1 كثيرة هي النصوص السردية البدئية في مجال رصد العلاقة بين الشرق والغرب(الأنا والآخر، بصيغة العروي المشتهرة)، يمكن أن تمثل مقدمة للفهم المختلف،أو الأطروحة التي نزعم أن بالإمكان استخلاصها وفحصها في رواية الطيب صالح»موسم الهجرة إلى الشمال». ومقتضى الأطروحة أنه خلافا للشائع،ولما قتله الدارسون بحثا،مشرقا ومغربا، فإن الرهان فيها ليس اكتشاف الغرب،ولا التفاعل الوجداني،ثم الوعي العقلي، ومن ثم تصوير وعيش الثنائية الضدية(كذا) حسب، فهذه عناصر ووجوه موجودة،وهي في الحقيقة متغلغلة في كل ما كتبه العرب المحدثون من قصص وروايات بحكم التحديث التدريجي الذي عرفته بنيات المجتمع. إن الغرب هو الذي وفد إلينا أولا،جاءنا غازيا،وهذا تاريخ موثق،وانعكست مظاهر عيشه،وأنماط تفكيره تدريجيا على حياتنا، وتمازجت بيومينا ومداركنا،أما ما نقرأ في بعض الروايات فهي تجارب فردية بالرغم من كونها تحمل إلى حد ما، عصارة تجربة جماعية،تشخص فيها الاحتكاك المباشر، وظهرت ذات طبيعة سجالية،ونزعة أطروحية لإثبات شأن، كأنما كان مقررا قبل أن يشد أصحابها الرحال إلى الديار الأوروبية، فلكأن مقصدهم الأساس هو نفي أطروحة الغرب بتوكيد أهمية الأصل،والتراب الوطني. لقد طغت صورة المهجر، والمشاهد الفعلية والمركبة،المنقولة عنه سواء في سلوك أهله ونمط مدنيتهم،أم الأوضاع الحقيقية والكاريكاتورية للأبطال المرصودين،هم في الواقع الكتاب أنفسهم، وهم يستنسخون نموذجا عن رحلة العربي (المشرقي، بالأحرى) خارج تربته الأصلية، وتظهير وصفات عجائبية في مرآتي بلدي الذهاب والإياب،وأخيرا بإعلان ما يشبه التوبة يتمثل في التنكر للغرب وإعادة الثقة في الوطن الأم،أي في ثقافته وتقاليده، وأهمية الالتزام بها. لم يعد ممكنا الاستمرار في النظر إلى الوجود من عين القسمة الثنائية، وكأن الحياة والأفكار والمعيش البشري جزر منعزلة. كان لا بد في قلب الإحساس بعالم يتبدل،ويتمزق أبناؤه في أزمة الهوية أن تنتقل الرواية نوعيا،وهي الجنس الأدبي الأقدر على جمع عوالم شتى،وحبك روابطها، وخصوصا إنجاز التركيب النهائي بعد تفكيك العناصر وإعادتها إلى مصادرها،حتى ولو بدا تركيبا أو مشروعا مستحيلا خطبه وخطابه الذات الباحثة عن مصير يقودها إلى حتف، كما هو الشأن في رواية «مو».. وعندي أن هذه الرواية تحتفي، إلى جانب مسار مصطفى سعيد ومصيره بمسار آخر يشابهه ظاهرا في النهج، ويتفق في بعض التفاصيل التي يلتقي حولها من يتركون ديارهم وقتا إلى الخارج طلبا للعلم أو المال، بيد أنه يختلف عنه جذريا في الباقي، في الأزمة الشخصية والمصير تحديدا. 2 يتعلق الأمر بالراوي، وهو ذو وضع مزدوج: راوٍٍ، وشخصية مستقلة، تحوز على كل مقومات الشخصية الروائية،المقتبسة،بدورها،من وجود حياتي متميز. قراء «مو» نظروا إليه في وضعه الأول، ولم يتميزوا لا ملامحه،ولا عُنوا برؤيته للعالم الذي ينتمي إليه،والأهم من هذا كله أنهم لم يقفوا عند أخطر ما فيه، نعني وعيه الكلي،الاشتمالي،الذي قاد الرواية من البداية إلى خاتمتها. نعم،نعرف أن «مو» لا تسير على نسق سردي واحد، وليست ذات سارد عليم،أي أن سردها يتدخل فيه كثيرا مصطفى سعيد،وفي مواضع مختلفة ينقطع كلام الراوي،أو تعليقه،حسب الموقف،لتحضر شخصية سعيد إما بأفعالها،وإما بلواعجها وتدفق مونولوغاتها الداخلية، في الحالين هناك تشابك، وسرد مظفور يتكثف فيه الحكي والبوح ويصبح النسج السردي وصلا لا أكثر بين وقائع وأمكنة وأزمنة،وخاصة مشاعر مع أفكار هي المخزون الوجداني والفكري للبطل المفترض،صانعة لهوية هي اللاّهوية نفسها،أو بحثها عنها في التبعثر بين عالمين،كل واحد منهما يستظل بوهم مسقط على الآخر(س. قاسم، م.