موشومة بالدم القاني كان توقيعها في الزمن المغربي الرتيب، والمستكين إلى وهم الاستثناء، فتبددت على أعتابها مسلمات الخصوصية في محيط مضطرب مسكون بلغة الدم والأشلاء، تلك خلاصة عبور تلك الأحداث الاستثنائية في تاريخ المغرب، عبور لم تنته بعد فصوله، ولم تكتمل بعد معالمه، إنها أحداث 16 ماي الأليمة التي دشنت القطيعة بين زمنين مختلفين لمغرب واحد. مغرب الركون إلى رتابة زمن الاستثناء الذي انتقضت عراه واحدة تلو الأخرى، كأنها قصور من رمال وهم كبير، أو أنها خدعة نلوك بدون كلل تفاصيلها بانتشاء بالغ، ونحن ننسج لأنفسنا رداء من قناعات لا ترد بأس حرارة الاضطراب المتربص على أبوابنا، ولا تستر سوءة انكشافنا إلى درجة الاستباحة، ومغرب يستفيق على هول فاجعة صادمة، لا تبقي ولا تذر، مغرب أُريد له أن ينخرط على عجل وبلا تفكير في زمن ضبطت عقارب وقته على إيقاع مهووس بلغة الحرب والغبار، مسكون بكبيرة التصدي للجريمة بالجناية وبسبق الإصرار والترصد. لم يعد اليوم خافيا على أحد أن تدبير ملف العنف الذي فجرته أحداث 16ماي، رافقته أورام مرضية على مستوى الضبط الأمني، وجدت لنفسها مبررا في بشاعة الجريمة وخطورة الفعل، كما أنها تلمست إسنادا في طقس الحرب المعلن إقليميا ودوليا على إيقاع بناء نظام دولي جديد، ضاغط في اتجاه تبني المواجهة وتقسيم العالم إلى من مع ومن ضد في لحظة فرز غير عادلة تحكمها رؤية أحادية مستبدة، لتصريف اللحظة الدولية لدعم التفوق الأحادي بمنطق لا يقبل الاعتراف بالخصوصية ولا مجال فيه إلا لصناعة النمط المتحكم فيه وفقا لمصالح المتحكمين. ورم تجلى في هيمنة المقاربة الأمنية واستحواذها على كل فضاءات الفعل المتاحة أمام مقاربة الظاهرة، وتضخم أدى إلى ولوغ متكرر ومعاند في برك الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان وصلت حد الفجيعة، وجاءت الإدانة من أعلى مستوى سنتين بعد ذلك في الحوار الشهير للملك مع جريدة الباييس. اليوم وبعد انجلاء الغبار الكثيف حول الملف، وخفوت وطئ الطقس الدولي جراء انكسار المقاربة الأحادية المهووسة بلغة المواجهة، وتلاشي مفهوم القطب الواحد، الحاشد للحروب، الوالغ في الدماء، أصبح لزاما على الفاعلين من مختلف المواقع السياسية والحقوقية بلورة أفق ممكن للمصالحة يتأسس على المواطنة الحامية للحقوق والمُرتِبة للمسؤوليات من خلال نقاش جاد وعميق يحدد أهدافا قريبة وأخرى إستراتيجية بعيدة. بالنسبة للآفاق القريبة: لابد من إنهاء معاناة العائلات وأسر المعتقلين، وإنجاز مصالحة ثانية بإطلاق سراح كل من لم يتورط في جرائم الدم، سواء كان من فئة الذين حملوا أفكارا متطرفة لم تتم ترجمتها إلى أفعال عنيفة ضد الدولة أو المجتمع، أو كانوا من ضحايا تغول المقاربة الأمنية في مقاربة ملف طارئ على بنية الدولة وأجهزتها وفي سياق ضاغط سبق أن فصلنا فيه، حيث تم الزج بالمئات من الشباب دون أن تكون لهم أي علاقة لا بفكر ولا بسلوكات التطرف، إما تصفية لحسابات خاصة، أو توسعا في إظهار نجابة أمنية لجهات معينة. إن هذا الأفق متاح، وعائده مضمون، بل إن للانخراط فيه مآرب سياسية قصوى تُدعم جاذبية نسقنا السياسي في ظل انغلاق الأنماط المحيطة بنا أو المجاورة، وانجرار البعض منها إلى إعادة إنتاج أنماط التحكم البشعة والانقلاب على لحظة الربيع، وقضم هامات الورود غير المكتملة، والمنبجسة من ساحات الثورة وميادين التضحيات. ولعل أهم مؤشرات هذا المسار الذي أينعت ثماره وحل موعد قطافها، هو صلاة أمير المؤمنين خلف الشيخ محمد الفيزازي المحكوم في ملف يتعلق بالإرهاب بثلاثين سنة. ولا يضير في شيء ما يثار من تعقيدات تقف وراء إتمام هذا المسار وتحقيق إدماج