جميعنا، مَن يتّفق مع سمير القنطار ومَن يختلف معه، لا يعرف قصّته، فقائد عمليّة جمال عبد الناصر في نهاريا، وقع فتىً في السادسة عشرة من العمر في أسر الصورة التي صاغتها الآلة الدعائية الاستخبارية الإسرائيلية. كتاب «سمير القنطار: قصّتي» لحسّان الزين، الصادر قريباً عن دار الساقي، يحاول تقديم رواية عميد الأسرى العرب في السجون الإسرائيلية، منذ ودّعه أبو العبّاس حتى استقبله حسن نصر الله، وما بين هاتين المحطتين حكايات وأسرار كثيرة وتفاصيل حياة يُستغرَب أن تلتقي خيوطها وتتكثّف خلف القضبان. هنا أجزاء من الفصل الأول سجن هداريم، 12 تموز/يوليو 2006. استيقظتُ باكراً قبل بدء جولة العدّ اليوميّة. ذهني صاف وكأنّه لا كوكبَ ولا شيء فيه. قمتُ بحركاتي الآليّة الصباحيّة. نزلتُ من سريري الموجود كطبقة ثانية فوق سرير زميلي في الزنزانة، محمد أبو جاموس. أحبّ أن يكون سريري عالياً كأنه طائرٌ مرتفع عن أرض الزنزانة والسجن. يتيح لي ذلك توفير عالم خاصّ بي. أفكّر بهدوء وأقرأ وأستمعُ إلى الراديو وأشاهد التلفزيون. شرعتُ أغسل وجهي وأسناني فوق المغسلة المكشوفة قرب الحمام في الزنزانة. اقتربَ مني أبو جاموس ليخبرني أنه مكتوب، في شريط الأخبار على التلفزيون، أنَّ ثمّة اشتباكات على الحدود اللبنانية مع فلسطينالمحتلة. لم آخذ أو أعط معه. سمعتُ ولم أقل كلمة أو أُظهر أيّ ردّة فعل. قلتُ في نفسي إنها عملية في مزارع شبعا رداً على ما يحصل في قطاع غزّة. فالوضع هناك صعب، وإسرائيل تقوم بأعمال انتقامية منذ أُسر الجندي جلعاد شاليط قبل 19 يوماً (في 25 حزيران/يونيو 2006)، والمقاومة الإسلاميّة في لبنان تتضامن مع الفلسطينيين وربّما تقوم بعمل عسكري لتخفيف الضغط عنهم وتشتيت الجبهة الإسرائيلية. جلستُ على كرسي صغير في زنزانتي أحتسي قهوتي، وأتابع التلفزيون. لا جديد على ما قاله أبو جاموس. بعد قليل وصلني مرسال من رفيق لي في السجن، عبد الناصر عيسى، من قادة «حماس»، نزيل زنزانة مجاورة، يخبرني أنَّه سمع بتنفيذ حزب الله عملية أسر. كهرباء عبرت جسدي، كما لو أني استيقظتُ الآن لا قبل ساعات. نقلت محطة التلفزيون إلى القناة الإسرائيلية «العاشرة». وجدتُ في أسفل الشاشة عبارة: «اشتباكات على طول الحدود اللبنانية، ويبدو أن حزب الله يخطط للقيام بأمر ما». جملةٌ ملغّزة ملغومة كالعادة، تقول ولا تقول الحقيقة كاملة. بدأ الفأر يلعب في عبّي. انتقلتُ، لأجمع الخبر، إلى القناة الإسرائيلية «الثانية». الأمر نفسه: «اشتباكات على طول الحدود مع لبنان ويبدو أن حزب الله يريد أن يقوم بعمل ما». هنا أيضاً جملة ناقصة. شعرتُ بأنها تخفي أكثر ممّا تبوح، وفي الوقت نفسه تمهّد لقول أمور أخرى وإبراز أجزاء من البازل. تفاؤل خافت لم أقمعه بل رحتُ أبحث عن خبر يغذّيه أو يطابقه ويترجمه. وزاد من شعوري هذا تفسيري لعبارة «يبدو أن حزب الله يخطط لأمر ما». هل مِنْ أحد يكتب في الأخبار مثل هذا؟ هذا يعني أن أمراً ما قد حصل وإسرائيل تمهّد لإعلانه، لكن القرار في صدده لم يؤخذ بعد. فالتقليد في إسرائيل يفرض على الإعلام الالتزام بالبيانات الرسمية الصادرة عن الجيش. أغرتني فكرة أن أتصل بأحد في بيروت، شقيقي بسام، أو المنسّق بيني وبين السيّد حسن نصر الله، لكن ذلك مستحيل في هذا الوضع. الخطوط قد تكون مراقبة فيُكشف أمر هاتفي السرّي. وأصلاً، يصعب عليّ سحبه من مخبئه الآن مع احتمال دهم السجن وتفتيشه. كبحتُ هذه الرغبة. ماذا أفعل؟ لا شكّ في أن أمراً ما قد حصل! ازداد اقتناعي بذلك. وأنا أنقّل التلفزيون بين القنوات الإسرائيلية، ثَبَّتُّ قليلاً على «العاشرة»، أوقفتني صورة المراسل ألون بن دافيد، يقدّم تقريراً عمّا يجري على الحدود اللبنانية. لفتتني عبارة قالها: «يبدو أن حزب الله نفّذ عملية استراتيجية». دَفْقٌ من الماء البارد غمر روحي. شعرتُ بأنني غطستُ في بحر صور. ورحتُ أعوم. قلتُ لنفسي: «خلص. وقعوا! فالشباب، في المقاومة، لا ينفّذون إلّا عملية أسر، ولا شيءَ آخر». كرّرتُ: «أكلوها». واطمأننت. ❞تحميلي ذنب الحرب أشبه بتحميل إسرائيل الجنديين الأسيرين مسؤوليتها. لكن إسرائيل لا تفعل هذا❝عملية استراتيجية؟ عبارة ترنّ في رأسي. عملية استراتيجية. أدرينالين يعبر حواسي كلّها. أريد أن أعرف بعد. أريد أن أفهم ماذا يجري. لكن يقيناً حطّ في قلبي. وضعتُ يديّ في جيبيْ بنطلون الجينز، كأني أمسكُ بكفّي شيئاً ما ثميناً، أو سريّاً، كي لا يأخذه أو يعرف به أحد. باتت كفّاي قبضتين، وكلما شددتُ أصابعي القصيرة تحرّكت قسمات وجهي كما لو أنها مربوطة بخيوط موصولة بالأصابع وتحاول أن ترسم ابتسامة، أو تمهّد لذلك. وما زلتُ مشدوداً إلى التلفزيون. روني دانييل على القناة «الثانية» يقول: «بدأ حزب الله عمليات استفزازية على الحدود، واضطرّ الجيش إلى الرد». يمهّدون للإخبار عن العملية... يفرشون الطريق للصدمة. حتى الآن لا بيانَ رسمياً عن الجيش. وما دام الأمر كذلك، ممنوعٌ على الإعلام أن يستند إلى مصادر خارجية. فكّرتُ في هذا، وأنا أراوغ انتظاري. خبط قويّ على الحائط من الزنزانة الملاصقة أعادني إلى الواقع. اقتربتُ من الحائط لجهة الباب ورددتُ عليه، فطلب إليّ أحدهم أن أشاهد قناة «الجزيرة». نقلتُ التلفزيون إليها فوجدتُ مكتوباً في أسفل الشاشة خبراً عاجلاً: «حزب الله يأسر جنديين إسرائيليين». «خلص، مشي الحال!»، فرحت. رفعت يديّ وشكرت الله. أعدتُ يديّ إلى جيبيْ بنطلوني: «صار الموضوع في يدي». خرجتُ من الزنزانة إلى الممر. رآني شرطي سعيداً، يبدو أنني لم أخفِ ابتهاجي، أو هو الشرطي الذي بادر إلى سؤالي عمّا يحصل جعلني أفرح وأظهر ذلك بقولي له: «شبابنا سحبوا لكم اثنين». وضحكت. ردّ: «ماذا؟». كرّرت: «شبابنا في المقاومة سحبوا لكم اثنين». سأل: «من المقاومة؟». قلت: «المقاومة الإسلامية، حزب الله في لبنان، سحب لكم جنديين، الآن، ليخرجني من هنا». لم يصدّق، لم يأخذ الموضوع جديّاً. انسحب إلى مكاتب إدارة السجن. هناك عندهم محطة إخبارية مشفّرة اسمها «YES»، قويّة، تأتي بأخبار دقيقة. أعرف من اللحظة الأولى أنه سينسحب ليشاهد تلك المحطة ويتأكّد. لعلّي حرّضته ليفعل ذلك، وإذا لم يعد يتأكد لي الأمر، فيما يعود إذا لم يكن الخبر صحيحاً ويريد أن يغيظني وينفي ما قلته له. وغاب. صار الشباب، السجناء معي، يهنئونني ويقبّلونني علناً أمام الحراس الإسرائيليين، في الممر وفي الزنزانة. لم يكبح الإسرائيليون هذه الفرحة عندما قطعوا بثّ المحطات العربية التي تصل إلينا. تركوا العبرية فقط. فقطع بث تلك القنوات يعني لنا أن أمراً ما