كأنه حاضر بيننا، يعيش أو يتابع الأخبار الطازجة، التي تنقلها الفضائيات عبر شبكات مراسليها، عن جديد القصف والخراب وأرقام الشهداء والمصابين، وحكاية القذائف الفسفورية البيضاء الحارقة، التي تلقيها قوات الاحتلال الإسرائيلي على قطاع غزة. كأنه حيّ بيننا، يدفع عنه عتاب الشهيد، تماما كما أعلنها في «حالة حصار»: «الشهيد يحاصرني كلما عشت يوماً جديداً ويسألني : أين كنت؟ أعد للقواميس كل الكلام الذي كنت أهديتنيه، وخفف عن النائمين طنين الصدى!». للحظة، تذكرتُ كل «تيارات» الهواء التي سبق أن نشرتها في «المساء»، بصدد فلسطين ولبنان والعراق، وغيرها من نقط الدمار والقتل والحصار. تذكرتُ «شهيدٌ في بطن أمه»، و«عائدون بلا نشيد»، و«دموع السنيورة وصواريخ الكاتيوشا»، و«الصاعدون إلى الله»، ولم أجد إلا أن أتابع الدماء الفلسطينية المعروضة طازجة عبر الفضائيات، قبل أن أعود، للمرة الألف، إلى دواوين وكتب الشاعر الراحل محمود درويش. في «يوميات الحزن العادي»، وبعد قصيدة «من يقتل خمسين عربياً يخسر قرشاً»، نقرأ لشاعر «مديح الظل العالي»، في قصيدة «صمت من أجل غزة»، أن غزة: «تحيط خاصرتها بالألغام.. وتنفجر.. لا هو موت.. ولا هو انتحار لا هو سحر ولا هو أعجوبة، إنه سلاح غزة في الدفاع عن بقائها وفي استنزاف العدو لأن غزة بعيدة عن أقاربها ولصيقة بالأعداء.. لأن غزة جزيرة كلما انفجرت، وهي لا تكف عن الانفجار، خدشت وجه العدو وكسرت أحلامه وصدته عن الرضى بالزمن. لأن الزمن في غزة شيء آخر.. لأن الزمن في غزة ليس عنصراً محايداًً إنه لا يدفع الناس إلى برودة التأمل. ولكنه يدفعهم إلى الانفجار والارتطام بالحقيقة. الزمن هناك لا يأخذ الأطفال من الطفولة إلى الشيخوخة ولكنه يجعلهم رجالا في أول لقاء مع العدو.. ليس الزمن في غزة استرخاء ولكنه اقتحام الظهيرة المشتعلة.. لأن القيم في غزة تختلف.. تختلف.. تختلف.. القيمة الوحيدة للإنسان المحتل هي مدى مقاومته للاحتلال، هذه هي المنافسة الوحيدة هناك. وغزة أدمنتْ معرفة هذه القيمة النبيلة القاسية.. لم تتعلمها من الكتب ولا من الدورات الدراسية العاجلة ولا من أبواق الدعاية عالية الصوت ولا من الأناشيد. لقد تعلمتها بالتجربة وحدها وبالعمل الذي لا يكون إلا من أجل الإعلان والصورة. إن غزة لا تباهي بأسلحتها وثوريتها وميزانيتها، إنها تقدم لحمها المر وتتصرف بإرادتها وتسكب دمها. وغزة لا تتقن الخطابة.. ليس لغزة حنجرة.. مسام جلدها هي التي تتكلم عرقا ودما وحرائق. من هنا يكرهها العدو حتى القتل. ويخافها حتى الجريمة. ويسعى إلى إغراقها في البحر أو في الصحراء أو في الدم. من هنا يحبها أقاربها وأصدقاؤها على استحياء يصل إلى الغيرة والخوف أحيانا. لأن غزة هي الدرس الوحشي والنموذج المشرق للأعداء والأصدقاء على السواء. ليست غزة أجمل المدن.. ليس شاطؤها أشد زرقة من شؤاطئ المدن العربية وليس برتقالها أجمل برتقال على حوض البحر الأبيض. وليست غزة أغنى المدن.. وليست أرقى المدن وليست أكبر المدن. ولكنها تعادل تاريخ أمة. لأنها أشد قبحاً في عيون الأعداء، وفقراً وبؤساً وشراسة. لأنها أشدنا قدرة على تعكير مزاج العدو وراحته، لأنها كابوسه، لأنها برتقال ملغوم، وأطفال بلا طفولة وشيوخ بلا شيخوخة، ونساء بلا رغبات، لأنها كذلك فهي أجملنا وأصفانا وأغنانا وأكثرنا جدارة بالحب. أجمل ما (في غزة) أنها خالية من الشعر، في وقت حاولنا أن ننتصر فيه على العدو بالقصائد، فصدقنا أنفسنا وابتهجنا حين رأينا العدو يتركنا نغني.. وتركناه ينتصر ثم جففنا القصائد عن شفاهنا، فرأينا العدو وقد أتم بناء المدن والحصون والشوارع. ونظلم غزة لو مجدناها لأن الافتتان بها سيأخذنا إلى حد الانتظار، وغزة لا تجيء إلينا، غزة لا تحررنا، ليست لغزة خيول ولا طائرات ولا عصي سحرية ولا مكاتب في العواصم، إن غزة تحرر نفسها من صفاتنا ولغتنا ومن غزاتها في وقت واحد، وحين نلتقي بها ذات حلم ربما لن تعرفنا، لأن غزة من مواليد النار ونحن من مواليد الانتظار