س، ص40). 3 نحتاج إلى التعامل مع الراوي بصفته شخصية كاملة لها مسار خاص، وهو الحال في النص الذي لو نظرنا في توزيعه لوجدنا فصوله تتناوب بينه ومصطفى سعيد بالتساوي، ربما أكثر، فضلا عن تعاقبهما وتوازيهما في غير موضع. لننظر بتفصيل: الفصل الأول: عن الراوي، وقريته، وأهله، مع مدخل للتعريف بمصطفى سعيد. الفصل الثاني: مصطفى سعيد يتسلم سرد حكايته. الفصل الثالث:عودة الراوي. تساؤله بدوره إن كان هو أيضا مجرد» أكذوبة»كما وصف م.سعيد نفسه،وفي هذا محاولة للتماهي بين الشخصيتين. تَماهٍ سيتكرر من قِبل الراوي إلى حد أننا نتساءل هل أحد الطرفين امتداد للآخر، أم بُعدٌ له، أم هو إحساس مشترك لمسار الهجرة. لكن التماهي سرعان ما يتكسر لأن الراوي يسارع لطرد اعتقادنا بتشابه المسارين، مسيطرا وعي كلي،من جهة، ومستشرفا المصير النهائي الذي ستؤول إليه الشخصية المنوط به سرد قصتها. هكذا، وخلافا لمصطفى سعيد فهو متصالح مع بيئته،هو راوٍ بلا أوهام، إنه الواقعي مقابل التخييلي المأساوي، يفصح عن هويته على الشكل التالي:»هناك] في الغرب، بريطانيا] مثل هنا[الشرق، السودان]مثل هنا، ليس أحسن ولا أسوأ. ولكنني من هنا، كما أن النخلة القائمة في فناء دارنا نبتت في دارنا، ولم تنبت في دار غيرها» ويضيف مفندا مرويه بحزم»إذا كنا أكاذيب فنحن أكاذيب من صنع أنفسنا»(ص.44، نعتمد طبعة دار الهلال،القاهرة، 1969). الفصل الرابع: يشغل الفصل مساحة نصية لا بأس بها،نرى الراوي فيها يتجول في قريته، يصف بعض أحوالها،وناسها، وعادات القوم فيها، يبدو قد انفصل عن عالم مصطفى سعيد. لا ُيعرف للقرية اسم، مثل ساكنها، وكل ما هنالك أنها:»القرية الصغيرة عند منحنى النيل». في هذا المكان يلتقط الراوي فرصة المعاينة ليوجه سهام النقد إلى الحكومة بسبب ما يلحظه من مظاهر التخلف والحاجة إلى الخدمات، ما سنعود إليه لاحقا لتبين غرض مهم في الرواية. الفصل الخامس: يتأكد فيه الحضور المستقل للراوي، طبعا على حساب غياب مصطفى سعيد البطل الأصلي. سنتعرف هنا خاصة على أبرز شخصيات القرية المؤثرة،المرتبطة بجذورها،المعبرة عن خامها، وفي الآن ستقرن بمصير سعيد في تشابك كأنما يظهر نوعا من البطولة الجماعية التي يريد لها الكاتب أن تنافس البطولة الفردية في محيط متشابك المصالح، متخلل الأسرار. نتعرف،إذن،على»ودّ الريّس»و»بنت المجذوب»المرأة القوية المسترجلة،وبكري،وأهمهم الجدّ الحكيم،البسيط،مناط إعجاب وتقدير الجميع،أولهم سعيد. في مجلس الجد ،حوله، تتراءى الطقوس والأجواء السودانية،وآداب المجالس ومكر العلاقات، مما يزيد في تعريفنا على ملامح وسمات العلم الأصلي للراوي ويرسخ أرضية انتمائه. الفصل السادس:خاص بطلب ودّ الرّيّس