خطيراً واستراتيجياً قد حصل ويريدون أن يمنعوا عنّا أخباره. لكن القناة «العاشرة» التي نشاهدها راحت تنقل عن قناة «المنار». نقلت بيان المقاومة وصوراً لي. سمعتُ أن اسم العملية إطلاق سراح سمير القنطار ورفاقه من السجون الإسرائيلية. ارتحت. صوت شقيقي بسّام وأمّي عبر إذاعة «النور» جذبني إلى سريري لأسمع قرب الراديو. استلقيتُ كأني في بيتنا، في عبيه. أخذتني الإذاعة إلى ألفة قديمة، بعيدة. فرحُ تلك الأصوات لفّني. الآن، وسط هذا اليوم التموزي، ثمّة دفءٌ وثمّة هواءٌ أتنشّقه. هواءٌ جبلي مع نسمات بحرية، وأصواتٌ ووجوهٌ كثيرة. «شكراً سماحة السيّد. شكراً أيها المقاومون الأبطال». رحتُ أكرّر وأنا أنظر إلى سقف زنزانتي القريب من وجهي، وأرى السماء. كانت صافية، وزادها وضوحاً اعتراف الجيش الإسرائيلي بالعملية وأسر الجنديين. وما نفع أن يقطعوا عنّا بثّ القنوات العربية، وها هم يتجرّعون السمّ وينقلون المؤتمر الصحافي للسيّد حسن نصر الله، ويترجمونه مباشرة إلى العبرية! بل توجّه إليّ وإلى رفاقي السجناء. صوته وهو يحدّثني سمعته يخترق السجن وإسرائيل كلها. قال: «إنكم أصبحتم عند خط الحريّة. هذا يوم سمير القنطار ويحيى سكاف ونسيم نسر». واختصر اسم العملية (إطلاق سراح سمير القنطار ورفاقه من السجون الإسرائيلية) في كلمتين: الوعد الصادق. استفزّهم السيّد. جنّنهم. آثرتُ في هذه اللحظة متابعةَ برنامج «مساء جديد» مع مقدّمه البارز في إسرائيل دان مرغريت، على القناة «الأولى». أحسستُ أنه يوضح توجّهات الرأي العام. فقد استضاف أشخاصاً منفعلين راحوا يحرّضون الحكومة على الحرب، واتفقوا على أنه إذا لم نقم بحرب من أجل الجنديين يجب أن نقوم بها رداً على كلام حسن نصر الله: «إذا أردتم حرباً فسنذهب إلى النهاية، وإذا أتى العالم كلّه فلن يأخذ الجنديين من دون إطلاق سراح سمير القنطار ورفاقه». وتقرّر أن تجتمع الحكومة الإسرائيليّة عند الثامنة مساءً. سيطر عليّ الحذر والترقّب. كرةُ ثلج ردّة الفعل بدأت تكبر وتتدحرج. صرتُ أفكّر بالخطوة التالية التي ستقوم بها إسرائيل. وبقيتُ أستبعد الحرب لكون إسرائيل غير مستعدّة لها وحكومتها الحالية ليس فيها عسكريون، ومسألة الجنديين يمكن حلّها بالتفاوض والتبادل، كما حصل مع عمليّة أسر الجنود الإسرائيليين الثلاثة، في تشرين الأول 2000. لكن ردّة الفعل لا محالة ستحصل، وتوقّعتها موضعيّة، قصفاً هنا، واغتيالاً وخطفاً هناك. إلى أن انتهى اجتماع الحكومة الإسرائيلية وأعلنت الحرب على لبنان وحزب الله في إطار «المواجهة الكبرى» لتحقيق هدفين: الأول ضربة مؤلمة لحزب الله والبنى التحتيّة اللبنانيّة في الساعات والأيّام القريبة. والثاني إبعاد حزب الله عن الحدود بجهد عسكري ودبلوماسي على الصعيد الدولي. وأطلقت إسرائيل على حربها هذه تسمية «الجزاء المناسب». بدأت أجواء الحرب ترتسم. توجّستُ شرّاً، وكذلك السجناء الآخرون. كلّهم عبّروا لي عن ذلك. تشاءموا. وتحدّثوا عن حقد إسرائيل وممارساتها في فلسطين ولبنان. شخصياً، لم أخف. كنتُ مطمئناً، وقلتُ لا حكومةَ في العالم تأخذ قراراً بالحرب في ساعة أو ساعتين إلاّ تكون غافلة عن نتائج الحرب. لا حربَ تُتّخذ بهذا النحو تحت ضغط التحريض الإعلامي. ألقيتُ نظرة عبر باب الزنزانة على