عندما يحين موعد الامتحانات، يحين معها التفكير في بعض الأمراض التي نخرت منظومتنا الاجتماعية و الأخلاقية و قصمت المناعة التي من المفترض أن يتدثر بها مجتمعنا. و التفكير الذي نقصده هو لا يعدو في حقيقته أن يكون تأملا يائسا لمنكر وقع التطبيع معه و التطبيل له حتى تخلى عدد كبير من الناس عن "أضعف الإيمان" التي يفرضها الدين و الحس السليم على كل ذي عقل و فهم، و هي " الرفض القلبي" و التأسف و الدعاء، و استعاضوا عنها بمفاهيم جديدة تبرر ضعفهم و انزواءهم و سلبيتهم تجاه ذواتهم و تجاه الغير. "الغش"...سلوك احتفظ بتسميته القديمة التي كانت صفة قدحية يمارس المجتمع بواسطتها سلطته العقابية الرمزية و حتى المادية في حق من يتجرؤون على خرق النظم المتعارف عليها بين الناس. كما أن الدين بدوره لم يكن متساهلا مع هذا النوع من الانحراف في أي مجال كان، و اعتبره ينم عن نوع من المكر و الخديعة و الجبن و الظلم الذي قد يطال ضرره المجتمع بأسره، بل إنه قد يصير في بعض حالاته "خيانة عظمى" تستوجب أقسى العقوبات. ذلك لأن الغش، بكل بساطة، يعتبر نقيضا للنظام و نسفا للمعايير و القوانين..إنه العنوان الأبرز لحالة من الفوضى التي تخيلها ذات يوم فلاسفة العقد الاجتماعي، حيث تتحول حياة الإنسان إلى حياة بئيسة و غير منتجة تشتغل ليل نهار على التهام نفسها بنفسها...الآن، و قد وصلنا إلى حالة من القلب الممنهج للقيم و الموازين، لم يعد فيه سلوك الغش عيبا و نقصا بقدرما أصبح عنوانا على "ذكاء اجتماعي" ينظر لأصحابه بنوع من التقدير و الإعجاب الذي يؤهلهم ليصبحوا قدوة لغيرهم. هكذا تصير الغاية تبرر الوسائل..جميع الوسائل بدون استثناء! ابتداء من مما يسميه الطالب "التحراز" و هو التسلح بأدوات تقليدية أو تقنية تعينه على قضاء حوائجه التي تمليها عليه أسئلة الامتحان، في الوقت الذي لم يعد يعينه فهم و لا خبرة سابقة و لا تعينه ذاكرة طبيعية لم تترك لها مباريات كرة القدم و أسماء اللاعبين و نواديهم و صفقات انتقالهم، و لا الممثلين و أفلامهم و مغامراتهم و المغنيين و سهراتهم، كل هذا لم يترك لذاكرة الطالب مجالا لاستيعاب أشياء أخرى خصوصا إذا كانت تتطلب جهدا و تحليلا و لا تثير متعة أو اهتماما. هذا الواقع أصبح أمرا يفرض نفسه و يرسم لنفسه مشروعيته الخاصة التي لا تكترث لأي مرجعية أخرى أخلاقية كانت أم قانونية أم عرفية، و هكذا أخذ المتشبثون بالقيم التي يعتبرونها أساس اجتماعهم و ركيزة رقيهم يحسون بأنهم يسبحون في منحى معاكس لتيار جارف قوي يدفعهم للنظر إلى أنفسهم على أنهم ديناصورات قديمة لن تلبث أن تتهاوى من تلقاء ذاتها لأنها لم تعد تصلح للبقاء!..لذلك لم يعد يثير الاستغراب أن يكون رجل التربية و التعليم يعيش مفارقة بين ما يقدمه و يسهر على تلقينه لطلبته من قيم و مثل، و بين ما يؤمن به هؤلاء الطلبة و يعتمدونه من وسائل و طرق توصلهم إلى بر الأمان...و كأن المدارس لم يعد لها من دور غير تدريس النشء حروف الهجاء و تاريخ "المثل القديمة" التي انتهت مدة صلاحيتها!..و إذا كان الرسول الكريم قد أوصى أمته بأن تستتر إذا ما ابتليت بشيء ينكره الدين، و ذلك حتى لا يقع التطبيع مع المنكر و قبوله و حتى لا تعترض الإنسان عوائق إذا ما أراد أن يتوب إلى الله و يعود إلى سبيل الرشاد، فإن طلبتنا اليوم، الذين سيتولون مسؤوليات الغد، لا يرون من مبرر يدفعهم للاختباء و الستر، بل يعتبرون انفسهم يستفيدون من "حق" شرعه لهم من قبلهم، و هم مستميتون في الدفاع عنه بالمراوغة أو بالتوسل أو بالتهديد و بغيره. و لنكون منصفين، سنحمل بعض رجال التربية نصيبهم من المسؤولية، حيث تلجأ فئات منهم إلى التساهل و غض الطرف عن مثل هذه السلوكات الانحرافية تارة بدعوى عدم ملاءمة المقررات الدراسية، و تارة أخرى بدعوى التعاطف مع الطلبة أو خوفا منهم و طمعا في رضاهم...و هم ينسون أن التنازل يعد موافقة و تطبيعا من "سلطة رمزية" في المجتمع على سلوك سندفع ثمنه غاليا عندما يثمر لنا "رجالا" – بالمعنى البيولوجي على الأقل- يقتاتون عل الفساد و الرشوة و الظلم و يدفعون مجتمعهم للتخبط في ظلمات الجهل و الفقر و الفتن النائمة.