بعيدا عن الشواهد الترابية المتآكلة التي تؤرخ لحيوات الأموات وسط المسالك المتعرجة داخل المقابر، تطل شواهد ورقية تؤرخ لبعث جديد. شواهد تحيل الميت على عالم الأحياء حتى ولو كانت عظامه رمَّت. منهم من عادت به الحياة من أجل تفويت عقار تتجاوز قيمته 16 مليار سنتيم .. وآخر مالك “كريان” بيضاوي بعث حيا وفوت ملكه إلى شركات خواص. إضافة إلى تاجر استصدر من طبيب شهادات طبية لوالده وأخته المتوفيين .. والعديد القصص الغرائبية عن أموات أعادتهم شواهد مزورة إلى الحياة. هي وقائع وقضايا وحوادث غريبة وصل صداها إلى ردهات المحاكم، وكشفت عن نشاط مافيات خطيرة همها المتاجرة بالحياة والموت من أجل المنافع المادية. «ميمكنش، شكون اللي قال ليكم أصلا أنها تباعت، مولاها راه ميت هاذي مدة طويلة، واش هاذي الفوضى .. راه الدولة كاينة؟» عبارة انصهرت فيها نبرات التساؤل والحيرة والاستنكار، وجدت طريقها إلى العلن، لتفضح الجزء المستور من تفاصيل فضيحة تحرير شهادة مزورة، أعادت إلى الحياة مالكا لوعاء عقاري كبير بالبيضاء توفي منذ أزيد من عشر سنوات. داخل الكريان، تجمهر العديد من الوافدين أمام إحدى البراريك المتناثرة فوق إحدى المساحات العشوائية لمتابعة فصول النقاش الحاد بين ممثلي ساكنة “الكريان” وأحد المفوضين القضائيين. الحوار المستعر بين الطرفين سرعان ما انتهت أشواطه الأولى أمام مكتب قائد الملحقة الإدراية، بتقديم وعود بإجراء بحث إداري حول الواقعة الملتبسة. مالك “كريان” يبعث حيا! «استرسال الأخبار عن هذه الجرائم في العديد من اليوميات المغربية، مؤشر حقيقي على تطور النشاط الإجرامي المنظم. مثلا أغلب القضايا التي تكلفت بالترافع فيها، كشفت عن وجود مايشبه تحالف حقيقي بين شبكات تزوير الشواهد ومافيات السطو على العقارات». وقائع يحكيها محام من هيئة الدارالبيضاء من واقع تجربته كمحامي ترافع في قضايا الشهادات المزورة. كشف المحامي خلال الحديث معه عن تفاصيل الإيقاع بأول شبكة متخصصة في “إحياء الأموات” بالدارالبيضاء. «حيثيات الملف فضحت تفاصيل مهمات خطيرة وأدوار خفية قام بها طبيب معروف بسوابقه وتورطه في تحرير شهادات طبية كانت كافية، بأن تجعل الميت حيا يرزق ولو لبضعة ساعات». تتزاحم معطيات القضية التي تعود لبداية الألفية الجديدة في ذاكرة الرجل، ليتذكر معها وقع القضية على الرأي العام في فترة كان التزوير ينصب أساسا في ذاكرة المواطن على الشواهد الطبية الخاصة بالتغيبات البريئة من طرف الموظفين والتلاميذ، قبل أن تصبح تجارة رائجة تصب في جيوب المنتفعين ملايير السنتيمات. كانت المعطيات المتوفرة التي تضافرت من أجلها جهود الشرطة الولائية مع جميع المصالح بالدار البيضاء والمصالح الخارجية، تروم الوقوف على ارتباطات عناصر الشبكة مع متورطين مفترضين جدد. مجهودات المحققين نجحت في تحديد هوية موظف عمومي متورط في تحرير شواهد إدارية مزورة لفائدة عناصر الشبكة. التعرف على هوية الطبيب المتواطىء، كانت الخطوة الثانية التي سعت لها مصالح الشرطة القضائية. تم تكثيف التحريات التي أشارت إلى وجود حالات تزوير متعددة