جميع العقلاء في العالم يعتبرون أن الاختلاف هو قيمة إيجابية على المرء أن يستثمرها كي يكتشف آراء أخرى ولكي يدرك مدى قدرته على طرح أفكاره بروية دون تعصب ودون خلفيات وكذا لامتحان طريقة تفكيره وأسلوبه في الإقناع. وعندما يكون الاختلاف موضوعيا فإنه يطرح صيغا كثيرة للتوافق دون أن يتهم المختلفان بعضهما البعض بالنيات المبيتة ولا بمحاولة الإيقاع بالآخر. لكن عندما يتلوث هذا الاختلاف بالحسابات السياسية ويتغاضى عن المصلحة العامة، خاصة في تدبير شؤون المواطنين، فإن الأمر هنا يتطلب إعادة نظر جذرية في طريقتها لتدبير الحوار. ملف الأستاذة المتدربين يفرض مثل هذا النقاش لاسيما مع المستجدات الأخيرة التي أخرجت بعض أعضاء الحكومة عن صمتهم. اختلاف أعضاء نفس الحكومة في معالجة موضوع ما، من المفروض أن يطرح عدة حلول بحيث يتم البحث فيها عن الحل الواقعي والأكثر ميلا للتنفيذ، لا أن يخلف ذلك اتهامات بليدة بين هيأتين سياسيتين. وقديما قال الحكماء اليونان «من الاختلاف يخرج أجمل ائتلاف». الحل الذي أبلغته الحكومة للمتدربين في آخر جلسات التفاوض هو توظيفهم على دفعتين الأولى في يوليوز تبعا لقانون المالية الخاص بهذه السنة والثانية في يناير تبعا لقانون المالية الخاص بسنة 2017 وهو ما رفضه الأساتذة المتدربون مطالبين بضمانات. التقدمي نبيل بنعبد الله ساند حليفه عبد الاله ابن كيران قائلا في مؤتمر استثنائي لحزبه نظم على عجل، «إن الحكومة أعطت كل ما في وسعها لحل ملف الأساتذة المتدربين»، مؤكدا على أن رئيس الحكومة رفض الحل الذي تقدم به ادريس لشكر وإلياس العماري الخصم اللذوذ لابن كيران، وهو الحل القاضي بتوظيف الفوج بأكمله دفعة واحدة وفق ترتيبات معينة، وذلك بمبرر أنه لا توجد مناصب مالية كافية. المبادرة الأخيرة لبعض الأحزاب السياسية في التوسط في الملف (حزب الأصالة والمعاصرة وحزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية)، أثارت غضب رئيس الحكومة وأخرجته عن وعيه لاسيما بعد أن تناولت بعض الجرائد الموضوع، فقال قولته الشهيرة في مستهل مجلس مؤسسة دستورية تقرر فيها مصائر البلاد وهي مجلس الحكومة: « هذا كلام منكر وقبيح جدا وأصحابه لا خلاق لهم ومن يشيعه لا يستحيي... وهادشي كلام جرانين وبعضها حقير وبعضها كذاب ويختلق أخبارا غير صحيحة». بل اعتبر أن أي وساطة لاتلزم الحكومة في أي شيء!! إذن، ابن كيران طرح حلا رفضه الأساتذة ثم تقدم حزبان من المعارضة بحل جديد رفضه ابن كيران وسانده في ذلك نبيل بنعبدالله، وهو ما يقتضي البحث عن حل آخر لإنهاء هذا المشكل الذي شغل الشارع المغربي. بعد يومين خرج الوزير المعني بالمناصب المالية محمد بوسعيد، ليرد على سؤال كتابي تقدم به حزبا الوساطة المعارضين. وفي معرض جوابه أشار بوسعيد إلى أن هناك حل للموضوع يقضي بإجراء تعديل في قانون المالية، مساندا في ذلك اقتراح لشكر والعماري وأن ذلك لا يقتضي سوى تقديم مقترح قانون من طرف الفرق البرلمانية للرفع من عدد المناصب المالية المخصصة لوزارة التربية الوطنية والتكوين المهني خلال ميزانية 2016 من سبعة إلى عشرة آلاف منصب وبالتالي توظيف كل الأساتذة. اقتراح بوسعيد جاء لينهي بشكل قانوني الملف ويحفظ لابن كيران ماء الوجه، ذلك أن البرلمان هو الذي صادق على قانون المالية وبالتالي هو الذي سيطالب بتعديله لتوظيف كل الدفعة من الأساتذة المتدربين. ابن كيران ارتاب من توقيت السؤال الكتابي والجواب عليه، رافضا مضمون الجواب الذي قدمه بوسعيد للفريقين البرلمانيين البامي والاتحادي، ولم يتوقف ابن كيران عند حدود الرفض، بل منع على كل وزير أن يدلي بدلوه في هذا الملف. من حيث الواقع فإن الحل الأخير عملي لأن الأساتذة سيلتحقون بفصولهم الدراسية مع بداية الموسم الدراسي، وبالتالي لن يكون هناك أي عرقلة للدراسة وسيمكن الحد من الخصاص الذي تعرفه مدارسنا سنويا، بخلاف الحل الذي اقترحه ابن كيران والقاضي بتوظيف دفعة أولى في يوليوز ودفعة ثانية في يناير، أي أنه بعد ثلاثة أشهر من انطلاق الموسم الدراسي القادم سيلتحق ثلاثة آلاف أستاذ بوزارة التربية الوطنية، علما أن الخريطة المدرسية يتم إعدادها قبل الدخول المدرسي، وبالتالي فإن المئات من التلاميذ سينتظرون أساتذتمه إلى غاية يناير كي يبدؤوا موسما دراسيا متأخرا!!! الحل الذي طرحه ابن كيران غير عمليم ولا يراعي مصلحة أبنائنا، وبالتالي فإن الحل الأقرب إلى التطبيق هو تعديل قانون المالية خلال الدورة البرلمانية التي من المنتظر أن تنطلق يوم الجمعة القادم. في الحقيقة لو كانت الأمور تسير بهذا الشكل لكان الأساتذة المتدربون قد وجدوا حلا لملفهم منذ بداية المشاكل، غير أن الفاعلين السياسيين لا ينظرون إلى هذه القضية من نفس الزاوية، فلكل حساباته وترتيباته، وهي بالضرورة لا تفضي إلى نفس النتيجة أو على الأقل لا تصب كلها في صالح هذه الفئة. جميع السياسيين اليوم، وعلى رأسهم الذين لهم علاقة بملف الأساتذة، يتطلعون إلى انتخابات تشريعية على الأبواب وبالتالي فقد وضعوا عقولهم في ثلاجات، إلى ما بعد أكتوبر المقبل، أما هذه الأيام فسيعملون بعقول الحوانيت الانتخابية.