شرطة بني مكادة توقف مروج مخدرات بحوزته 308 أقراص مهلوسة وكوكايين    تشييع جثمان الفنان محمد الخلفي بمقبرة الشهداء بالدار البيضاء    الدورة الثانية للمعرض الدولي لكتاب الطفل والشباب 2024.. مشاركة 340 عارضا وتوافد أزيد من 101 ألف زائر    المغرب يوجه رسالة حاسمة لأطرف ليبية موالية للعالم الآخر.. موقفنا صارم ضد المشاريع الإقليمية المشبوهة    حفيظ عبد الصادق: لاعبو الرجاء غاضبين بسبب سوء النتائج – فيديو-    دياز يساهم في تخطي الريال لإشبيلية    فرنسا تسحب التمور الجزائرية من أسواقها بسبب احتوائها على مواد كيميائية مسرطنة    المغرب يحقق قفزة نوعية في تصنيف جودة الطرق.. ويرتقي للمرتبة 16 عالميًا    مقتل تسعة أشخاص في حادث تحطّم طائرة جنوب البرازيل    فاس.. تتويج الفيلم القصير "الأيام الرمادية" بالجائزة الكبرى لمهرجان أيام فاس للتواصل السينمائي    التقدم والاشتراكية يطالب الحكومة بالكشف عن مَبالغُ الدعم المباشر لتفادي انتظاراتٍ تنتهي بخيْباتِ الأمل    الولايات المتحدة تعزز شراكتها العسكرية مع المغرب في صفقة بقيمة 170 مليون دولار!    الجزائر تسعى إلى عرقلة المصالحة الليبية بعد نجاح مشاورات بوزنيقة    انخفاض طفيف في أسعار الغازوال واستقرار البنزين بالمغرب    الرجاء يطوي صفحة سابينتو والعامري يقفز من سفينة المغرب التطواني    العداء سفيان ‬البقالي ينافس في إسبانيا    مسلمون ومسيحيون ويهود يلتئمون بالدر البيضاء للاحتفاء بقيم السلام والتعايش المشترك    جلالة الملك يستقبل الرئيس الموريتاني محمد ولد الشيخ الغزواني    بلينكن يشيد أمام مجلس الأمن بالشراكة مع المغرب في مجال الذكاء الاصطناعي    وقفة أمام البرلمان تحذر من تغلغل الصهاينة في المنظومة الصحية وتطالب بإسقاط التطبيع    جثمان محمد الخلفي يوارى الثرى بالبيضاء    مباراة نهضة الزمامرة والوداد بدون حضور جماهيري    لقاء مع القاص محمد اكويندي بكلية الآداب بن مسيك    لقاء بطنجة يستضيف الكاتب والناقد المسرحي رضوان احدادو    ملتقى النحت والخزف في نسخة أولى بالدار البيضاء    بسبب فيروسات خطيرة.. السلطات الروسية تمنع دخول شحنة طماطم مغربية    اتهامات "بالتحرش باللاعبات".. صن داونز يعلن بدء التحقيق مع مدربه    غزة تباد: استشهاد 45259 فلسطينيا في حرب الإبادة الإسرائيلية على غزة منذ 7 أكتوبر 2023    مقاييس الأمطار المسجلة بالمغرب خلال ال24 ساعة الماضية    ندوة علمية بالرباط تناقش حلولا مبتكرة للتكيف مع التغيرات المناخية بمشاركة خبراء دوليين    الرباط.. مؤتمر الأممية الاشتراكية يناقش موضوع التغيرات المناخية وخطورتها على البشرية    تفاصيل المؤتمر الوطني السادس للعصبة المغربية للتربية الأساسية ومحاربة الأمية    ألمانيا: دوافع منفذ عملية الدهس بمدينة ماجدبورغ لازالت ضبابية.    