الممر لأعرف حركة الحراس. وانسحبتُ إلى سريري أحرسُ ما أفكّر فيه وما سأقوم به. ورحتُ أُنصتُ لأي حركة للشرطة في الممر. استلقيتُ كأنني نائم. أسهم ذلك في هدوء الزنزانة. واختفت الأصوات من الخارج. اكتفيتُ بصوت خافت، همس، من الراديو، أسمع إذاعة النور. حافظتُ على هذا الوضع بعض الوقت، لأتأكد من حركة الشرطة. الدهم والتفتيش قد يحصلان في أيّ لحظة، خصوصاً في مثل هذه الظروف. عند الحادية عشرة، سحبتُ الهاتف من مخبئه واتصلتُ بالمنسّق بيني وبين السيّد حسن نصر الله. دعوته إلى الحذر والتنبّه. رد مطمئناً: «لا يهمّك، الجميع محتاط وكل شيء تمام». لم أنم. بقيت ساهراً مع إذاعة النور. أسمع الأناشيد الحماسيّة والدينيّة. أقرأ القرآن وأدعو الله أن يحمي لبنان والمقاومة ويفك أسر كلّ معتقل. وتخلل هذه الأمسية أخبار عن الحرب وبيانات للمقاومة تعلن فيها تدميرها ثلاث دبابات وقصفها مرابض مدفعيّة إسرائيليّة في الجولان السوري المحتل. سمعت تحيّة المرشد العام للإخوان المسلمين في مصر محمد مهدي عاكف للمقاومة الإسلاميّة. وسط انهماكي في متابعة الأخبار العسكريّة الحربيّة فاجأني وليد جنبلاط. أوعز إلى المسؤولين في حزبه ومنطقة الجبل وجوب توفير الأمكنة اللازمة للعائلات النازحة من الجنوب والضاحية الجنوبيّة لبيروت. لم أستسغ هذا الموقف الإنساني في ظاهره. فكّرت أنه للفصل بين المقاومة وجمهورها. فأنا لا أستطيع أن أنسى مواقف جنبلاط تجاه المقاومة و«سلاح الغدر»، بحسب تعبيره. وهو في الحلف المناهض للمقاومة. وسيّدته السعودية حمّلت اليوم المقاومة «المسؤوليّة الكاملة» عن تصرّفاتها «غير المسؤولة» ودعتها إلى إنهاء الأزمة التي أحدثتها، مطالبة بالتفرقة بين «المقاومة الشرعيّة والمغامرات غير المحسوبة». حرّضني موقف جنبلاط هذا لأتصل بشقيقي بسام وأستوضح الأمر وأعرف ماذا يجري في الجبل. خطّه مقفل. قلقت. عاودت الاتصال، فتكرّر الصوتُ الذي يعلن أن الرقم المطلوب خارج الخدمة. ... وأخيراً، بسّام على السمع. ردَّ. أخبرني أن خطّه كان مقفلاً لأنه كان مشاركاً في برنامج «بالعربي» مع جيزيل خوري. لم أعرف ذلك لأن قناة «العربيّة» من ضمن القنوات التي قطع بثّها إلينا أمس. كما تأخر بسام في الرد عليّ، كذلك حصل معه في الحلقة، تأخر في الانضمام إليها لأسباب تتعلق بالحذر في الانتقال إلى الاستديو أثناء الحرب. قالت جيزيل إنني كنتُ أراسلها، والحقيقة أنني راسلتها مرة واحدة معزّياً بزوجها سمير قصير. مهّدت بالتذكير بهذه الحالة الإنسانيّة لتصوّرني لا أقبل بالحرب من أجل حرّيتي. كأنني أنا مقتنع بأن الحرب بسببي. وبدأت أسئلتها لبسام عن شعور عائلة القنطار التي نُفّذت العملية لتحرير ابنها، كما قالت. فقلَب بسام السؤال داعياً إلى النظر في الخسائر التي تقع في إسرائيل لا الاكتفاء بالتدمير والقتل اللذين تمارسهما إسرائيل في لبنان. وعند استفسارها عن المدّة التي أمضيتها في السجن، تحدّث سمير فرنجية عن المفقودين اللبنانيين في السجون السورية. تدخّل بسام وقال إن بين القوى التي يتحدث باسمها فرنجية جهات تتحمّل مسؤولية مباشرة عن عشرات المفقودين، وهم أهلنا وناسنا. وتوجّه إلى سمير فرنجية: «لو كنتَ نائباً في البرلمان الإسرائيلي وأنا مواطن إسرائيلي أو شقيقي رون