لشهادات أشخاص متوفين على فترات متباعدة، وهو الأمر الذي وقفت عليه المعطيات الميدانية وفحوى الشكاية التي رفعها أحد الضحايا في مواجهة الطبيب. المعطيات الجديدة جعلت مجرى بحث الشرطة يتخذ منحى آخر. حيث كشفت نتائج البحث النهائية عن أسرار عمليات تحرير الشهادات المزورة التي كانت تتم بسبب مشاكل عائلية في الإرث أو في إطار الترامي على العقارات. تم إلقاء القبض على الطبيب بعد تحريره وختمه شهادة مماثلة بعد كمين محكم قامت به العناصر الأمنية، «كانت ملامحه خلال المحاكمة تبدو هادئة. كان شخصا بعيدا عن الشبهات، لكن في النهاية لا يمكننا التنبؤ بما تنطوي عليه النفس البشرية» يقول المحامي، ويستطرد «المدقق في سياقات وحيثيات الوقائع المرتبطة بالتجارة في الشهادات المزورة على أنواعها، سيتوصل إلى نتيجة منطقية مفادها ارتباط هذه الأخيرة بشكل وثيق مع مافيات الترامي على العقارات، وتركات العائلات الغنية». تعود للحياة لبيع قطعة أرضية بسيدي قاسم ! كانت المعاملات تتم في جو “عادي” وفقا لرواية شاهد ضاق ذرعا بتجاوزات شخصية وازنة، ليعمل على توثيقها وكشفها للرأي العام. كانت تفاصيل القضية تستفز في نفسه سؤالا غريبا، كيف يترك الأموات قبورهم من أجل إجراء عمليات بيع وشراء وتفويت؟ ضمن تفاصيل القضية “النشاز” التي شدت انتباه ساكنة سيدي قاسم، وفضحت مظاهر الفساد المستشري في دواليب الإدارة سيدة متوفاة منذ سبع سنوات، تعود إلى الحياة أكثر من مرة، لتنجز معاملات تجارية تهم قطعة أرض قيمتها 16 مليار سنتيم. إمعانا في التوصيف الغرائبي المتوفية تتقدم أمام المحكمة من أجل إجراءات التقاضي وإتمام البيع، وتقديم طلب للتجزيء أمام المصالح المختصة. أصابع الاتهام في القضية الغريبة أشارت إلى أحد الأسماء الوازنة بمدينة وزان، بصفته مشتري الأرض من الهالكة “الحية”. إضافة إلى محام تكلف بإجراءات التقاضي نيابة عنها أمام المحكمة. حبلت تفاصيل القصة بالعديد من الوقائع الشاذة. في فبراير 2000، المشتبه فيه يشتري أراض تملكها المتوفاة على “الشياع” بضواحي المدينة، عن طريق وعد بالبيع. إجراءات البيع لم تكتمل نظرا لعدم استكمال المستحقات المالية للمالكة، التي عاجلتها الوفاة في 6 يونيو 2005. بعد أكثر من سنتين على تاريخ الوفاة، رفع المستفيد من وعد بالبيع دعوى قضائية أمام المحكمة الابتدائية بسيدي قاسم، بخصوص الوعد بالبيع الذي يربطه بالهالكة، مطالبا باستكمال إجراءات البيع. ناب عن الهالكة في إجراءات التقاضي محام ينتمي إلى عائلة المالكة المتوفاة، أظهرت وثائق رسمية أنه ضمن ورثتها، ليصبح الوعد بالبيع الذي يربط الطرفين بيعا نهائيا في 27 فبراير 2008 رغم مرور ثلاثة سنوات على وفاة البائعة! موثق ينصب على رجل أعمال! وضع ثقته الكاملة في أحد الموثقين، واختار المسطرة القانونية من أجل ضمان سلامة الوثائق المتعلقة بعملية شراء عقار. لم يكن رجل الأعمال، يتوقع أن رجل القانون الذي استأمنه ووضع بين يديه كل الوثائق الخاصة بشراء العقار، سيجعل منه ضحية لعملية نصب واحتيال، خاصة بعدما أقحم شريكا وهميا في عقد الشراء وباع حصته