عندما تغنى و تأمل الشاعر محمود درويش في معان الوطن، قال: تسأل ما معنى وطن..سيقولون : هو البيت..و شجرة التوت..و قن الدجاج..و قفير االنحل..و رائحة الخبز..و السماء الأولى..و تسأل: هل تتسع كلمة واحدة..من ثلاثة أحرف لكل هذه المحتويات..و تضيق بنا !؟ لعل تأملات درويش في " الوطن" قد تتردد بلغات و لهجات مختلفة في الكثير من البلدان و الأوطان. و إذا كان مثل درويش قد أسعفته لغته و روحه الإبداعية، فتوقف ليصوغ شعوره في كلمات جميلة و معبرة، فإن ملايين أخرى من البشر يكتفون بمجرد الإحساس الذي يتحول مع الأيام إلى معاناة ميئوس من علاجها.. ما أسوأه من إحساس عندما يضيق البيت..و السماء الأولى ..عندما يضيق الوطن بصاحبه، فتنتابه الوحشة و الوحدة و ربما الخوف..فلا يعود يرغب إلا في الموت أو الهرب..بحثا عن وطن يحس فيه بالأمن و الحياة..أو ربما يفقد فيه الإحساس فينعم بالهدوء و لو إلى حين. غيرك يا درويش..لم يكن يملك سلاحا مثل قلمك ليفرغ رصاصاته القاتلة في صدور و نفوس من يذيقه مرارة الظلم و مرارة الذل..فاختار أن ينتقم من ظالميه، بأن يحرق موضوع طغيانهم و تجبرهم..موضوع دسائسهم و مساواتهم..أن يحرق أوراق لعبهم التي يتبوؤون بها أدوارهم و مناصبهم في الأرض كما يشاؤون..اختار أن يحرق ذاته بدون كلمات و لا قافية..كعبد ينسحب من دوره و من عبوديته..فيترك سيده مشدوها مصدوما، و قد فقد سيادته! غيرك يا درويش ..ممن حضي بفرصة للتعلم في الوطن..تعلم أن " حب الأوطان من الإيمان"، فعاش مؤمنا بالله ثم بالوطن..صبورا..موقنا أن وطنه يبادله الحب و يزيد..فلما تنكر له وطنه و تنكر لحقوقه، و أهانه أمام الناس و أمام ذاته، بأن ضربه و شتمه و رمى به في الطرقات كما يرمى بكلاب يخشى على الناس من وبائها و سعارها..تحول إيمانه كفرا..فكفر بالوطن، و بأحجياته الزائفة و بوعوده و طلاسمه، و خرج كالمجنون يصيح في الشوارع و يصرخ و هو يعلم أن ( الله لا يحب الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم) أية..و هل هناك ما هو أكبر و أمر من هذا الظلم!؟ غيرك يا درويش..ربما لم يستمع لقصائدك..و ربما سمعها و لم يفقه معانيه..فظل متشبثا بهذه الأحرف الثلاثة ، و هو موقن أن الغد سيكون أفضل من اليوم..و بأنه سينعم ذات يوم بوطن و بملح و دقيق و سكر و علاج من المرض و تعليم لأبنائه و بحظوظ لهم و لغيرهم في العمل لا تعرف المحاباة و التمييز بين الناس..سينعم بوطن يتنفس فيه حرية و يحس فيه بعدالة يتساوى أمامها الجميع..تقصم ظهر كل من تسول له نفسه سرقة عرق الضعفاء و سرقة رغيفهم و دوائهم، أو الكذب عليهم و إهانتهم..فإذا به يتابع، بعينين غائرتين، في تلفزته الصغيرة كيف يبتسم اللصوص و يشمتون و يعدون الناس خيرا..و كيف يعربد السكارى الحقراء في قبة برلمان اكتشف أخيرا أنه خدعة و أكذوبة انطلت عليه منذ زمن طويل، و هو يعتقد لغباوته أنه مكان مقدس لا يقربه إلا ذووا الضمائر الحية المتيقظة الذين نصبوا أنفسهم للسعي في قضاء حوائج الناس و التحدث بلغة حاجتهم و إرادتهم..و إذا بعدالة الوطن..و عدالة دستوره الجديد و القديم تغمض عينيها و تمعن في إذلال و إهانة شعب بكامله..احتراما لحصانة سكير حقير يستحق أن يلقى به للجماهير الغاضبة تقتص منه و من وقاحته بالطريقة التي تشاء. ليتك يا درويش تظهر من جديد في وطن«نا»..في بيت ..أو شجرة توت..أو قن دجاج..أو قفير نحل ..فتخفف بطلقاتك من ألمنا و معاناتنا..لنقتل بخيالاتك لصوصا و خونة..ليتك يا درويش تظهر بيننا لتنوب عن دراويش هذا الوطن الذين كتبوا أشعارا بلغة صمتهم التي أغنى عنها لسان حالهم..سلام عليك يا من ضاق به الوطن حيا و ميتا..و سلام على كل وطن لا يقبل فوق ترابه إلا الموتى، بينما يقبر الأحياء تحث الثرى أو يلفظهم..سلام على «وطن ينزف دما ..ينزف وطنا.. ».