اجتماعي وسياسي لهؤلاء المعتقلين، من نحو انجذاب مجموعات منهم إلى معارك الغير، وانخراطهم في جبهات القتال في الشام مثلا، وأظن أن الدفع بمثل هذا التبرير لإحكام الأبواب الموصدة أمام مصالحة محتملة، هو من قبيل الرجم بالغيب الذي لا يجدي في مقاربة الوقائع العنيدة، ذلك أنه لا يمكن بتاتا اعتبار استجابة مغاربة -معدودين على كل حال- لنداءات تؤسس جاذبيتها على رفع المظلمة والانحياز إلى إرادات الشعوب في التحرر والتحرير، دليلا كامل الأوصاف، ثابت النوايا، صادق الإصرار، على عداء الدولة أو مخاصمة المجتمع. كما لا يمكن اعتبار حالات معدودة من العود إلى اقتراف ذات الخطايا دليلا على عدم جدوى مسار المصالحة، على اعتبار عدم خلو كل المتلبسين بكبائر الجرم وفي كل بقاع الدنيا من آفة العود، والتي يجب أن تستنفر المختصين في علوم الإجرام لمداواة أعراضها بدل أن تكون مطية لدفن ضحايا تضخم المقاربة الأمنية وراء القضبان والى اجل غير مسمى . أما فيما هو استراتيجي، فأظن أن هناك تحولات كبيرة يشهدها المجتمع المغربي، آن الأوان لعقلاء هذا البلد من مختلف المواقع، أن يهبوا ودون إبطاء إلى فتح نقاش حقيقي حولها، ويتعلق الأمر بهذا الانزياح المجتمعي نحو سلوكات العنف وإدارة الجوار بلغة الإقصاء او حتى الاستئصال. إن أحداث 16 ماي التي كشفت سوءة الاستثناء المغربي المُدعى، وكشفت حجم الاختراق الفكري لحصون المناعة، من قبيل وحدة المذهب، ووضوح اختيارات الوسطية في العقيدة والفقه والسلوك، إن تلك الإحداث ليست إلا جزءً يسيرا من بداية تحول المجتمع نحو إدارة خلافاته أو حتى إدارة معاشه بلغة العنف، وضمور مساحات التعايش إلى درجة فظيعة، ولعل آخر صيحات هذا التحول والتي شكلت صدمة لمختلف المتتبعين تتمثل فيما اصطلح عليه بظاهرة التشرميل، والتي ليست حكرا على فئة شبابية أضحت بعيدة عن أعين الرقابة المجتمعية، ومنفلتة عن محاضن التنشئة الاجتماعية السليمة، بل تعدتها الى مجالات السياسة والفكر وحتى الرياضية والفنية، فآليات التخاطب في كل هذه المجالات أضحت مرتعا لإنتاج الإرهاب اللفظي، واستدعاء العداوات والضغائن على أرضية من المكر السياسي حينا، أو ترجمة لتقاطب فكري أو أيديولوجي حاد، أو حتى تعصبا لفريق رياضي أو مدينة أو قبيلة أو فنان. ولعل ذروة العنف تخطت مجالات الخطاب وانتقلت إلى مجال إنتاج السلوك، حيث تم توقيع هذا المسار النامي في المجتمع، بالاستهداف المادي للمخالفين وإلغاء وجودهم، وصلت في الحالة الطلابية درجة اغتصاب الحق في الحياة من خلال استشهاد الطالب عبد الرحيم الحسناوي . إن توسيعنا لمفهوم العنف والتطرف ليشمل كل هذه التمثلات هو اختيار إرادي يستحضر وعيا عميقا بان عنف السلفيات (بالجمع المتعمد) هو عنف متعدد يشمل كل المجالات . وان الانكفاء على الذات يخلق وهم طهرانيتها ويبيح تعاليها لينتج في النهاية مسلكيات الإقصاء ومسلكيات التكفير بأنواعه (ليس التكفير بالضرورة دينيا )، وحتى مسلكيات القتل وإباحته والاستهداف المادي للوجود بما يحمله من معاني عدم القابلية والقدرة على التعايش بجوار المخالف الشريك في الوطن والمصير . إنها أسئلة تنطلق من ظاهرة مخصوصة بشرطها الزماني والمكاني لتشمل مختلف التمثلات الممتدة في المجتمع أفقيا وعموديا. إنها أسئلة تسائل منظومة قيمنا وقدرتها على التحكم أو على الأقل التوجيه..أسئلة تسائل محاضن التنشئة الاجتماعية من مدرسة وأسرة وفضاءات العيش المختلفة..أسئلة تسائل نخبنا عن قدرتها على التقاط خطورة اللحظة واستيعاب تحديات المرحلة وبالتالي إمكان إنتاج خطاب يجيب عن هذه الحاجيات، وسلوكات تدعم جاذبية التعايش وتدين الإقصاء فكرا وسلوكا . 14 / 5 / 2014