وهوسه للاقتران بأرملة مصطفى سعيد، وتفاصيل. الفصل السابع: يحفل بتصوير مشاهد وطقوس من الصحراء السودانية،يرصدها الراوي خلال رحلته من القرية إلى الخرطوم،وهي كلها لوحات احتفالية لأهازيج ومباهج وأحزان، يتجاور الشعر فيها مع النثر المصفى، والفصيح مع العامي، والواقعي الصلد مع الأسطوري. الفصل الثامن: يختص بالنهاية المفجعة لعلاقة ودّ الريس مع الأرملة،مقتلهما،وسيرة شخصية بنت المجذوب، من المؤثتات العجيبة للقرية، لخصوصية الجنوب قبالة الشمال. الفصلان التاسع والعاشر: كلاهما، وهما بالضبط يجمعان في وحدة مكثفة بين الراوي وبطله، في بؤرة التماهي، مرة،وأخرى في لحظات جرد حساب الراوي مع نفسه، وتساؤلاته. وأخيرا، في ما يمكن اعتباره استعادة وعي كلي يبسطه الراوي على نفسه، أولا، وبعده على ما حوله، نسمعه يصدر حكمه، حكم الكاتب على تجربة مأساوية،مصنفا رأيه وعمله في آن. 4 نريد أن نستخلص من عرض فصول الرواية مجتمعة بضع ملاحظات نرى أنها تخدم أطروحتنا أو الفرضية التي نبني عليها هذه الورقة، نذكر بها في صيغة العنوان أعلاه،أي رواية «مو» بوصفها الهجرة المعكوسة يقوم بها العربي،الشرقي، من خارج وطنه، في شكل الإياب بعد الذهاب، حين يكون»موسم الهجرة» قد انتهى، وليبدأ اكتشاف بلاده، ومن خلالها هويته كاملة. لا ينهض هذا المشروع النص على الثنائية الضدية،وإنما بتجاوزها عبر عملية القيام على حطامها،وبالاستناد على محكيها، سيرة مصطفى سعيد، صريحة ومضمرة،ممثلة ومستوحاة وعبرة ماثلة في المسار الخاص للراوي. أجل، إن سيرة سعيد تندرج في المتن السردي الواصف للعلاقة الثنائية، تلك، ويزخر نصها بالصور والتمثيلات النمطية المعهودة في هذا التقليد،عبر سلسلة تضادات فيزيولوجية، وشعورية،وروحية، وعقلية، وسلوكية، الخ) لكنها،خلافا لتراثها،نحسب أن بطلها يقطع مع نسق التضادية،وأن الآخر الغربي هو من يحشره فيه، ولا يقبل بوجوده خارج تصوره. ففيما يعلن مصطفى سعيد أنه في رحلة أكبر من الجغرافيا،رحلة المصير الإنساني يتحكم فيها قدر حتمي:» وقادني النداء الغريب إلى ساحل دوفر،وإلى لندن، وإلى المأساة(...) وكنت أسائل نفسي طوال الرحلة،هل من الممكن تلافي شيء مما وقع؟ وتر القوس مشدود، ولابد أن ينطلق السهم»(28). فيما الأمر كذلك، فإن الغرب ممثلا في آن همند،إحدى طرائد م سعيد:» تحن إلى مناخات استوائية، وشموس قاسية،وآفاق أرجوانية. كنت في عينيها رمزا لهذا الحنين. وأنا جنوب يحن إلى الشمال والصقيع.»(30). يعضد فكرة الاختلاف في الرؤية بين الطرفين التوهيم القصدي من جانب ممثل الشرق، يقدمه الطيب صالح في لحظة وعي كاملة،بل متوترة من شدة معرفته بحقيقة مسعاه،واستحالته في آن،ما دام لا يفهمه هو نفسه،معرفا بذاته بتجريد كامل،مطلق واستعاري،أي شعري:»أنا صحراء الظمأ»(32)؛»أنا متاهة الرغائب الجنونية» (35)،وليتواجه مع فصامه الشخصي، مُصرا حين يبلغ مدى استحالة بحثه على الافتضاح والتعرية وكشف زيفه،أي وهمه، بعبارة تكررت مرات:»أنا أكذوبة»هي ربما أقوى براديغم في النص الذي يعني مباشرة شخصية مصطفى سعيد.