صفوف الشجر حزينة والرصيف الطويل وحيد، وواجهات البيوت عبوسة، وفوّارة الماء ميتة وخاوية إلا من أوراق الصفصاف الميتة، وسماء الشتاء رصاص ثقيل. وهذا الحصان البرونزي يجري أمام عيني الباردة في جمود ، من أوقف الدم في عروقه ؟ وهذه الدمية الوردية ، من مزق فستانها الأبيض ؟ من رماها مقلوبة على وجهها في اسفل الدرج المؤدي إلى " ساحة العيد " ؟ من دسّها في لامبالاة ، في غطرسة .. ومن عرّى سوءتها في تهكم وجهل ؟ أهذا هو الوجود؟ أهذا كلّ شيء؟ الخارج ، ما هو خارجي؟ أيكون كلّ شيء موجودا في الأشياء المحيطة بي والبعيدة عنّي؟ "لا شيء في الداخل، ولا دليل على وجودٍ لشيء، بل لا يوجد داخل. وأنا لا شيء". هكذا قال تقريبًا بطلُ رواية "التأجيل" التي كتبها سارتر في لحظة صعبة من حياته 1945، لحظة الشكّ والقلق الوجودي أمام علامات المعنى العابسة المنتصبة، الغاضبة القلقة والغامضة. لكن نفس البطل، وهو ينظر إلى وجوده من زاوية النفي -أنا لا شيء- خرجتْ من فمه كلمةُ "أنا". وكان حريّاً بالراوي أو الكاتب أو هما معاً أن يتركاه يتابع أسئلتَه حتّى يتسنّى له الصراخُ ب: وأنا، أين أنا؟ نفسي وروحي؟ نبضي وخفقاني؟ شعوري وحسّي؟ ولربّما كانت أرجاءُ المعمورة ستردّ عليه، في شكل رجعٍ تنبض به أعماقُ الكائنات وتتلفظ به المخلوقات، ب: أين أحلامُك وطموحاتك؟ أين نزواتك ورغباتك؟ أين أفكارك وخيالك؟ وإنّي لأراها كانت ستضيف في صداها شبه الأخير: أين تحدّياتك، وأين هي تمرّداتك أيها الإنسان؟! ومع أنّ البطل لم يجد من يساعده كي يطلق العنان لأناته فيتركها تصيح وتصرخ، تصول وتجول في ساحة الوجود متحدّية كلّ ما هو خارجي، أدركَ، بتزامنٍ مع الوقت الذي نفّذ ما أُرْغِمَ على إعلانه من إقصاءٍ للأنا –أنا لا شيء- أنّه شيء ما، أو أنّه بالأحرى أكثر من ذلك. وإلا فلماذا خاطب نفسَه مباشرة بعد زمن تغييب الأنا قائلاً: "أنا حرّ؟" لماذا انتُزِعَتْ هذه الكلمات من حنجرته على الرغم من أنّها كانت آنئذ يابسة؟ وكان فمُه أيضاً، ساعة خروج هذا الشعور منه، ممرّاً كاد الجفافُ أن يغلقه؟ لا قطرة ولا ريق، لا ماء ولا سيولة، لا رطوبة ولا طراوة...، ولا أمل في الحياة أو بسمة تحاول استنطاق روح الخارج ومقاومة الرؤية المتشائمة؟ وإلا فلماذا، وكأنّه فطن لِما قال وتحرّك فيه مفعول "أنا حرّ"، وهو واقف وسط قنطرة بون-ناف، أخذه الضحك؟ عفواً ليس هذا ما يقوله راوي قصة "التأجيل" بالضبط! ما قاله الراوي الفرنسي حرفياً، يمكن له أن يأخذ شكلَ هذا التعبير العربي أو الترجمة الشرقية: "وقفَ وسطَ الجسر الجديد، وبدأ يضحك". لن أطلبَ منك أيّها القارىء أن تعذرني إنْ كنتَ قد رأيتَ أنّي أتدخّل في الفضاء الوجودي للبطل واللغة التي استعملها الراوي للحديث عنه ووصف موقفه من الأشياء ومن نفسه، فأنا لستُ من القارئين المتفرجين، المتلذّذين بالحكايات والباحثين عن متعة النصوص، أنا من أقرب المقربين إلى بطل اللحظة الوجودية التي تعنينا، أنا وإياه ننتمي إلى نفس الأسرة! إنّني برفقته، واقف معه وسط الجسر، كأني ظله أو قرينه، أحاول فهمَ موقفه وقراءةَ سطور لحظة حاسمة من حياته، وأسمح لنفسي، بكلّ ادّعاء ومبالغة، وفي نزعة طفيلية غريبة، أن أشرح للجميع (أنت وهم وحتّى أنا) ما تنطق به مواطنُ الصمت في وقفته على الجسر الجديد، وما يمكن أن تثيره أماكنُ الاستفهام، التي يحفل بها وجودُه، من معاني ودلالات. هنا جوهر الموقف وقلب المشهد أي هنا تكمن نقطة الانطلاقة نحو الكلام والسؤال، هنا تبدأ المرحلة المهيّئة للتساؤل والاستكشاف. هذه الانطلاقة تبدأ بالضحك الإرادي، الضحك الذي أصدره البطل، الضحك كفعل خلقه البطل لأنّه تعبير عن إرادة فيه. لكنّ هذه الإرادة هل تقدّم البطل على أنّه الفاعل بالكسب والاكتساب كما كان يقول الأشعري أم أنّه الفاعل الحقيقي بقوة الوجود وفعل الحياة كما توحي بهذا كلمات المعتزلة؟ يكاد الجواب يظهر في التحوّل الذي سيحدث عند البطل بفعل انعطاف شعوري تولّد من إرادة السؤال في ضحكه. فبعد أن اكتشف أنّه حرّ ووقف فجأة وأرسل ضحكته الوجودية، بدأ يدرك أكثر من قبل، وحسب كلماته، أنّ "هذه الحرية، بحثت عنها بعيداً عني بينما كانت قريبة مني إلى درجة أني لم أكن قادراً على رؤيتها ولا أستطيع أن ألمسها. لم تكن إلا أنا. نعم، أنا حريتي". يمكنك أيها القارىء، إن أردتَ، وإن كان الموضوع يهمّك أو بالأحرى إنْ كنت أنتَ معنياً به، فاختيار الكلمات شيء مهم ونابع عن إرادة وحرية..، يمكنك أن تقيم ما تريده من علاقات بين كلمات "الحرية وأنا وحريتي". فإن شئتَ قلتَ مثلاً: "أنا الحرية وحريتي أنا" أو "الحرية أنا وأنا حريتي" أو "أنا وحريتي الحرية" أو "أنا والحرية حريتي" أو "الحرية وحريتي أنا" أو "حريتي والحرية أنا". لكن في الأخير ستعرف أنّ كلّ هذه التراكيب اللغوية ما هي إلا تمظهرات من إمكانيات أخرى للعلاقة الحميمية بين الأنا الفردية والحرية بحيث يستحيل التفريق بينهما: الحرية وأنا شيء واحد أو هما وجهان لعملة واحدة هي حياتي ووجودي. أحاول الآن الرجوعَ إلى بداية الفكرة لعلّي أفهم شيئاً ما بصدد معنى وجودي. أفهم أنّ الاصطدام بالأشياء في العالم الخارجي يفرض مواجهة وجودية. ويجيء صوتُ الحرية الأولى الفطرية، موجّها إلي ليفاجأني -وأنا في حالة غفلة وشرود، أو تعب من الحياة، أو أمرّ بفترة خمول وأشعر برتابة وستاتيكية الكائنات والأشياء من حولي- وليذكرني بأن الاصطدام مع العالم الخارجي دليل وجودي، بأنّ في هذا الاصطدام فرصة لإنقاذ نفسي من النسيان، وتحريري من الجهل بمكونات ذاتي، لاعترافي بمحاولة هروبي أمام متابعاتها. لكن، ما الفائدة من إثبات ما هو مرئي وموجود؟ ألا يتعلق الامر بتحصيل حاصل ليس إلا؟ ربما كانت فائدة لغة الإثبات الموضوعي، الطوطولوجي في مظهره، موجودة في وجهها الآخر: السؤال المفترَض حول الذات. وكأني، حين أثبت وجود شيء ما أو ظاهرة معينة أو أعرّفهما، أقوم دون شعور مني بعملية نفي لهما أو نفي صفات لهما. كأني حين أقول: الأرض كروية الشكل، أنفي عنها أوّلاً أن تكون مسطحة، ثمّ ثانياً أن تكون مستطيلة أو مربعة أو بيضوية أو..، وكأني حين أحدّ من شيء ما أو من ظاهرة أو من مبدأ كالحرية، أفتح أمام نفسي مساحات وآفاقاً لهذه الحرية لم تكن تخطر ببالي من قبل. بدأ وعيي بنفسي والأشياء، بالوجود والحرية والحياة، بالقيود والحدود، بالإثبات والنفي. بدأ وعيي بحقيقة هويتي "أنا كذا وكذا و... وأنا لست كذا وكذا و..." منذ اللحظة التي بدأت فيها أصطدم بالآخر.. أي "كلّ شيء غيري"، بالزمان والمكان، بالأحياء والأموات، بالحاضر والغائب، بالجماد والنبات، بالبعيد والقريب، بالصديق وغير الصديق، بالمماثل والمختلف، بالمجرّدات والملموسات... بكلّ ما يمثله الآخر في نفسي! هل تكون لنا، نحن معشر الباحثين عن أنفسنا، وكلّ المتسائلين عن معنى الوجود والحرية، في الاصطدام بالآخر "حياة" ؟