بنعبد الله: نرفض أي مساومة أو تهاون في الدفاع عن وحدة المغرب الترابية    البنك الدولي يولي اهتماما بالغا للقطاع الفلاحي بالمغرب    "وزيعة نقابية" في امتحانات الصحة تجر وزير الصحة للمساءلة    أكادير: لقاء تحسيسي حول ترشيد استهلاك المياه لفائدة التلاميذ    استمرار الاجواء الباردة بمنطقة الريف    خبير أمريكي يحذر من خطورة سماع دقات القلب أثناء وضع الأذن على الوسادة    استيراد اللحوم الحمراء سبب زيارة وفد الاتحاد العام للمقاولات والمهن لإسبانيا    تبييض الأموال في مشاريع عقارية جامدة يستنفر الهيئة الوطنية للمعلومات المالية    حملة توقف 40 شخصا بجهة الشرق    ندوة تسائل تطورات واتجاهات الرواية والنقد الأدبي المعاصر    "اليونيسكو" تستفسر عن تأخر مشروع "جاهزية التسونامي" في الجديدة    ارتفاع حصيلة ضحايا الحرب في قطاع غزة إلى 45259 قتيلا    القافلة الوطنية رياضة بدون منشطات تحط الرحال بسيدي قاسم    سمية زيوزيو جميلة عارضات الأزياء تشارك ببلجيكا في تنظيم أكبر الحفلات وفي حفل كعارضة أزياء    الأمن في طنجة يواجه خروقات الدراجات النارية بحملات صارمة    لأول مرة بالناظور والجهة.. مركز الدكتور وعليت يحدث ثورة علاجية في أورام الغدة الدرقية وأمراض الغدد    دواء مضاد للوزن الزائد يعالج انقطاع التنفس أثناء النوم    المديرية العامة للضرائب تنشر مذكرة تلخيصية بشأن التدابير الجبائية لقانون المالية 2025    أخطاء كنجهلوها..سلامة الأطفال والرضع أثناء نومهم في مقاعد السيارات (فيديو)    "بوحمرون" يخطف طفلة جديدة بشفشاون    للطغيان وجه واحد بين الدولة و المدينة و الإدارة …فهل من معتبر …؟!!! (الجزء الأول)    حماية الحياة في الإسلام تحريم الوأد والإجهاض والقتل بجميع أشكاله    عبادي: المغرب ليس بمنأى عن الكوارث التي تعصف بالأمة    توفيق بوعشرين يكتب.. "رواية جديدة لأحمد التوفيق: المغرب بلد علماني"    توفيق بوعشرين يكتب: "رواية" جديدة لأحمد التوفيق.. المغرب بلد علماني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



جنوح الأحداث مغربيا : طفولة في مهب ريح الهباء
نشر في أسيف يوم 23 - 10 - 2006

هناك أزيد من 4000 طفل ينامون في عراء البيضاء ،و هناك في مجموع التراب الوطني الآلاف من الأحداث الجانحين المودعين بمراكز حماية الطفولة و مراكز الإصلاح و التهذيب أو المنذورين بكل بساطة لعنف الشارع و منطقه الأعمى، هذا ما تؤكده الإحصاءات غير الرسمية طبعا ، أطفال انفرض عليهم الجنوح و الخروج عن معايير العقل الجمعي ، وجدوا أنفسهم في ظل أسر مفككة و أوضاع اجتماعية هشة تعز فيها الرعاية و الانشغال السوي بالطفولة ، فكان الشارع مآلهم ، فمراكز الحماية و الإصلاح، و منها إلى الشارع مرات أخرى ، للانتقال من مستوى الجنوح بالخطأ إلى الجنوح احترافا مفضيا إلى السجن و العود المستمر .
جنوح الأحداث بالمغرب يظل واقعا مفضوحا لا تنفع معه كل محاولات الإخفاء و التلميع، فالشوارع ملأى بمشاهد العطب الاجتماعي التي تؤشر على الجنوح و الاختلال ، أطفال في عمر الزهور يعزفون" الساكسفون البلاستيكي المضمخ بالسيليسيون "، و آخرون يتسولون أو ينشلون عند ملتقيات الطرق ، و غيرهم يمارسون أفعالا جانحة أخرى مختلفة في النوع و الدرجة . حالات مستفزة تدل على أنها طفولة في مهب ريح الهباء ، انسدت في وجهها أبواب الرعاية و التربية السوية ، فاستحالت مشاريع ممكنة لجانحين محترفين مستقبلا . فكيف يصنع الجنوح ؟ و ما العوامل التي تغذيه و تجعله باصما لمسارات من الأطفال المغاربة الذين تقول خطته الوطنية أنها" من أجل مغرب جدير بأطفاله "؟ و هل من الممكن أن يعيش أطفالنا طفولتهم كاملة من غير اغتصاب ؟ و هل من علاج للظاهرة في الأفق المنظور ؟