أراد، لا أعتقد أنه كان يمكنك أن تتحدث بهذه الطريقة». وعادت جيزيل وسألت بسّام: «لو عرف سمير القنطار أن تحريره سيكون بهذه الكلفة الغالية، فهل كان وافق على العملية؟». أجاب بسام: «يجب عدم ربط الأثمان التي يضطر لبنان حالياً إلى دفعها بقضية الأسرى. إسرائيل استغلّت هذه الحالة». وذكّر بما حصل في موضوع الأسرى الإسرائيليين الثلاثة عام 2000، ومعهم اقتيد عقيد في الاحتياط، ولم تقم إسرائيل بهذه الحملة. واستند إلى تقرير صحافي فرنسي يكشف أن الهجمة الإسرائيلية هذه مخطّطة سابقاً وتحصل بإشارة أميركية واضحة لإعادة خلط الأوراق في إيران وسوريا ولبنان والمنطقة. كأن سمير فرنجية تراجع، أو هو سيَّس الموضوع وتجاوز المسألة الشخصية التي ركّزت عليها جيزيل. قال: «مسألة الأسرى تخطّاها حجم الرد الإسرائيلي على لبنان ودخلنا مرحلة جديدة ليس لها علاقة بالتفاوض، وبما يقال عن السياسة الإسرائيلية العدوانية». واستغرب القول إن الرد الإسرائيلي لم يكن متوقّعاً. كان هذا ردّاً على بسام ومنطق المدافعين عن المقاومة. لكن سرعان ما وقع فرنجية ومَن ينطق باسمهم في التناقض. فقد قال إن عملية المقاومة مرتبطة بالملف النووي الإيراني. قال بسّام لي، وهو يتذكّر وقائع الحلقة والحوار: «هذا تناقض، فساعةً يحكون عن أن العملية لتحرير سمير القنطار ورفاقه، ولبنان لا ينبغي أن يدفع ثمن حرية شخص، وساعةً يتحدثون عن أن حزب الله قصد من خلال العملية استدراج الحرب وردّة الفعل الإسرائيلية لتخفيف الضغط عن إيران المحاصَرة بسبب ملفّها النووي». ابتسمتُ كي لا أضحكَ بصوت عال مع بسام. الفرح بيننا متعادل، لكني، في هذه اللحظة، شعرتُ بأن سعادتي مجروحة بتحميلي ذنب الحرب الإسرائيلية على لبنان. لم أستطع نسيان هذا. غرقتُ في تفكير أسود. آلمتني شخصنة الموضوع تارةً وتسييسه تارة أخرى. كيف يطالبون بالمفقودين والأسرى اللبنانيين ويستغنون عني؟ أحياتي وحياة أيّ مقاوم لبناني ضد إسرائيل رخيصة إلى هذا الحد؟ والأهم، أنهم يفعلون هذا في لعبة بهلوانية بائسة تبرّئ إسرائيل وترتعب أمامها. فتحميلي ذنب الحرب أشبه بتحميل إسرائيل الجنديين الأسيرين مسؤوليتها. لكن إسرائيل لا تفعل هذا. لا تفكّر فيه، بل تقول إنها تخوض حرباً لأجل تحريرهما. وأنا أسير منذ 28 سنة، لا من يومين، وأسرتُ من أجل قضية. لم أُسجن لأني سرقتُ أو ارتكبتُ جريمة. أُسرتُ وأنا أنفّذ مهمتي في الصراع مع العدو. آلمني الوضع. أساءتني تلك الرغبة في رميي وإهمالي. انسحبت إلى سريري لأخلو بنفسي. حاولت الاسترخاء ورغبت في بعض النوم لأطرد تلك الأفكار وأصفّي ذهني، لكنّي لم أستطع التحرّر من الاستنفار العصبي الذي يسيطر عليّ. ضاقت بيَ الدنيا. أمسكتُ بقميصي فوق صدري وشددته لأمزّقه. كان قطنيّاً فمطّ في يدي. أحسستُ أن هذا القميص الهزيل الذي رغبتُ في تمزيقه مثل المقاومة، صمد وعاد فوق صدري وجسدي. هدأت. في اليوم الثالث للحرب، ما زلتُ أتألّم رغم اطمئناني إلى أن المقاومة ستصمد وتواجه وترد. إسرائيل تراجعت قليلاً، وأعادت القيادة العسكرية صوغ أهداف أكثر تواضعاً مما أعلنته في بداية حربها. صار هدفها إجبار الحكومة اللبنانيّة على تنفيذ القرار 1559. أين الأسيران اللذان قالت إن حربها هي من أجل إعادتهما؟ سألت نفسي. مساءً، توجّهتُ إلى إدارة السجن لأحلّ مشكلة عالقة لا يمكن الشباب القيام بها. فرغم انهماكي بمتابعة أخبار الحرب، لم أترك هموم السجن، لا يمكنني ذلك، وإن كان الشباب خفّفوا من مراجعتي في كل صغيرة وكبيرة. هناك، في مكاتب الإدارة، قال لي شرطي إن منزل حسن نصر الله قد دُمّر نهائياً ويُعتقد أنه كان فيه. لم أُظهر أيّ ردّ فعل، كبحتُ مشاعر القلق التي اعتملت في داخلي. حافظتُ على رباطة جأشي ورغبتُ في أن أهزأ به بالقول إن السيّد حسن غيّر عنوانه واستأجر شقّة أخرى لكنه لم يخبركم. عدلتُ عن فكرتي كي لا أدخل معه في سجال. طلبتُ منه ألّا يغيّر الموضوع بهدف عدم حلّ المشكلة. اختصرتُ الأمر إلى أقصى الدرجات وانسحبتُ لأشاهد التلفزيون في زنزانتي. ولم يتأخّر الردّ: أطلَّ السيّد حسن عبر قناة «المنار» وإذاعة «النور» مبدّداً الشك في أمر إصابته. أنا تابعته عبر إذاعة «النور». والذروة كانت حين دعا إلى النظر إلى عرض البحر. استجبت له واندفعتُ في حركة عفوية نحو باب الزنزانة كأني أرى تلك البارجة، «حانيت»، التي استُهدفت مباشرة في تلك اللحظة أمام شواطئ بيروت. وقفزتُ في الزنزانة مبتهجاً. نظرت عبر الباب بحثاً عن ذاك الشرطي، لأنظر إليه وينظر إليّ وحسب. لا كلام أقوله له الآن. نظرة فقط، كفيلة بأن تكون كذاك الصاروخ الذي أشعل «حانيت». ضجّ السجنُ ابتهاجاً. «مبروك». «مبروك»، صرخة تتعالى من أبواب الزنازين. انتعش الشباب في السجن، وقلت: بدأ النصر وعلى كل المستويات. سقطت أسطورة الجيش الذي يكذّب ويقول ما يشاء. صار مرغماً على الاعتراف تحت ضغط الصورة. ❞جوزف سماحة ضاحكاً ضحكته الهازئة: سيطلبون منك أن تكتب بيان اعتذار عن الحرب❝ولأن إسرائيل تتنصّت على الكثير من الخطوط، صرتُ أختصر في الاتصال، لكني لم أشأ أن أوقف الاتصالات نهائياً، فمنها أعرف بعض التفاصيل والأخبار. واليوم، تحدثتُ إلى جوزف سماحة. أخبرني أين وصل الإعداد لجريدة «الأخبار». سألته عن رأيه في ما يجري. قدّم لي قراءة سياسية للحرب والمنطقة، قال إنها محطة أخرى لفشل المشروع الأميركي الإسرائيلي للشرق الأوسط الجديد. وأكّد ثقته بالمقاومة. أضاف إن إسرائيل شنّت الحرب باستسهال هزيمة حزب الله، وبشعور خفيّ بالاستعلاء على المحيط العربي، لكن النتائج خلاف ذلك. فإسرائيل الجاهزة لمواجهة الدول العربية مجتمعة تتخبّط بحثاً عن سبيل للانتصار على جزء صغير من قوّة مستعدّة للقتال. وهذا ما خلق المفارقة في فهم معنى الانتصار. إسرائيل ترى في أيّ شيء دون النصر الحاسم على حزب الله هزيمة لها، لأنها ترفض مبدأ التعادل. وحزب الله يرى في منع إسرائيل من تحقيق النصر انتصاراً لا مثيل له. وختم كلامه كعادته بمزحة ساخراً ممّن يقولون إن الحرب بسببي وإن حريّتي لا تستحق تدمير لبنان. قال: «سيطلبون منك أن تكتب بيان اعتذار عن الحرب». وضحك ضحكته المبحوحة الهازئة المفتوحة على العقل. بعد أسبوع، عند الخامسة من صباح اليوم الثامن للحرب، اقتحمت قوّة خاصّة غرفتي. أيقظونا. استفسرتُ عمّا يجري، فردّ الضابط: «تفتيش». يحملون معهم عدّة شغل كاملة لفكّ كل شيء. لم أفكر إلّا في الهاتف، فأنا أخبّئه في مكان داخل الزنزانة بسيط جداً ولا يحتاج إلى عدّة. اخترتُ هذا المخبأ لبساطته. فالأماكن الصعبة يُبحث عنها وهي أكثر