"أحيانا بخلاصات هذه التقارير ومضامينها.وقد تحكم في ذلك مضمون التقارير وخلاصاتها والترتيب الذي توليه للمغرب في تصنيفاتها أولا،وحسابات الدولة ورهاناتها في الداخل ثانيا وكذلك حجم الجهة صاحبة التقارير ووزنها وتأثيرها على المستوى الدولي وبين الترحيب بالتقارير والتحفظ عليها يمكن التقاط نماذج لتقارير عملت الدولة بالمغرب على توظيفها واستثمارها خدمة لاستراتيجية داخلية وتنفيذا لترتيبات واختيارات مسبقة لها علاقة بمسار التطور الاقتصادي والسياسي والاجتماعي للبلاد. وإذا كان تقرير البنك الدولي الصادر سنة 1995 حول الوضعية العامة يدخل في خانة التقارير التي خدمت استراتيجية الدولة وكانت من الأسباب التي عجلت بقيام تجربة التناوب التوافقي،فكيف يمكن فهم هذا الرفض المتوالي للدولة وعلى امتداد السنوات الأخيرة لعدد من التقارير التي انتقدت جوانب متعددة من أدائها؟ في خدمة استراتيجية الدولة: تقرير البنك الدولي لسنة 1995 في هذا السياق يمكن العودة إلى التقرير الشهير الصادر عن البنك الدولي سنة 1995الذي بات حينها مجال اعتراف رسمي وعمومي بخلاصاته،ومحط إجماع سياسي عام حول توصياته،. فإذا كانت تقارير البنك الدولي سلوكا اعتياديا تقوم به المؤسسة الدولية بشكل دوري لنشر خلاصات دراساتها للأوضاع العامة الاقتصادية والاجتماعية لمجموعة من البلدان والوقوف على مدى نجاعة تطبيقاتها لتوجيهات مؤسسات الإقراض الدولي، فإن ماميز تقرير البنك الدولي لسنة 1995 حول المغرب أنه أتى بعد طلب وجهته السلطة السياسية إلى البنك من أجل إنجازه. وقد حملت الإحالة على هذا التقرير من طرف الملك الراحل الحسن الثاني في خطابه الشهير حول السكتة القلبية ، أكثر من دلالةّ: أولا - أن ذلك وإن دل على نوع من الشجاعة من قبل ا لسلطة السياسية في طرح المشاكل الحادة على المستوى الاقتصادي والاجتماعي التي يعانيها المغرب، فإنه في الوقت نفسه حمل نوعا من الحساب الاستراتيجي بهدف توظيف البنك الدولي كذريعة لقول ما لا يقال كما أشار آلى لك الباحث جون كلود سانتوسي. ثانيا - أن السلطة السياسية حرصت على تبني انتقاد حاد لأسباب الأزمة الاقتصادية والاجتماعية التي بلغها المغرب أواسط التسعينيات في مقابل تخمينات جد متفائلة رأت آنذاك في المغرب "تنينا متوسطيا" قادما، وكذلك بمثابة تحدي في وجه معارضة سياسية تبدو غير مطلعة على حقيقة الوضع الاقتصادي والاجتماعي العام للمغرب. ثالثا - أن الملك الراحل ، بوضعه التقرير البنك الدولي في قلب المجال العام بالمغرب، حرص على منح التقرير مرتبة موازية لتلك التي يحتلها خطاب العرش على مستوى التدبير الرمزي لعلاقته بالشعب إن نشر تقرير البنك الدولي آنذاك كان بمثابة إشراك للرأي العام وإطلاعه على حدة المشاكل المطروحة وإعداده لقبول إصلاحات قادمة موجعة. ولعل من بين أهم الخلاصات التي أشار إليها التقرير هي حدة العجز الاجتماعي والبنيوي الذي عانى منها المغرب آنذاك.فخلال عقد التسعينيات أصبح المغرب مصنفا في المرتبة 197 في سلم التنمية البشرية خلف الجزائر في المرتبة 85 وتونس في المرتبة 75،حسب تقرير البرنامج الأممي الإنمائي الصادر سنة 1995 لقد عملت الدولة إذن على توظيف خلاصات التقرير لخدمة حسابات داخلية هي شرعنة الحديث الرسمي عن الأزمة الاقتصادية والاجتماعية،وضمان تمرير الإصلاحات الاقتصادية والاجتماعية "القاسية"التي أتت بعد ذلك في إطار برامج لتعاون الاستراتيجي مع البنك الدولي .كما استعمل التقرير لممارسة ضغط سياسي على المعارضة آنذاك تحضيرا لمسلسل التناوب السياسي. ولاغرابة أن تقوم المعارضة نفسها بتطبيق توصيات البنك الدولي،بعد ثلاث سنوات من صدور تقرير البنك سنة 1995 من خلال حكومة التناوب التوافقي التي عين الملك الراحل اليوسفي على رأسها وزيرا أول.