محاولة في التفسيرإن العلوم الإنسانية آنا مدعوة بإلحاح للبحث مليا في شروط إنتاج وإعادة إنتاج "الاجتماعي" أو بصيغة أعم ذلك "المجتمعي" الذي يتقاطع مع مختلف أسئلة الفرد والجماعة في نسق محدد. ذلك أن البحث المعرفي في هذه الشروط من شأنه أن يساعد كثيرا في فهم و مقاربة العديد من الظواهر والحالات التي تنأى عن السواء الجمعي.فكيف ينشأ السلوك الجانح الفردي/الجماعي؟ كيف ينمو ويتبلور؟ وكيف يتم تكريسه ويعاد إنتاجه في سياقات مختلفة؟ وما الشروط الضرورية لإنتاجه؟ وتحديدا ما العوامل الأساسية التي تقف وراء انبنائه وتجذره واقعيا؟إن أسئلة كهاته تنطرح أمامنا بقوة ونحن نقتحم عوالم جنوح الأحداث، على اعتبار أن الفعل الجانح هو فعل شاذ ومستفز يستوجب منا في كل حين مزيدا من التساؤل طلبا للفهم والتفسير، وهو ما يدعونا إلى التعاطي معها والانفتاح عليها بحثا عن إجابات ممكنة لها، تسعف كثيرا في تشريح السلوك الجانح، لكن وبالرغم من التطور الذي عرفته المناهج والنظريات في العلوم الإنسانية، فإن التمكن العلمي التام من ظاهرة جنوح الأحداث ما زال بعيد المنال، لهذا كان من الطبيعي أن تتنوع المقاربات العلمية لهذه الظاهرة، من حيث التخصصات والتوجهات، وأن تصير لدينا مدارس عديدة تنهل من مختلف العلوم الإنسانية لتفسير السلوك الجانح، بل إن علوما كثيرة وبالنظر إلى حساسية هذا السلوك، لم تعد مقتصرة على اجتهاداتها الحقلية في تفسيره وإنما استعانت بعلوم أخرى رغبة في الرصد والفهم الموضوعي له، فعلماء الاجتماع اليوم ينقبون بامتياز عن العوامل الاجتماعية للسلوك الجانح، ويتوجهون نحو دراسة الشخصية، ولهذا فالمقاربة السوسيولوجية باتت تعتمد مناهج متعددة وتتوكأ على نظريات عديدة من علوم أخرى، فالباحثون في حقل السوسيولوجيا يعتمدون على التاريخ والجغرافيا والاقتصاد والتحليل النفسي و الأنثروبولوجيا لاكتشاف العناصر المكونة للنشاط الإجرامي. وهو ما يعني أن السلوك الجانح مثير جدا للجدل المعرفي، وموجب أبدا لشحذ آليات السؤال والتفكيك.فمنذ البدء والإنسان يحاول جاهدا أن يصل إلى تفسير مقنع لشروط إنتاج السلوك الجانح، وفي محاولاته سيرتكن حينا من الدهر إلى التفسير اللاهوتي والميتافيزيقي، معتبرا بأن الجنوح والإجرام ما هو إلا ترجمة لقوى خفية غيبية تستبد بشخصية الفرد وتؤثر فيه، وهو التفسير الذي ظل مالكا للقوة والحضور إلى حدود القرن السادس عشر، ولعل هذا التفسير الميتافيزيقي للسلوك الجانح هو الذي كان يؤطر الفعل العقابي والذي كان يجد تبريراته أحيانا في ضرورة تخليص المجرم من القوى الشيطانية التي تسكن روحه! إلا أنه في بداية القرن السادس عشر ستتجه أنظار الباحثين إلى دراسة العوامل البيولوجية في إنتاج الجنوح، وبالنظر إلى كون الدراسات المهمة الأولى حول الجانحين، قد أنجزت في الغالب من طرف أطباء في منظور محكوم إلى حد كبير بالفكر الدارويني، فقد كانت سجينة التفسير البيولوجي الصرف. لتتوالى الدراسات والاجتهادات في هذا الباب، والتي ستلجأ في اشتغالها على الجنوح إلى تحليل العوامل الإيكولوجية والاجتماعية والنفسية وحتى السياسية أخيرا. حالات و تساؤلات لكن السؤال الذي يتألق في الأعماق يظل مرتبطا بالسبب الذي يغير حال و مآل طفل ما من الوداعة و الاستقرار إلى الانحراف و الاحتراف الإجرامي ، فكيف يحدث هذا التحول الكارثي ؟ و ما دينامياته المحتملة في ظل الشرط المغربي ؟