هي الشخصية الإشكالية،أي المصنوعة والمركبة من أمزجة وأهواء وثقافات ومشاعر متضاربة،الحقيقية افتراضا،والوهمية تخييلا ونزوعا «أكذوبة» بالتصريح. لذا لا يمكن أن تخضع للتصنيف المسبق والمعطى كأنه بداهة عن الثنائيات المتقابلة في المتن المعني. ذلك أن رؤية التقسيم الثنائي متأتية عن فكرة مسبقة يسقطها كل طرف على الآخر، وهو يتحصّن بها مدافعا عن هويته الخاصة،خاصة الطرف السالب والتابع في العلاقة،وهذا ما يلاحظ في الروايات البدئية المذكورة سابقا،ما يفسر منزعها التعليمي، ونبرتها الوعظية، وسذاجة شخصياتها، والطابع النمطي الغالب عليهم. على العكس تماما من موسم الطيب صالح التي تقدم لنا رؤية وصيغة متطورة في الكتابة السردية المخصوصة بهذا الموضوع،ما يحتاج إلى مزيد توصيف وتحليل لتبيان وجوه التطور والاختلاف. 5 في كل قراءاتنا للأعمال»المغتربة» نقوم كما لو بنوع من القطيعة، نتصورها لدى رحيل (الشخص) من بلد إلى بلد، فيصبح مجال الحركة والتأمل هو المكان الآخر في الخط الأمامي. بينما نلاحظ أن هذه الأعمال تصنع وتشتغل ضمن بنية التراوح،أي بين ذهاب وإياب (الحي اللاتيني) على مستوى الرحلة، وعلى صعيد التذكر الملحاح، أيضا. 5.1 إن هذه الأعمال، وهي تشتغل وفق مبدأ المقارنة والمفارقة اللتين تذكران باستمرار بوجود هنا وهناك، تصنعان بنية الفرق التي تصبح هي البلاد الرمزية التي رحلت إليها الشخصية. تتجلى في عناصر العين والذوق والحس والشعور(الحنين). ما يسمح بالقول،أيضا،بوجود نصف رحيل، بالجسد فقط، بالأعضاء،وبالتالي فنحن إزاء نص هجين التكوين والدلالة. 5.2 لا تقدم هذه الأعمال مجتمعة أي شخص(بطل) يقدم على الهجرة باختيار ذاتي ووعي كاملين، تراه مدفوعا إلى ذلك بذريعة ما أو قسرا، وتحت طائلة وزر معين، وهو ما يضع الشخصية عرضة للمواجهة وفي حال ممانعة؛ سأسمي هذا الوضع بنية القسر والممانعة. 5.3 إن الشخص/ الشخصية يعيش غالبا في هذه الأعمال ضربا من الخداع المتواصل لنفسه. من قبيل أن جميع النساء جميلات،الأبيض هو لون الجمال،الخارج كله مبهج،الثقافة كلها مقنعة،ممارسته لجلد ذاته وتاريخه، أسميها بنية الاستهواء والانخداع. 5.4 جميع الأعمال التي تعالج الرحلة إلى الشمال (الهجرة، الخروج، ما شئتم) تقوم في جانب منها، وبكيفية غير مقصودة بالضرورة، بعد وصف البيئة الجديدة، باكتشاف البيئة الأصل التي قدمت منها، من خلال مراوحة المقارنة وعملية تبيان الفرق، ما نسميه بنية الاكتشاف وإعادة التملك. 5.7 إن المكان الذي يرحل أو يهاجر إليه الشخص/الشخصية في جل الأعمال منظورا إليه في أفق مثالي،هو المدينة الفاضلة،مكان اللامكان،الجميل،الحر،المفتوح، مقابل المكان القادم منه، نقطة الانطلاق هي سجن وقيود وعيوب بلا نهاية: بنية القفل والمفتاح. 5.8 الزمن الذي تنتقل إليه الشخصية، بالأحرى تعيش فيه، وخلافا للمكان، محسوبٌ، منتهزٌ، هو أمامها زمن شاسع يمر أمامها سريعا كالشهاب،تراه كقطعة حلوى تحاول أن تقضم منه،طرفا من هنا،طرفا من هناك. زمن غول أمام كائن قزم. زمن منفلت،متقلب،أقوى منا قياسا بالزمن اللاتاريخي الذي جاءت منه: بنية الحركة والثبات. 