طبيعي أن يتفاعل المواطنون على اختلاف مشاربهم، مع الصرخة المدوية والمخترقة للآفاق والجبال، تلك التي أطلقتها فعاليات شبابية مطالبة بإلغاء معاشات البرلمانيين، لما تشكله إلى جانب ضغط صندوق المقاصة من أعباء إضافية على الخزينة العامة، وما تجسده من ريع سياسي، في ظل أزمات مالية واقتصادية، دفعت بالدولة إلى مراكمة ديون قد ترهن مستقبل الأجيال القادمة. ذلك أنه على مر نصف قرن من تأسيس البرلمان المغربي، والمواطن يتساءل بحرقة عن الإضافة النوعية لإخراجه من أوضاعه المتردية؟ الحصيلة: تعويضات ومعاشات تستخرج من جيوبه في شكل ضرائب، بدون طائل... وطبيعي أيضا أن يهتاج بعض النواب والمستشارين، المتشبثين بالمنحة السخية، والمتلفعين بشعار: "أنا ومن بعدي الطوفان"، أولئك الذين ألفوا الاغتراف من بئر تفوق عذوبتها حلاوة العسل، مستنكرين الحملة المستهدفة لشخصياتهم "الوازنة"، وهم الذين منحهم القانون حصانة تجمد الماء في ركب البشر، وتذيب صلابة الحديد والحجر، انتفضوا للدفاع عما بدا لهم حقا "مشروعا" في الظفر بمعاش ذي قيمة مالية هامة تتراوح ما بين: 9 آلاف و 15 ألف درهم شهريا، بينما يتقاضى الوزراء عند نهاية مهامهم حوالي أربعة ملايين سنتيم، ويرى برلماني غاضب أنه من الإجحاف الإقدام على حرمانهم حيث يقول: "واش هاذ لمفلسين بغاو البرلماني مسكين يمشي يسعا منين تسالي ولايتو؟". من المعلوم أن البرلمان المغربي، وانطلاقا من سنة: 1996 أصبح يتكون من غرفتين، ربما ليكون بمقدوره احتضان ذلك الجيش العرمرم من "المقاتلين"، في سبيل تحرير البلاد والعباد من قبضة "المستعمر الغاشم": الفقر، وجيوشه الجرارة من الأزمات الاجتماعية والاقتصادية والمالية... فالغرفة الأولى وهي مجلس النواب تضم: 395 عضوا من "المظليين الأشاوس"، ينتخبون عن طريق الاقتراع المباشر لولاية مدتها خمس سنوات، يتقاضون خلالها: 36 ألف درهم عن كل شهر، أما الغرفة الثانية وهي تهم مجلس المستشارين، فتتكون من: 270 عضوا من "المشاة المغاوير" لهم نفس الامتيازات، ينتخبون بطريقة غير مباشرة، لمدة تسع سنوات ويتجدد ثلثهم كل ثلاث سنوات حسب دستور 1996، وهم من ممثلي الجماعات المحلية، وممثلي المأجورين ومنتخبي الغرف المهنية، بينما الدستور الحالي ل:2011، الذي مازال "معتقلا" في الرفوف، رغم ما ينص عليه من عقلنة لتركيبة المجلس في تحديد عدد أعضائه ما بين: 90 و 120 بدل 270، ليستمر العبث بأموال الشعب جاريا، في وقت يدعو رئيس الحكومة إلى التقشف، يعفي أصحاب مقالع الرمال من أداء الضريبة، ويزيد في النسخة الثانية من حكومته ثمانية وزراء: 39 بدل 31، دون إغفال ما يستتبع ذلك من مستلزمات مكلفة: مقرات، تجهيزات، وملحقين بالدواوين... وإذا كان البرلمانيون يستمدون قوة نيابتهم من الأمة باعتبارهم ممثليها، فالشعب ضاق بهم ذرعا، وأوجع دماغه المشهد السياسي ككل، بعدما تحطمت آماله واتضح جليا أنه خسر الرهان، حين رأى رؤية العين المجردة أن رئيس الحكومة وأمين عام الحزب الحاكم ذي المرجعية الإسلامية، الذي عاهد المواطنين على تخليق الحياة العامة ومحاربة الفساد والاستبداد، لم يتمكن إلى الآن من تحقيق القليل مما تعهد به، لافتقاده الإرادة السياسية القوية، والجرأة في تنزيل الإصلاحات الهامة... اختلت في عهده الموازين، وضاعت حقوق المواطنين، توالت خيبات الأمل، ولاحت في الأفق "أدخنة" الفشل، ارتفعت تكاليف الحياة، وتقلصت فرص الشغل، تقهقر مستوى التعليم، تعددت المظالم، تنامت الأمراض، وانتشرت الجرائم... فمن أين للمواطن بالأمن والطمأنينة، وبالعدالة الاجتماعية والعيش الكريم، في ظل غياب المشاريع التنموية، والارتكان إلى الحلول الترقيعية؟ الشعب اليوم يسعى إلى خلق جبهة قوية عمادها الشباب المتنور، القادر على المبادرة بعد أن خذلته الحكومات المتعاقبة والأحزاب السياسية المتناحرة على السلطة، وأجمعت قواه الوطنية على أن يكون أول الغيث قطرة: المطالبة بإلغاء معاشات البرلمانيين، لأن الولاية البرلمانية انتداب تشريعي محدد في المدة، وليست وظيفة عمومية يؤدى عن المهام الموكولة إلى صاحبها، ولا يجوز أخلاقيا أن تكون مهمة ذات صبغة نفعية يستفاد من ريعها مدى الحياة... فالبرلمان مؤسسة دستورية، خولها المشرع الاضطلاع ب: السلطة التشريعية، التصويت على القوانين، مراقبة العمل الحكومي وتقييم السياسات العمومية، وبما أنه بات ضرورة حتمية في ترسيخ الديمقراطية، كان من الأنسب للهيآت السياسية المنادية بالإصلاح في برامجها الانتخابية، بدل ترشيح الأعيان من أصحاب المال والنفوذ، لضمان المشاركة في اقتسام كعكة السلطة، أن تعمل على التأطير الجيد وتقديم المؤهلين للعمل البرلماني من الأشخاص ذوي الكفاءات العليا، من الجنسين في مختلف الفئات العمرية والسوسيو مهنية، الذين بإمكانهم إدارة الشأن العام وفق حكامة جيدة أو تشكيل فرق نيابية قوية لمراقبة سير الحكومة والقيام بالنقد البناء، قصد تطويرالمؤسسة نحو الخلق والابتكار، وإحداث ثنائية المشاريع والمقترحات... ترى أين هي جودة القوانين الكفيلة بتحقيق الطفرة النوعية المرجوة؟ فالمؤسسة التشريعية، مازالت تشكو من هزالة مردوديتها أمام ضعف الأداء والاستهتار بالمسؤوليات، وأي مصداقية تبقت لها بعد أن ترسخت في الأذهان صورة الكراسي شبه الفارغة، وتحول الجلسات الأسبوعية والشهرية، إلى حلبات للتطاحنات السياسوية؟ أين نحن من زجر الغياب؟ وكيف يسمح بالمصادقة على قوانين حاسمة دون نصاب قانوني؟ والأدهى من ذلك، أنه بمجرد ما تقرر اقتطاع نسبة: 2% من تعويضات النواب والمستشارين لفائدة صندوق التماسك الاجتماعي حتى ثارت ثائرتهم بمن فيهم أولئك الأشباح، الذين لا تربطهم بالبرلمان عدا بطاقته وقيمة التعويض، بدعوى عدم استناد القرار إلى أي مسوغ قانوني، وأن المسألة تقتضي تشريعا خاصا في هذا الإطار، لأنهم ببساطة يتلقون تعويضات وليس أجورا فيما المقتضيات القانونية، تخص بالاقتطاع فقط الموظفين المتقاضين شهريا لمبلغ 30 ألف درهم فما فوق... ونعم المنطق والدفاع المستميت ! المغرب، يعيش أزمات بنيوية وهيكلية عميقة، وقد تفاقمت أوضاعه الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والمالية، بمجيء حكومة "الإخوان" جراء سوء اختياراتها، ونهجها سياسات عمومية غير مجدية، أرهقت كاهل المواطن بالغلاء وزادته بؤسا. وإذ نثمن غاليا موقف بعض البرلمانيين الذين لم يترددوا في التجاوب مع دعوة إلغاء معاشاتهم، فإننا نأمل في استجابة كل ذي حس وطني لهذا المطلب الشعبي. وعلى السيد رئيس الحكومة، اهتبال هذه الفرصة الثمينة إنقاذا لماء الوجه، والإسراع بإيجاد صيغة ملائمة لترجمة جزء من حلم المغاربة إلى واقع ملموس.. ولم لا الدفع في اتجاه تحويل معاشات البرلمانيين والوزراء إلى منحة رمزية نهائية عند انتهاء ولايتهم؟ أكيد أن حسن استثمار مثل هذه الخطوة، وانخراط جميع فعاليات المجتع في إنجاحها من مثقفين وسياسيين ونقابيين وحقوقيين... سيمهد بلا شك لثورة هادئة تزيح الأسلاك الشائكة وتحل الكثير من الإشكالات المطروحة ك: معالجة ملف البطالة والمعطلين، وخلق نظام جديد للتعويض عن فقدان الشغل، وما من شأنه رفع بعض من الاحتقان الاجتماعي الحاصل. فلتستمر حملة إلغاء معاشات البرلمانيين جذوة متوهجة. وخير الختام قوله تعالى في الآية الكريمة 26 من سورة المطففين: " ختامه مسك، وفي ذلك فليتنافس المتنافسون " صدق الله العظيم.