خرج رب الأسرة في رحلة خارج البلد،واستغلها الأبناء فرصة للتعبير عن تمردهم،وقد شقوا عصا الطاعة معتقدين أن بذلك سيثبتون وجودهم ويسلبون السلطة من أيدي إخوانهم،فقد غاظهم هذا الأمر لكثير من الوقت،وباتوا يبيّتون الأمر لهم ويدبرون ما يوقعون به هؤلاء على أنوفهم. فلما كان الصباح،هبوا إلى حظائر الحمير يستنفرونها على غرة من أمرها وبلا سابق إعلان،الشيء الذي لم تجد معه هذه الخلائق وقتا للمساءلة عن الحدث وما وراءه من أسباب هذا الاستنفارالمباغث،غيرأنها وجدت نفسها مقودة إلى اتجاه مجهول،حتى إذا رأى البعض منها بعضا وهي في جمع ليس بالقليل،أحست بأشياء تجهلها توضع حول أعناقها وعلى ظهورها مما لم تألف من الأحمال والمتاع،وقد أوحى وجود بعضِها بعضَها الآخر بالنهيق المتبادل وما هي إلا ساعات قلائل،حتى صارت في أكثر من شارع من شوارع المدينة ، مدينة الديبلوماسية والسياسة،آثار هذه الحمير المستقدمة من البوادي المجاورة،ومن بوادي فاس بشكل خاص، تنقشها على أرضيتها بحوافرها، مثلما تبصمها ببصمتها الحيوانية المستهجنة والبريئة،وهي أرواثٌُ متفرقة وأخرى متكومة في مكانها هنا أو هناك ،فيها بقايا من غذاء القش والأتبان،وأبوالٌ هي مزيج من صفرة وبياض من الألوان، يعلوها زبد كأنه مستخلص من الألبان، تخلفها وراءها فتذرها سيلا ينحدر عبرالأزقة والشوارع،رائحته مقرفة قارصة تشرّف المارة والقاعدين على أرصفة المقاهي بتلقيها مرغمين وهم يكتالون الريح ويترصدون نسيمها العليل، لكن حموضة السائل المهاجم كان سيد الموقف والمستبد بالمكان، بعد أن رخص لقذارته أهل الرأي والمشورة،أما قوائم الحمير، فتوقع على الاسفلت إيقاعا خاصا،احتشد وراءها مرافقون ومتزعمون للمشهد،وقد اختلطت أقدامهم بحوافر أصحابهم، تطأ أرواثها وأبوالها بإرادتهم وبغير إرادتهم،فتنبعث من كل ذلك وبسبب ذلك روائح لا محيد لكثير من أنوف أصحابها عن التزكم بها ،وملء رئاتهم بها،الشيء الذي جعل المشهد يتطعم بجنود قد هبت وطنّت، سائرة مع الحشد في كل حل وترحال، بعد إذ عثرت في مصاحبته على ضالتها،وقد تكون بدورها مقبلة من البوادي المجاورة بفضل ما حباها الله من نعمة التشمم ولو بعدت الشقة،فازداد المنظر قزازة،وقد تنافست فيه حناجر المحتجين وهي تهتف بما تهتف به، بحناجر الحميروهي تنهق من غير ما فتور ولا تحرّج،بل تُعلي من نهيقها وتعيد إيقاعه الكرة بعد الكرة، ولم يكترث العقلاء وأهل القيادة والصدارة بهذه الحكمة:"إن أنكر الأصوات لصوت الحمير"،علما أن منهم من شهد مواسم الحرث والزرع والحصاد في حقول التربية والتخطيط والتدبير والسياسة، لكنهم لا عتب عليهم ،لأن ما كان يجب أن يكبح جماح سوء التصرف في نفوسهم قد وضعوه داخل ملفات سوف يعودون إليه في مواسم الخطابة ومناسباتها ،فأين رجاحة عقولهم من حكمة إرث النبوة التي تقول:"إذا لم تستحي،فاصنع ما شئت". اسمحوا لي أيها القراء، لقد تغَشّاني من الحياء ما يجعلني أعدم الحق في خلط الحديث عن وصف مشهد مقزز ومقرف له من الدلالات ما يهوي به إلى أراذل الضعة،وعن ذكر الحكمة والعبرة والكمال وما يقود إلى مدارج الرفعة التي تنطق بها وتشهد لها نصوص القرآن والسنة، لكني سرعان ما أطمئن باسترداد هذا الحق، لما أستحضر قول الله تعالى:"إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها"(الآية)… فمن يسترد للمدينة كرامتها بعد أن داستها أقدام الموكب، وهي تتوارى خلف قوائم حُمُرهم البريئة، التي لا تجد حرجا في أن تخلف في الميدان فضلاتها وتصدح بنهيقها مالئة به أشداقها وأسماع الناس في المدينة، والتي لا تفقه في السياسة ولا في المطالبة بالحقوق قليلا ولا كثيرا،إنها الخلائق المسالمة التي همها في مأكلها وعدم الانشغال بما لايعنيها ،ثم تنفيذ الأوامر المشروعة التي يلقي عليها أربابها،طبقا لقول الله عز وجل:"والحمير والبغال لتركبوها وزينة"،ومن ذا الذي يسترد للإنسان المواطن الغيور على وطنه الذي لا يرضى له مثل ما أصابه يوم زحفت في شوارعه وساحاته البهية جحافل بقضها وقضيضها،من يسترد له إباءه وترفّعه عن رداءة الصيت، ودناءة السمعة،وخدش الهيبة ،والإساءة إلى الفضيلة،وتمريغ النخوة في مهاوي الاستهتار بالقيم النبيلة،علما أن المدينة التي استهدفها صلف العاصفة يرتادها الأصيل والغريب من بني البشر على حد سواء،ومن ذا الذي يسترد للحمير حقها من ضرورة توقيرها والرفق بها ،ومن يغفر لزعماء الموكب المدان عدم تقديرهم وعدم تبجيلهم لثالوث الشعار المقدس لبلدهم،ومن يسترد للمستهدَفين بالاحتجاج، كرامَتهم واعتبارَهم وهم الذين خوطبوا ونُعتوا بتعابير المشهد الذي يشهد على البدعة ويتبرأ منه الإبداع،حملتها أعناق وظهور الحمير وهي لا تفقه منها ما يعزها ولا ما يذلها… إن كل قراءات المشهد الذي اجتاح جوف المدينة يومذاك مُجمعة على رسالة الاستخفاف والاستهتار بكل مقومات البلاد والوطن،سواء في ذلك أعالي البناء وأسافله،هذه الرسالة التي يريد تبليغها أصحابها،بطريقتهم الخاصة التي تنعدم فيها المسحة الحضارية،وقد اتخذوا لها من المطايا ما لا يفقه ،وندبوا لها من يعينهم على الجعجعة والهرطقة ممّن لا يَميزعن الضلال نضالا، و المدينة يومها كانت بالفوضى والإخلال بأدبيات الاحتجاج قد عجت، وبأنكر الأصوات قد هتفت ونهقت.إن القراءات الأولى والأخيرة للوحة التي يرسمها المشهد توحي بأن الذين رسموها إنما يضعون مقاربة تشاركية بين عقليتين متباينتين لا يمكن في يوم من الأيام أن تتشابها وتتقاربا ،أما الرسالة السياسية والتعبيرية فقد ضاعت وما تزال إذا كان الحمار هو حاملها … !