بمبلغ 500 مليون سنتيم. بدأت فصول هذه الواقعة، بعد اختيار رجل الأعمال، وشريكه لبقعة أرضية في المدينة الحمراء. لم يتردد رجل الأعمال في أن يحوز عقارا في أحد أرقى أحياء مدينة مراكش، خاصة بعدما تم الاتفاق على المبلغ الإجمالي للعقار. بعد مرور حوالي 6 أشهر من شراء الضحية للعقار. بدأ يضع الخطوط العريضة لإنشاء مشروع يعود عليه بالربح. بعد الاطّلاع على بعض الوثائق المتعلقة بالعقار، اكتشف أن عقد الشراء الذي تم تحريره لدى الموثق يتضمن طرفا ثانيا، لم يكن طرفا لا في عملية البيع ولا في عملية الشراء. السعي وراء فك خيوط القضية، دفعه إلى إجراء تحريات لاستجلاء الأمر. تمكن من الحصول على عنوان الشريك الجديد، فوقع ما لم يكن في الحسبان : شريكه المفترض في ملكية العقار شخص متوفى منذ سنوات. لم تقف الأمور عند هذا الحد، اكتشف الضحية أن الحصة التي أسندها الموثق إلى الشخص المتوفى باعها بمبلغ 500 مليون سنتيم. لتعرف القضية طريقها إلى القضاء، حيث عرفت جلسات المحاكمة الكشف عن ثغرات قانونية تسمح لبعض الموظفين الذي افترض فيهم المشرع المغربي الأمانة والمسؤولية التلاعب بحيوات الأموات عبر استصدار شواهد إدارية وطبية مزورة. يستصدر شهادة طبية لوالده وأخته المتوفيين! فصول الحكاية بدأت في مارس الماضي. تقدم صاحب شركة مختصة في الخيام بشكاية إلى دائرة مرس السلطان، يتهم فيها عاملا لديه بسرقة سجل الشركة وطابعها وبعض التجهيزات المكتبية. ولإبعاد الشكوك حوله قام العامل بإرسال شهادة طبية تخوله عجزا كليا مؤقتا مدته 15 يوما، ولأن صاحب الشركة شك في الشهادة الطبية بالنظر للحالة الصحية الجيدة التي كان عليها العامل، قصد نفس الطبيب بعيادته بالمعاريف وحصل منه على شهادة طبية لوالده المتوفي سنة 2009، قبل أن يلجأ فيما بعد صاحب الشركة والعامل إلى الصلح والتنازل عن الشكايات. لم تنته فصول القضية بإقفال الملف والصلح، بل فوجئ صاحب الشركة بدعوى اجتماعية فيما بعد، يتهمه فيها العامل أنه تعرض لحادثة شغل أثناء فترة عمله، معززا شكايته بشهادتين طبيتين مزورتين صدرت عن طبيب آخر، مدة الأولى 60 يوما. أما الشهادة الثانية فقد فقد حددت نسبة العجز ب20 في المائة، ومدتها 365 يوما! أمام هذه المأزق لم يجد صاحب الشركة بدا من التحقق بنفسه عن سر هاته الشهادات الطبية المبالغ فيها. توجه إلى نفس الطبيب، في عيادته بشارع الإمام القسطلاني وتمكن من الحصول على ثلاث شهادات طبية لأشخاص متوفين منهم شقيقته المتوفية في سنة 1973 وشخص آخر سنة 1995، ووالده المتوفي سنة 2009، حيث قررت النيابة العامة متابعة الطبيبين والعامل في حالة سراح بعد وقوفها على هذه الوقائع المثيرة بتهمة:«التزوير في محرر عرفي، والمشاركة في التزوير واستعماله، وتقديم إقرارات كاذبة عن وجود مرض أو عجز». هذا الملف المتشعب، ليس سوى نموذج من القضايا المعروضة على المحاكم المغربية، يكون أبطالها أطباء متورطون في تحرير شهادات طبية مزورة، عبر تضخيم مدة العجز تارة، ونسبتها لأشخاص انتقلوا إلى دار البقاء. شهادات طبية تباع وتشترى ويتم الحصول عليها بدون الإدلاء