تقارير ضد الحكومة في مقابل تقرير البنك الدولي الصادر سنة 1995، مافتئت الحكومة المغربية خلال السنوات الأخيرة تعبر عن عدم رضاها من مضامين عدد من التقارير الصادرة عن برنامج الأممالمتحدة الإنمائي والبنك الدولي ومنظمة ترانسبارانسي الدولية وعدد من المنظمات والمؤسسات الدولية الأخرى هكذا أصبح اعتراض الحكومة على تقارير التنمية البشرية الصادر عن برنامج الأممالمتحدة الإنمائي اعتراضا شبه قار ينتقد خلاصات التقارير الصادرة عن البرنامج الأممي والمراتب التي يوليها للمغرب خلال السنوات الأخيرة والتي مافتئت تتراجع سنة بعد أخرى، هكذا فقد خسر المغرب ثلاث نقط في التقرير الذي أصدره البرنامج برسم 2007= 2008 في حساب مؤشر لتنمية البشرية وقد صنف التقرير الأممي المغرب ضمن البلدان ذات التنمية البشرية التي تحمل مؤشرا أقل من المتوسط العالمي، واضعا المغرب إلي جانب دول مثل موريتانيا والسودان وجيبوتي. كما حقق المغرب تراجع أخر يتعلق بمقياس التنافسية الاقتصادية وتحسين مناخ الأعمال وأصبح يحتل الرتبة 73 في تقرير التنافسية الشاملة لسنتي 2008 و 2009 ويتخذ التقرير من وضعية البنية التحتية والمؤسسات والاستقرار الماكرواقتصادي والنظام الصحي والتعليمي مؤشرات لقياس مدي تقدم الدول أو تراجعها في سلم التنافسية وحدد تقرير المنتدى الاقتصادي العالي عوامل تراجع المغرب في الفساد والنظام الضريبي وإمكانيات الولوج إلى التمويل، ولم يلق هذا التقرير بدوره رضى الحكومة الحالية حيث انتقدت، على لسان وزيرها في المالية صلاح الدين مزوار مضامينه وتصنيف المغرب فيه. كما تراجع المغرب في ترتيب الدول حسب مؤشر السلم والاستقرار من المرتبة43 إلى المرتبة 63 حسب التقرير لذي يصدره الصندوق الدولي من أجل السلام برسم سنة 2008. وعرف ترتيب المغرب تراجعا كذلك حسب ترانسبارانسي الدولية من الرتبة 72 إلى الرتبة 80 حسب التقرير الذي أصدرته المنظمة الدولية الصيف الماضي، وهو ماشكل عنصر إزعاج حسب ما صرح به خالد الناصري للصحافة بعد صدور التقرير. وقد يبدو الأمر معقولا أن تعبر الحكومة عن عدم رضاها على بعض التقارير التي تصدرها جهات دولية، من منطلق عدم اتفاقها مع هذا المؤشر أو ذلك وكذا حرصها على صورة المغرب في الخارج وأثرها علي الاستثمار والتنمية. وكذلك علي اعتبار أن ليس كل التقارير تتوفر فيها شروط التحري العلمي لمعطيات الواقع الاقتصادي والاجتماعي والحقوقي بالمغرب. بيد أن الأمر يخرج عن دائرة المعقول أن يصبح الرفض المستمر هو وسيلة الحكومة في استقبال التقارير الدولية والتعليق عليها. في هذا السياق نفترض أن الاختلاف الظاهر أحيانا بين أرقام وزارة المالية وأرقام المندوبية السامية للتخطيط ، وبين المعطيات والخلاصات التي تعلنها هذه الأخيرة وتلك الواردة في تقارير برنامج الأممالمتحدة الإنمائي هو اختلاف طبيعي بالنظر إلى اختلاف طبيعة المؤسسات التي تصدر تلك الأرقام وتعمل علي تركيبها في خلاصات عامة. إذ من الطبيعي أن تختلف جهة رسمية مع أخري دولية أو مدنية في رسم ملامح التطور الاقتصادي والمجتمعي عموما. ولايختلف هذا المنطق إلا مع منطق الإجماع الذي يسعى إلي توحيد كل التصورات والقراءات في تصور واحد. ولاشك أن سيادة حالة التوافق السياسي التي يعيشها المغرب منذ قيام التناوب التوافقي إلي اليوم، وتجول هذه المنطق إلي مكون سلبي يؤثر في تطور السياسة ومؤسساتها هي أحد تشجيع هذا التصور الإجماعي وتكريسه. ويزيد من استفحال دلك غياب شبه تام لوظيفة المعارضة السياسية عن مجالنا السياسي مباشرة بعد انتقال أحزاب المعارضة السابقة إلي ممارسة المهام الحكومية. تشير بعض الدراسات إلى وسيلة تنتهجها تونس لنيل مراتب مشرفة في تقارير المنظمات الدولية والأروبية.وتقوم هذه الوسيلة علي حرص تونس على الاعتناء الشكلي بالمؤشرات المحورية التي تقوم عليها هذه التقارير في مجال الاقتصاد والتنافسية، لذلك نجد تونس محتلة لمراتب مشرفة حسب مؤشرات التنافسية ومناخ الأعمال مثلا، وهو مايعتبر بعيدا عن الواقع التونسي الذي يشهد الجميع بسيطرة النظام السياسي الحاكم فيه على كل جوانب المبادرة الاقتصادية الحرة. أما الوسيلة الأنجع في ربح رهان التنمية والديمقراطية فتقوم على رفع عوائق البرامج الإصلاحية ومغادرة منطق المجابهة المستمرة مع كل تقارير الخارج وإنهاء صيغ الترويج الإيديولوجي لانتصارات قد لاتراها إلا الحكومة.