خطراً. وقد سبق أن اكتشفوا مرات عدّة مخابئ بُذلت جهودٌ لبنائها. لذا، فكّرتُ أن أضعه تحت عيونهم ومع ذلك لا يرونه. كما يختبئ السارق قرب مركز الشرطة، أو فيه حتى. قطعة بلاستيك صغيرة، إذا ما رفعوها، وربما يضعون أيديهم عليها، يجدونه. قلت في نفسي مع بدء التفتيش: «خلص، وجدوه. وسأُعْزَل عقاباً، والآن أنا في أمسّ الحاجة إلى التواصل مع العالم». رفضت الشرطة أن أبقى أنا ممثلاً لزنزانتنا أثناء تفتيشها. فبعد نضال وإضرابات توصّلنا معهم إلى اتفاق على أن يبقى ممثّل لكل زنزانة يراقب أثناء التفتيش كي لا يُسرق شيءٌ. رفضوا بقائي لاعتقادهم أنني سأعترض على همجيّتهم في التفتيش، وربما لاعتقادهم أن لديّ هاتفاً وقد أشوّش عليهم أثناء البحث. أخرجوني من الزنزانة فوجدتُ أنهم اختاروا، إلى زنزانتنا، أربع زنازين أخرى هي زنازين قيادات السجن. التقيتُ في الممر بمروان البرغوثي وعبد الناصر عيسى وتوفيق أبو نعيم. عندما اجتمعنا، سأل بعضنا بعضاً عمّا يبحثون عنه. شككنا في احتمال وصول خبر إليهم بوجود هواتف لدينا. توجّهت، في الساحة، إلى حيث نضع حراماً لنجلس عليه أثناء الفورة. جلستُ أدعو ونمت. أحلى شيء النوم في هذه الظروف. وزميلي في الزنزانة، جاد الله كنعان، استغرب ذلك. قال لي: «ألا تعرف أن في زنزانتنا هاتفاً، وفي أي لحظة يمكن أن يكتشفوه؟». المهم، تركني في حالي، رغم توتره. وبعد ساعة تقريباً، استدعى أحد الحراس مروان ورفيقه في الزنزانة، إذ انتهت عملية تفتيشها. ثم نادوا على عبد الناصر ورفيقه، وبعدهما على توفيق ورفيقه. بقيت زنزانتنا، ما زال التفتيش فيها جارياً. أَخْ! اكتشفوا الهاتف، قلنا، لكني بقيتُ هادئاً مستلقياً، أغفو أحياناً. طلع النهار، وبعد ساعات دعونا إلى الدخول. ورحتُ أنظر في وجوه الضباط، أتفرّسها، أريد أن أعرف هل اكتشفوا الهاتف أم لا. قال أحدهم: «صباح الخير سمير». نطقها ببرودة وبلهجة عادية. قلت في نفسي: «الظاهر أنهم لم يجدوه». وواصلتُ المشي حتى باب زنزانتي. دخلت فكاد زميلي، أبو جاموس، الذي بقي يمثّلنا، يضحك لأنهم لم يكتشفوا الهاتف رغم بساطة مخبئه. عاجلته بإيماءة التزام الصمت. الضباط ما زالوا في الممر قرب الزنزانة، وأيّ حركة، ولو ضحكة صغيرة، قد تلفت الانتباه وتفضحنا. ولمّا ابتعدوا، وفرغ القسم منهم، روى أبو جاموس لي ما جرى. قال إنه في اللحظة التي وصل فيه الجندي إلى سريري وشرع في فك قطع البلاستيك الموجودة في أعلى أعمدته الأربعة، أمره ضابط بالخروج إلى الممر وفك اللمبات هناك. ففي أحد تلك الأعمدة أخبّئ التلفون، بعدما حشوته بإسفنج جمعته من الفرش والمخدات. حينذاك، حسِبَ أبو جاموس أن ساعة الحقيقة قد حلّت، ولا سيما أنه في عمليات التفتيش الكبيرة يفكّون قطع البلاستيك تلك. وعلمتُ أنهم فتحوها في الزنازين الأخرى، إلّا في زنزانتي. عدنا إلى أجواء الحرب. شعرت بحماسة وثقة غريبتين وأنا أقرأ، صباح يوم الجمعة الثاني من الحرب، أي في اليوم العاشر منها، مقالة ناحوم برنيع في «يديعوت أحرنوت». حملت الجريدة وتوجّهت إلى زنزانة مروان البرغوثي. وقفتُ خارجها. تبادلنا عبر الشبّاك ابتسامة التواطؤ على سرّ لم يُكشَف. ورفعت في وجهه الجريدة كمن يشهر وثيقة في وجه شخص يخالفه الرأي، رغم أن موقف مروان مع المقاومة لكنه