والبكاء على الديار. صحيح أن لغزة ظروفاً خاصة وتقاليد ثورية خاصة ولكن سرها ليس لغزاً: مقاومتها شعبية متلاحمة تعرف ماذا تريد (تريد طرد العدو من ثيابها). وعلاقة المقاومة فيها بالجماهير هي علاقة الجلد بالعظم ... لم تتحول المقاومة في غزة إلى وظيفة ولم تتحول المقاومة في غزة إلى مؤسسة. لم تقبل وصاية أحد ولم تعلق مصيرها على توقيع أحد أو بصمة أحد ... من هنا تكون غزة تجارة خاسرة للسماسرة، ومن هنا تكون كنزا معنوياً وأخلاقيا لا يقدر لكل العرب. قد ينتصر الأعداء على غزة... قد يكسرون عظامها قد يزرعون الدبابات في أحشاء أطفالها ونسائها وقد يرمونها في البحر أو الرمل أو الدم ولكنها لن تكرر الأكاذيب ولن تقول للغزاة: نعم وستستمر في الانفجار لا هو موت ولا هو انتحار ولكنه أسلوب غزة في إعلان جدارتها بالحياة». في «حالة حصار»، يتحدث درويش، عن «مرتفعات الدخان»، حيث «لا وقت للوقت»، هناك .. حيث «نفعل ما يفعل الصاعدون إلى الله : ننسى الألم»، يقول درويش. هناك.. «جنرالٌ ينقّبُ عن دولة نائمة»، هناك.. «يقيسُ الجنود المسافة بين الوجود وبين العدم بمنظار دبّابة»، هناك.. «الحصار هو الانتظار على سلم مائل وسط العاصفة»، هناك.. «الأساطير ترفض تعديل حبكتها ربما مسّها خللٌ طارئٌ ربما جنحتْْ سفنٌ نحو يابسةٍ غير مأهولةٍ، فأصيبَ الخياليُّ بالواقعي .. ولكنها لا تغير حبكتها. كلما وجدتْ واقعاً لا يُلائمها عدّلته بجَرافةٍ». «في حضرة الغياب».. ينخرط درويش في عرض سيرة فاتنة بلغتها، موجعة بأحداثها وحنينها، تمتد من طفولة لاجئة إلى عودة تائهة: «يوقظونك من زمنك الخاص، ويقولون لك: اكْبر الآن معنا في زمن القافلة، واركض معنا لئلا يفترسك الذئب ... فاترك بقية منامك نائماً على نافذة مفتوحة، ليلحق بك حين يصحو عند الفجر الأزرق»، و»اخرج معنا في هذا الليل الخالي من الرحمة». سيحفظ شاعرنا ليل الألم عن ظهر قلب، من دون أن ينسى الطريق الضيق المتعرج الذي سيرميه وأهله بالشبهات. «وتسأل: ما معنى كلمة «لاجئ»؟ سيقولون: هو من اقتلع من أرض الوطن. وتسأل: ما معنى كلمة «وطن»؟ سيقولون: هو البيت، وشجرة التوت، وقن الدجاج، وقفير النحل، ورائحة الخبز، والسماء الأولى. وتسأل: هل تتسع كلمة واحدة من ثلاثة أحرف لكل هذه المحتويات... وتضيق بنا؟». بسرعة، سيكبر شاعرنا على وقع الكلمات الكبيرة، وسيرى نفسه في مطار أول وثان وثالث ورابع وعاشر شارحاً لموظفين لا مبالين درساً في التاريخ المعاصر عن شعب النكبة الموزع بين المنافي والاحتلال منذ أن هبطت عليهم جرافة التاريخ العملاقة وجرفتهم من مكانهم وسوت المكان على مقاس أسطورة مدججة بالسلاح وبالمقدس. سيعلو الطريق وسيهبط، سيتموج وسيتعرج وسيطول وسيتفرع إلى طرق لا حصر لها ولا نهاية تجتمع بالبداية. وبين الدخول والخروج زمنٌ مديدٌ، سيأذن لشاعرنا بوداع المنفى بما يستحق من شجن، وليودع «الذاهبين إلى ساحة البلاد الخلفية.. الخارجين من فضاء الأسطورة إلى وعاء الواقع الضيق»: إنهم «عائدون بلا نشيد عالٍ وبلا راية جسور، كمتسللين من ثقب جدار تارة، وتارة كمحتفلين بدخول بوابة واسعة لسجن حَسَن التسمية، وطنيِّ الفوضى. المهاجرون عائدون والعائدون مهاجرون»، ف «هل انتهت الرحلة أم بدأت؟»، سيتساءل شاعرنا، قبل أن ينقل صدمة عودته الشخصية: «في الظلام دخلنا، أو تسللنا إلى غزة»، وفي ذلك الليل المقطع بالحواجز والمستوطنات وأبراج المراقبة، سيكتشف شاعرنا، كم «يحتاج المرء إلى علم جغرافيا جديد ليعرف الحدود الفاصلة بين الخطوة والخطوة التالية، وبين الممنوع والمسموح، كصعوبة العثور على الغامض والواضح في اتفاقيات أوسلو». سيسير شاعرنا في أزقة غزة خجِلاً من كل شيء، قبل أن يتساءل: «أي داهية قانوني أو لغوي يستطيع صوغ معاهدة سلام وحسن جوار بين قصر وكوخ، بين حارس وأسير؟». في «حالة حصار».. «السلام اعتذار القوي لمن هو أضعف منه سلاحاً، وأقوى مدى».. و«أن تقاوم يعني: التأكد من صحة القلب والخصيتين، ومن دائك المتأصل: داء الأمل».