طبعا يأتي الطفل إلى الأسرة ورقة بيضاء كما يلح على ذلك آل العلوم الإنسانية، لينخرط في عميلة تطبيع اجتماعي تساهم فيها مؤسسات عدة كالأسرة و المدرسة و الشارع و وسائل الإعلام ... كل هذه المؤسسات تساهم بمقدار ما في تنشئة الطفل و تحويله من كائن بيولوجي إلى كائن اجتماعي ، و على طول هذه العميلة يتم تشريب عدد من المواقف و الممارسات و التجارب النفسية و الاجتماعية ذات الأثر البعدي ، و كلها تساهم نهاية في تكوين شخصية سوية أو منحرفة تبعا لظروف و ملابسات التطبيع الاجتماعي .فالطفل مثلا الذي ينشأ في ظل أسرة مفككة غير مستقرة تغيب من جنباتها كل مظاهر الرعاية و الاهتمام ، و تتألق فيها صيغ القمع و العنف و الحرمان ، ذات الطفل الذي لا يجد في الشارع غير أقران السوء و في وسائل الإعلام غير أفلام العنف و في المدرسة أيضا غير الإقصاء و العنف ، ألن تتضافر هذه العوامل كلها " لتصنع " منه جانحا بالفعل و بالقوة ؟الطفل الذي لا يسمح له بالحراك و لا التعبير حتى عن رأيه في الأسرة و المدرسة و في كل المؤسسات الاجتماعية ، و يتعرض للعنف مدى الوقت ، ألن ينشأ في أعماقه عنف مضاد ، مادام كل عنف يستتبعه عنف مواز له في القوة و الدرجة ؟ ألن يصير سهل الوقوع في متاهات الانحراف ، على الأقل ليثبت لمعنفيه و مبخسيه أنه يستطيع القيام بأفعال لا قبل لهم بها ؟الطفل الذي يحظى بالرعاية الزائدة ، و يكون المدلل رقم واحد في الأسرة و في كل مكان ، يمكنه أيضا أن يسقط في دوائر الانحراف ، لكونه لا يعرف معنى الجائز من غيره ، ما دامت كل طلباته مجابة ، فإذا كان الحرمان يؤدي إلى العدوان ، فالعطف المفرط يؤدي بدوره إلى العدوان و بصيغ أكثر شذوذا و خروجا عن معايير العقل الجمعي .و هذه النماذج الثلاث تكشف لنا من تلقاء نفسها أن جنوح الأحداث لا يمكن رده بأي حال من الأحوال إلى عامل واحد بالضرورة ، بل تتداخل في صناعته كثير من الأسباب الموضوعية و الذاتية التي تتوزع على ما هو نفسي و بيولوجي و اجتماعي و اقتصادي ، و إن كان البعد السوسيواقتصادي هو الأكثر تأثيرا في صياغة الجنوح عموما ، فالتأمل الموضوعي لجنح و جرائم الأحداث المودعين بمراكز حماية الطفولة التابعة لكتابة الدولة المكلفة بالشباب أو مراكز الإصلاح و التهذيب التابعة لمديرية إدارة السجون سيفضي بنا إلى التأكيد على أن العامل السوسيو اقتصادي هو الثاوي وراء الجنوح ، فالمخالفات و الجنح و الجرائم تكون دوما مفتوحة على هذا العامل ، و متوزعة على السرقة الموصوفة و التسول و تكوين عصابة إجرامية و الاغتصاب و في مستويات أخرى القتل الذي يكزن لأسباب سوسيواقتصادية أيضا . كما أن الانحدارات الاجتماعية لهؤلاء الأحداث الجانحين تؤكد هذا الأمر ، فأغلبهم ينحدرون من أسر مفككة تعيش على إيقاع العوز المادي و الحرمان العاطفي و الهشاشة القصوى . مما يدفع إلى تثوير سؤال آخر : أليس العطب العام هو الذي ينتج مجتمع الفقر و الفاقة ؟ و يكرس ثقافة الجنوح و اللا سلم الاجتماعي ؟ الأسباب العميقة مرورا بكل المقاربات البيولوجية، السوسيولوجية والسيكولوجية.. ما الذي يمكن الانتهاء عنده بصدد إنتاج جنوح الأحداث؟ ما الذي يتحتم علينا الوقوف عنده بإمعان؟ وإلى أي حد يمكن استلهام هذه المقاربات في تفسير إنتاج جنوح الأحداث مغربيا أي هنا والآن؟ ! فمن حين لآخر تطلع علينا مدينة ما بكسبها لقلب السبق، ليس في مستوى تحقيق عوامل الطفرة و الازدهار، وتحقيق الرفاه الاجتماعي لفائدة المواطن، ولكن الريادة والتميز يكون على مستوى الانتشار الفادح لثقافة الإجرام و تنامي أعداد أطفال الشوارع، فثمة مدن عديدة استحالت مراكزها و هوامشها وأحزمة فقرها إلى نقط سوداء تنتعش فيها مظاهر الفاقة والعنف والجنوح، مهددة بذلك قيم الاستقرار والسلم الاجتماعي، فما الذي يقف من أسباب وراء هذا الشيوع الخطير لدوائر الإجرام والتطاحن الاجتماعي؟ ما مسوغات هذه "الحرب الأهلية" في فضائنا المجتمعي؟ وما هي آليات إنتاج الجنوح مغربيا؟ وكيف يشتغل نسق النقط السوداء هنا والآن؟ في كل حين يتراءى لنا ما يؤثر على باثولوجيا اجتماعية مفتوحة على الجنوح المتقدم درجة ونوعا، وكأن الأمر يتعلق بصراع دائر بلا انقطاع بين مستفيدين من ميزات المجتمع وآخرين غير مستفيدين، أي بين مالكين لوسائل الإنتاج والإكراه وخاضعين مهمشين.إن التنمية المعطوبة التي اعتمدها المغرب منذ زمن بعيد، والتي راهنت بقوة على ضبط التوازنات الظرفية، و"إنجاح" سياسات التقويم الهيكلي، ولو على حساب مصالح المواطن، كانت سببا رئيسيا في خلق نموذج مجتمعي مشوه، تتقلص فيه إمكانات العدالة الاجتماعية وتكافؤ الفرص، وتتقوى فيه بالمقابل كل آليات التفقير والتمايز الطبقي. وإن الاختيارات اللاشعبية وسيادة منطق الهاجس الأمني في التعاطي مع الشأن المواطناتي، وإقصاء مطالب الفئات الدنيا من دوائر الأشغال الرسمية، كلها عوامل ساهمت في إنتاج العديد من النقط السوداء التي تحتضن كل ملامح الانحراف والاختلال. ففي هذه المناطق لا توجد الدولة إلا بشكل صوري أو مناسباتي، عبر مقدميها وشيوخها أو حملاتها الانتخابية والإحصائية، وخارج ذلك كله يغيب كل ما له علاقة بالدولة، بل ويرفض أي تدخل مخزني، ويكون رد الفعل عنيفا اتجاه كل محاولة للاقتراف. بحيث يمكن أن ترشق سيارة للأمن بالحجارة، إذا ما غامرت باقتحام هذه النقط السوداء. فبسبب استشعار التهميش والافتقار إلى أدنى شروط العيش الكريم يكون "الحنق على المخزن" قويا، وهو ما يؤدي إلى انتعاش تمثلات خاصة عن كل مبادراته وتحركاته، مع ما يستتبع ذلك من ردود فعل تجد تفسيرها وترجمتها الواقعية في إدمان المخدرات والخمور والاتجار فيها ومواجهة عالم "ما بعد النقط السوداء" بالاغتصاب والسرقة وباقي ألوان الإجرام، وكأن الأمر يتعلق بمحاولات لإسماع الصوت وتأكيد الحضور ووضع حد لهذا التهميش وأيضا للانتقام وانتزاع الحقوق ممن يفترض أنهم مسؤولون عن اغتصابها. من ثقافة الفقرإن الحرب الأهلية الدائرة بلا انقطاع في مختلف تضاريس المجتمع وكذا النقط السوداء التي تؤشر على الانتشار الفادح لثقافة الإجرام ، فضلا عن هذه الجحافل من الأحداث الجانحين الذين استقرت قلتهم فقط بمراكز حماية الطفولة و مراكز الإصلاح و التهذيب فضلا عن مقرات بعض الجمعيات المنشغلة بالأطفال في وضعية صعبة ، إنها جميعا مجرد عملية لجني ثمار التفقير والتهميش التي تتواصل آثارها في كل حين وعلى أكثر من صعيد، فماذا ننتظر من قاطني أحياء الصفيح الذين خذلتهم كل الوعود الانتخابية؟ وماذا ننتظر من جحافل المعطلين الذين أخطأتهم سياسات التشغيل؟ وماذا نتوخى من أفراد نشأوا في فضاءات مفككة ومنقوعة في الفقر والفاقة؟ ما الذي نتوقعه من مجتمع يفتقد مشروعه ومشروعيته؟