6 يمكن حصر أكثر من بنية مما وصفنا في»مو» لكنها تنفصل عن الرؤية الكلية التي شكلتها، لتتميز، كما قلنا،بحضور وعي يظهر فيه بحث الشخصية،ونوعية الأزمة التي تعيشها، سواء مع ذاتها،على الخصوص في علاقتها ببيئة الاغتراب، وقد تأشكل على مستوى بناء الشخصية وثقافتها ومسعاها وما تريده من موضوع هجرتها،وكذلك نوعية الارتباط الذي تقيمه مع بلدها الأصلي،هنا حيث يقبع محور الهوية المعقد، يرتد إليها في مرآة نظرتها إلى كل جديد،وإلى ذات تختلف حين تهاجر. وفي رواية الطيب صالح تبلغ النظرة مداها وهي تتمفصل على تخوم خطين،مرة يتباعدان حد الانفصال، وأخرى يتقاربان إلى درجة التّماس، إن لم نقل الاندماج التام. في الخط الأول يكون لمصطفى سعيد هجرة خاصة تستعاد من نهايتها، وُتبنى على استذكار حياة مكثفة علينا أن ننتبه إلى أن صاحبها متفوق وسيحصد على الشهرة ويغزو قلوب وفراش نساء عديدات،أي العلم والجمال الأبيض الذي هو قوة وفخار الغرب، وسيلبي الرغبات ويطلق بخور الخداع حسب الطلب وأكثر،لكن كل ما جناه هو تدميره الذاتي،تدميرلا تفلح الرواية ولا مسار الشخصية في تبيان هل مصدره ثقافي أم وجودي،أم سيكولوجي، (فصامي)،أم هذه الأسباب مجتمعة، لتتم له العودة الجسدية فقط إلى مسقط الرأس ليعيش بهوية مختلفة، وروح ظلت مهاجرة في السديم. بذا فلا صلة تربطه بالراوي الذي سيقوم بدوره بالرحلة نفسها،من غير أن يكون ابن الإنجليز المدلل،ويحصل على شهادته الجامعية، ويعود إلى وطنه كمن أنهى مهمة، ليلتحق بالسلك الوظيفي، ويصبح فردا صالحا لخدمة بلاده، وهو مندمج اندماجا كليا مع أهل قريته، متشرب لتقاليدهم، محب لمعيشهم. أما الخط الثاني فيقربه من مصطفى سعيد،لا تفصيلا حياتيا وسلوكا ولكن مصادر ثقافية، ومشاعر متضاربة،نحس معه أنه متلبّس به،وهو بطانته النفسية، قولها في حالة كمون، ولسوف تنفجر في اللحظة التي يقتحم فيها غرفة مصطفى سعيد الغريق (المنتحر بمعنيين) ويتجاوب في دخيلته خطابان،واحد للغريق،والثاني له ومستعار من الأول،حامل لوهجه الماضي، ومأساوية مصيره، حتى ليكاد يصبح خطابا موحدا، والشخصيتان نموذجا متآلفا. على أن شخصية الراوي ليست أبدا» أكذوبة»،لأنه يمثل دور البطل الإيجابي،ولأن خطابه واقعي بالدرجة الأولى،وهو القناع الذي يستعيره المؤلف ليقوم بنقد لاذع للأوضاع والحكم والتسيير في بلاده وهو مقصود، وكثير، والأهم أنه،خلافا لسعيد، رفضَ الغرق في النهر، حقيقيا كان أم مجازيا، واتخذ موقفا حاسما:»طول حياتي لم أختر ولم أقرر. إنني أقرر الآن أنني أختار الحياة. سأحيا لأن ثمة أناسا قليلين أحب أن أبقى معهم أطول وقت ممكن،ولأن عليّ واجبات يجب أن أؤديها.»(132). 7 يمكن القول، ونحن في خاتمة هذه الورقة، ومن أجل مزيد استخلاص، بأن رواية الطيب صالح ولدت في سياق وعي مغاير سعى لإعادة النظر بكيفية مدققة ومعمقة مع الغرب،ثم مع الذات، وثالثا،أيضا، مع الذات من خلال الغرب. وهذه المراجعة الثالثة،تؤكد مفهوم الهجرة المعكوسة وتزيد في جلائها،هي الأهم في سياق النص الذي عالجنا،ونصوص أخرى ،بين مشرق ومغرب، لا تقل عنها أهمية. نشير منها على الخصوص إلى عملين أساسين لعبد الله العروي،وهذه المرة في حقل الكتابةالسردية. الأول»الغربة»(1971)،(يشير المؤلف أنه أنهى المخطوطة الأصلية سنة1961). الثاني للمؤلف نفسه بعنوان:» أوراق سيرة إدريس الذهنية»(1989).