متخوّف من هزيمتها وألّا تنتهي الأمور لمصلحتها. سبق أن تحدّثنا حديثاً عابراً في زحمة متابعتنا الأخبار الميدانيّة للحرب. قلت له: «خذ اقرأ ناحوم برنيع. يقول «اهرب أولمرت، اهرب!» من لبنان والحرب عليه. لقد جال مع الجنود الإسرائيليين على الحدود ودخل إلى حيث أمكن جيش الاحتلال أن يتوغّل في الأراضي اللبنانية، ورأى ما رآه». قرأ مروان المقالة بسرعة. وأنا أقرأ في وجهه ردّ فعله. كان بين الصدمة والتوقّع، كمن يقول إنني أعرف هذا ويفرحني لكن العبرة في النهاية والنتائج، ولا ينبغي أن يغرينا أو ينيّمنا على حرير. سألته: «أنت كقائد عسكري ماذا تفسّر صمود المقاومة في الميدان وتصاعد ردّها وارتفاع عدد الصواريخ وقدرتها على تحديد الأهداف وإصابتها؟». ردَّ: «ممتاز، دليل سيطرة وقدرة تحكّم، وحفاظ على القوّة الأساسية في أماكنها». «كُسر التابو، وما عاد في إمكانهم إخفاء الخسارة أو صعوبة سحق المقاومة والانتصار عليها». لم يكن همّي في الحوار أن أؤكد أن حزب الله انتصر. كان همّي أن أقول إن المقاومة عموماً لا تُهزم إلا إذا أرادت هي ذلك. فلا احتلال الأراضي يعني أن المقاومة هُزمت ولا التدمير يعني الانتصار. المقاومة ليست جيشاً نظاميّاً، المهم أن تتخفى وتحافظ على قدراتها وتباغت وتهاجم وتكبّد العدو الخسائر وتربكه. كنت أحدّثه شخصيّاً، وأوجّه الرسائل له تحديداً. وهو جاملني من دون أن يتراجع عن مخاوفه. في منتصف الحرب تقريباً استُدعينا أنا ومروان البرغوثي وتوفيق أبو نعيم إلى مكتب إدارة السجن. كانت في انتظارنا مسؤولة الاستخبارات في مديرية السجون، اسمها بيتي، قصيرة ونحيفة وترتدي بنطلوناً وقميصاً مدنيين. تحدّثت عن الوضع الفلسطيني وحركة حماس التي «تعرّض الفلسطينيين للخطر ولا يمكن أن تخفي شاليط أكثر من ذلك». وشرعت تتكلّم عن الحرب على لبنان. تركتها تعرض تصوّرها منطلقةً من أن المسألة مسألة أيّام وينتهي حزب الله، ودخلت عليها. قلت: «ستفشلون في حربكم وتُهزمون ولن تنهوا حزب الله أو تدمّروا قدراته الدفاعية، وستنسحبون من لبنان مهزومين ومذلولين». وأخرجتُ لها سيناريوهات المستنقع اللبناني: «لن تستطيعوا دخول بلدة والحفاظ عليها. الميركافا ستتبهدل وسلاح الطيران سيفقد الكثير من فاعليته، إلا القدرة على التدمير وقتل المدنيين كما تفعلون الآن». اغتاظت وردّت موحيةً أنها مستغربة موقفي: «أنت تقول هذا؟ أنت تعرفنا، وتعرف أننا لا نُهزم!». أغمضت عينيّ ثم فتحتهما وتركتهما ناعستين، ورحت أخفض رأسي وأرجعه، وأنا أجيبها: «أعرفكم وأعرف جماعتنا، نحن لا نُهزم». ومروان ينظر إليَّ فرحاً، وذروة ما ابتهج به عبارتي: «سيلعب المقاومون بكم أتاري». ضحك بقدر ما كانت هي مغتاظة، إلى درجة أنها أنهت الحديث بسرعة. أثناء عودتنا إلى القسم قال لي مروان: «أسمعتَها كلاماً لن تسمعه في حياتها». بعد الحرب التي انتهت بمجزرة الميركافا في سهل الخيام - مرجعيون ووادي الحجير، أكثر من خمسين منها دُمّرت، مرّت «بيتي» في القسم وكنتُ مع مجموعة من الشباب نتحدث، أشاحت بنظرها عني، بالتأكيد متذكّرةً كل ما قلته لها. ناديت عليها: «بيتي». استدارت نحوي: «ماذا؟». سألتها: «كيف الأتاري؟». وأكملَتْ طريقها من دون أيّ كلمة، على وقع ضحكاتنا. * سكرتير التحرير في «الأخبار»