إن الفوبيا الشائعة حاليا من التعرض لهجوم محتمل من أحد الجانحين في أي مكان وزمان، هي دليل على تفاقم ثقافة الجنوح، واتساع دوائر المرض الاجتماعي والنفسي، وهي ثمرة مباشرة لما غرسته الاختيارات اللاشعبية، والسياسات المعطوبة، فالاقتصاد التبعي المهلهل، والاستحقاقات الانتخابية المفبركة والعفونة الطافحة في كل المجالات من الضروري أن تقود المجتمع إلى أفظع النهايات وتحديدا إلى التطاحن والجنوح واللاإستقرار. إن إنتاج الجنوح مغربيا ينضبط لهذه الخلفية المتشابكة التي يتداخل فيها السياسي والثقافي والاجتماعي والنفسي،و إن الطابوات والمتاريس الطبقية والسياسات الأمنية العقيمة، وأنماط التنشئة الاجتماعية التقليدية. كلها تجعل أفراد المجتمع بشكل أو بآخر يمضغون العنب الحصرم؛ فهل من مخرج من هذه الورطة؟ وهل من حد لزراعة الألم وحصاد الهشيم؟إن كل خروج محتمل على معايير العقل الجمعي، وكل ثورة مضادة أو عنف مضاد يجد المقاربة الأمنية في مواجهته، فالتعاطي مع موجة الإجرام يعتمد على الهاجس الأمني بدل اعتماد مقاربات تنموية إصلاحية أكثر نجاعة وفعالية، وهكذا ففي اللحظات التي يرتفع فيها استنكار العنف والإجرام من قبل المجتمع
المدني مثلا، تهرع الدولة إلى القيام بحملات تمشيطية مناسباتية، يكون الغرض منها في مطلق الأحوال، تصفية حساب أو تقليم أظافر لبعض الجانحين الذين يحاولون قلب الطاولة. فإنتاج الجنوح في المغرب، يرتبط بدرجة عليا بثقافة الفقر والفاقة، فهي المحددة بقوة لإنتاج الجنوح في المجتمع المغربي، فكثيرة هي الدراسات التي انتهت إلى التأكيد على أن المنخرطين في عوالم الجنوح هم بالضرورة قادمون من دنيا الفقر والفاقة، حيث الإعاقة الاجتماعية والحرمان العاطفي وغياب الأمن النفسي.الحلقة المفرغةولهذا يمكن القول، بأن شروط إنتاج جنوح الأحداث و الكبار مغربيا تتحدد في مثلث الفقر والتهميش والحرمان، أي أن الشرط الاجتماعي هو الذي يلعب الدور المركزي في تكريس السلوك الجانح؛ هذا مع التأكيد أيضا على ضرورة الأخذ بعين الاعتبار باقي العوامل الأخرى النفسية والبيولوجية التي تساهم في خلق الظاهرة الإجرامية، فشيوع الإجرام وتنامي النقط السوداء هو نتاج واقعي للامساواة ولا تكافؤ الفرص، وهو أيضا نتاج محتمل لشروط نفسية وسياسية وثقافية أخرى، وهذا ما ينبغي الانتباه إليه جيدا في مقاربة الجنوح وبحث سبل تربية الجانحين وإعادة إدماجهم من جديد في النسق المجتمعي لأن فصول اللاسلم والتطاحن لن تنمحي من جنبات مجتمعنا بدون إقرار مبدأ العدالة الاجتماعية والقطع مع الاختيارات الفئوية.لهذا تصير مبادرات إعادة التربية كصب الماء فوق الرمل ، ما دامت شروط الانبناء قائمة و متجذرة ، فالجهود التي تبذل من قبل المربين بذات المراكز المخصصة لإعادة تربية الأحداث الجانحين ، تظل أحيانا بلا معنى ، لأن هذا الحدث الجانح سيعود مجددا بعد انتهاء الفترة قررها القضاء لإصلاح حاله ، سيعود إلى ذات البيئة التي أنتجته ، و سيجدها طبعا منضبطة لنفس الشروط التي جعلته ينحرف ، مما يحيل الأمر حلقة مفرغة تفقد فيها كل الجهود و المبادرات الطامحة إلى إعادة تربية الجانحين كل المعاني و المحتويات ، فجنوح الأحداث مغربيا لا يمكن هزمه و الانتهاء منه بدون مشروع مجتمعي موغل في العدالة و المساواة ، و بدون ذلك كله ستظل الطفولة في مهب ريح الهباء !!!


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.