لم يعلم أهالي بلدة عبيه الجبلية، المطلة على البحر، القابعة بين حنايا الصنوبر والخروب، أن اسم بلدتهم سيتصدر أولى النشرات الإخبارية، وستصبح قبلة لمندوبي الوكالات الإقليمية والعالمية، الذين يحاولون معرفة التفاصيل عن ابن بلدتهم الأسير سمير القنطار، الذي لقب ب»عميد الأسرى»، كونه من أقدم الأسرى في سجون إسرائيل. مازالت والدته تتذكر آخر كلمات ابنها: قبّلنا وودّعنا وقال «غيبتي طويلة».. بعد الإعلان عن خبر إطلاق سراحه، تنهمك الحاجة سهام، 71 سنة، في إعداد المأكولات التي لم يشأ القدر أن تعدها لابنها طيلة 29 عاما، فسمير يفضل البيض المقلي. في سجن هداريم، وغداة الإعلان عن صفقة تبادل الأسرى بين حزب الله وإسرائيل، تلقى سمير القنطار عشرات الطلبات لإجراء مقابلات وأحاديث صحفية مع وسائل إعلام عبرية وعربية وأجنبية، إلا أنه قرر ألا يدلي بأي تصريح حتى يصل إلى بلاده. لا يعرف بسام شقيقه سمير، فعندما اختار هذا الأخير طريق المقاومة والنضال لم يكن بسام قد أكمل عامه الثاني. يفخر بسام بشعور المحيطين به ويقول: «أتلمس ذلك كل يوم، في لبنان يتبادل الناس دوماً المجاملات، لكن الكل هذه المرة مندفع ومتحمس، تلقيت اتصالاً منذ يومين من جبيل، يريدون صوراً لسمير لتعليقها». يتابع: «أعتقد أنها فرصة لأن كل انتصاراتنا في لبنان وصلت إلى الذروة وأضعناها، هذا البلد طاحونة أحداث ولم نحافظ ولو لمرة واحدة على أي إنجازات». بتنفيذ عملية تبادل الأسرى التي أشرف على تفاصيلها حزب الله ، يكون لبنان قد أغلق ملف الأسرى نهائياً مع إسرائيل، إذ يعد القنطار من أقدم الأسرى في سجون إسرائيل وأشهرهم. يعود سمير ليحتفل بعيد ميلاده السادس والأربعين في الثاني والعشرين من هذا الشهر بين أهله وفي بلدته عبيه، التي انطلق منها في أولى عمليات التصدي والقتال ضد إسرائيل سنة 1978، وهو لم يتعد بعد السادسة عشرة من عمره. اعتقلته لأول مرة أجهزة المخابرات الأردنية عندما حاول تجاوز الحدود الأردنية الإسرائيلية في مزج بيسان مع عضوين آخرين في جبهة التحرير الفلسطينية وفي نيتهم اختطاف حافلة إسرائيلية على الطريق الرابطة بين بيسان وطبريا والمطالبة بإطلاق سراح سجناء لبنانيين مقابل المسافرين. قضى القنطار 11 شهرا في السجن الأردني، ثم أفرج عنه بشرط عدم الدخول إلى الأردن مرة أخرى. عاد والد سمير من الخارج حيث يعمل، وطلب رؤيته إلا أنه لم يكن في المنزل، غضب وسأل عن سبب غيابه المتكرر، لكن سمير دخل فجأة وأخبر والده بأنه قد أصبح ملازماً في منظمة التحرير الفلسطينية، ثم غادر مسرعاً ليعود بعد ثلاثة أيام، وبعد سفر والده في 20 أبريل 1979 ودع أسرته على أن يعود بعد يومين حسب والدته... بعد يومين تسلل القنطار، على رأس مجموعة من ثلاثة عناصر من جبهة التحرير هم عبد المجيد أصلان ومهنا المؤيد وأحمد الأبرص، إلى إسرائيل من طريق شاطئ صور بقارب مطاطي. عند وصولهم إلى مستعمرة نهاريا الإسرائيلية أطلقوا النار على سيارة شرطة إسرائيلية وقتلوا شرطياً. ثم توجهوا إلى أحد المنازل واحتجزوا صاحبه داني هاران، عالم