ببطاقة التعريف الوطنية، كما حصل مع الضحية صاحب شركة الخيام، الذي استطاع الحصول على شهادات طبية لأشخاص أموات، ولم يكلف الطبيبان أنفسها عناء طلب أية وثيقة هوية أو ضرورة إحضار المريض صاحب الشهادة، كل ما يهم هو دفع المبلغ المتفق عليه، الذي لم يتجاوز 200 درهم للشهادة الواحدة. شهادة طبية لميت على قيد الحياة! «غدي نصيفطوها هي والطبيب للحبس كيما سيفطونا!» قرار أجمع عليه ثلاثة ضحايا لطبيب حرر شواهد طبية مزورة في حقهم بإيعاز من امرأة استعملتها ضد الرجال الثلاثة وكانت سببا في سجنهم بعقوبات حبسية مختلفة، في ملف متشعب أحيل على ابتدائية عين السبع في نونبر من السنة الماضية، توبع فيها طبيب وامرأة وابنتها بتهم النصب وتزوير شواهد طبية أحدها لشخص فارق الحياة، وفبركة وقائع واستعمال وثائق مزورة0 بدأت فصول القضية حينما تقدمت امرأة تعمل تاجرة، بشكاية لأمن الحي المحمدي تتهم فيها أحد شركائها باغتصاب ابنتها، والغاية أن تتخلص من شريكها بعدما أثلقت بالديون، والبالغة في المجموع 60 مليون سنتيم. استغلت رغبة شريكها الشاب في الارتباط بابنتها التي تواطأت مع أمها، وعملوا على استدراج الشاب والزوج المستقبلي إلى بيت العائلة، بحجة أنها تريد أن تسلمه جزءا من مبلغ الدين، وطلبت منه إحضار الشيكات التي أعطتها له كضمانة لقاء استفادتها من شحنة أثواب0 حضر الشريك إلى المنزل، أملا في التوصل بجزء من مستحقاته، وزيارة خطيبته، لكنه فوجئ بخلو المنزل إلا من خطيبته التي ما أن رأته حتي أطلقت عقيرتها بالصراخ، واتهمته بكونه حاول أن يغتصبها، قبل أن يفاجأ بأمها مرفوقة ببعض الجيران تغلق الباب وتستدعي الشرطة، وكانت قبل ذلك عملت على استصدار شهادة طبية من الطبيب الموقوف، تثبت أن ابنتها تعرضت للاغتصاب والضرب مدتها 30 يوما، كانت كافية لاحتجازه، قبل أن يطالب دفاعه بإجراء الخبرة الطبية على ابنة شريكته، لمعرفة صحة ادعائها، حيث أكدت الخبرة الطبية أن الفتاة فقدت عذريتها منذ مدة تقارب السنة، أي أقدم من التاريخ المدون في الشهادة الطبية التي أدلت بها، وحررها الطبيب بعيادته الخاصة0 أمام هذه المعطيات الجديدة، ومع تقديم الضحية لشكاية لوكيل الملك يتهم فيها الطبيب بتحرير شواهد طبية مزورة، تم اعتقال المرأة وابنتها والطبيب، والتحقيق معهم، حيث اعترفوا بالمنسوب إليهم، قبل أن يلتحق إثنان من ضحايا المرأة والطبيب بركب المشتكين، للقصاص من المرأة والطبيب الذي خطت يده شواهد طبية مزورة أدت إلى متابعتهما، حيث قضي الأول مدة ثلاثة شهور حبسا نافذا بينما نجا الثاني من السجن بعد متابعته بشهر حبسا موقوف التنفيذ مع أداء الغرامة0 الطبيب المتابع في القضية لم يكتف بتحرير شواهد طبية مزورة للأحياء، بل تعدى الأمر بإصدار شهادة طبية لشخص ميت، بطلب من مهاجر بالديار الإيطالية، معطيات كشف عنها الطبيب أثناء التحقيقات سيما أن الشرطة ضبطت بعيادته الخاصة شواهد طبية موقعة على بياض، كما اعترف أيضا بكونه يحرر شواهد طبية للمهاجرين بتواريخ متقدمة حسب الطلب بمبالغ تتراوح ما بين 1200 و2000 درهم0 أنس بن الضيف / محمد كريم كفال