الذرة الإسرائيلي، وطفلته التي كانت تبلغ من العمر أربع سنوات، فيما اختبأت زوجته هاران في خزانة المنزل مع الطفلة يائيل. ولحقت الشرطة بالمجموعة التي لجأت إلى شاطئ قريب حيث بدأ تبادل لإطلاق النار بين شرطيين والقنطار ومجموعته، فقتل هاران والطفلة رائيل اختناقاً عندما حاولت الأم إسكاتها خشية اكتشاف المخبأ. في تلك العملية، قتل الفدائيان أصلان والمؤيد بنيران رجال الشرطة الإسرائيليين، في حين اعتقل القنطار والأبرص. وفي 28 يناير من العام 1980 أصدرت المحكمة الإسرائيلية المركزية في تل أبيب على سمير القنطار خمسة أحكام بالسجن المؤبد أضيفت إليها 47 عاماً لتتحول المدة الإجمالية إلى 542 سنة. ولم يبق سجن في إسرائيل إلا وزاره سمير، إلى أن استقر في معتقل نفحة الصحراوي في النقب وهو من أقسى السجون الإسرائيلية، لينقل قبل نحو سنتين إلى معتقل هداريم. اعتقل سمير وهو ينزف دماً وتعرض للتعذيب، وهو ما وصفه في رسالة من داخل سجنه سربها محاميه شرح فيها تفاصيل تعذيبه قائلاً: «لقد صلبت عارياً على حائط وبدأ جنود الاحتلال يتدربون فن القتال على جسدي، بقيت تحت الشمس واقفاً ويداي إلى الأعلى مقيدتان على الحائط ورأسي مكسو بكيس من القماش الأسود تنبعث منه رائحة نتنة. بعد حفلة التعذيب هذه كبلوني وألصقوا بأذني مكبرات للصوت ومنها تدوي صافرة في الرأس حتى فقدت الشعور والإحساس بالوجود». وتابع في فقرة أخرى: «أقسى ما عانيته كان عندما وقعت جريحاً، وبدأت عمليات استئصال بعض الرصاصات من جسدي حيث كنت شاهداً على العملية لأنهم لم يعطوني مادة مسكنة للألم، وعندما حاولت الصراخ من الألم أغلقوا فمي وكلما كنت أحضر للعيادة في السجن لتغيير الضمادات كان الطبيب يدخل إصبعه في الجرح بحجة أن عليه أن يتأكد من عيار الطلقات التي اخترقت جسدي، وأثناء التحقيق، كنت أجلس أمام المحقق مكبل اليدين والقدمين، ويطفئ المحقق سجائره في يدي، بقيت في زنزانة طولها نصف متر وعرضها نصف متر وسط الظلمة لا أعلم متى يبدأ النهار ومتى ينتهي الليل». بعد إضراب عن الطعام دام 19 يوماً نجح سمير إلى جانب عدد من الأسرى في الاستفادة من التعلم بالمراسلة من داخل سجنه وبعد تعدد طلباته ومحاولاته، تم السماح له في عام 1992 بالالتحاق بجامعة تل أبيب المفتوحة وهي تسمح بانتهاج أسلوب التعلم عن بعد، وقد تخصص في مادة العلوم الإنسانية والاجتماعية وأنهى دراسة الإجازة في يونيو العام 1997، وفي يوليوز من العام 1998 طلب سمير القنطار متابعة دراسته العليا في جامعة خاصة موجودة في إسرائيل، ولكن إدارة السجن رفضت طلبه معتبرة أنه لا يمكنه الدراسة إلا في جامعة عبرية كي تراقب مضمون المواد، لكنه تابع دراسة الماجستير في مادة الديمقراطية وتجاوز العقبات التي وضعتها مديرية السجون. عند عودته إلى قريته، لن يتمكن القنطار الذي مازال يعاني من مرض الربو ومن رصاصة لا تزال مستقرة في رئته اليمنى من معانقة الوالد الذي توفي قبل 22 سنة إثر سكتة قلبية، ولن يستطيع أن يرى أيضاً شقيقته سناء التي قضت نحبها إثر نزيف حاد في الدماغ.