بالعام 1979, قاد سمير القنطار (ولم يكن عمره قد تجاوز بعد الستة عشرة عاما) قاد مجموعة من أفراد جبهة التحرير الفلسطينية, تسللت بعد منتصف الليل لبلدة نهاريا, الشديدة التحصين عسكريا, فاقتحمت منزل عالم ذرة إسرائيلي مفترض, لتقتاده هو وابنته الكبرى كرهينة, بغرض مبادلته بأسرى لبنانيين وفلسطينيين وعرب, حتى إذا ما فاجأتهم الشرطة الإسرائيلية على شاطئ البحر, وهم بطريق العودة برهائنهما, قتل العالم وابنته وعناصر من الشرطة في تبادل لإطلاق النار, فيما توفيت الإبنة الصغرى وهي بأحضان أمها بالمنزل, وتبرأ القنطار من دمها, فما بالك بتحطيم جمجمتها بدم بارد. قتل من مجموعته للتو عبد المجيد أصلان ومهنا المؤيد, واعتقل هو وأحمد الأبرص, أطلق سراح هذا الأخير بماي من العام 1985, في إطار صفقة تبادل أسرى بين إسرائيل والجبهة الشعبية لتحرير فلسطين/القيادة العامة, فيما حكم على القنطار بخمسة مؤبدات, مضافا إليها 47 عاما, لإدانته بقتل خمسة أشخاص, وبقي من حينه, أي منذ يناير 1980, متنقلا بين سجون إسرائيل القاسية, إلى أن حط به الرحيل نهائيا بمعتقل نفحة, حيث كان يقضي عقوبة السجن تلك. وعلى الرغم من العديد من المحاولات لفك أسره, سيما في أعقاب اختطاف الباخرة أكيلو لارو سنة 1984, وكان على متنها إسرائيليون وأمريكان, وعلى الرغم من إدراج إسمه ضمن صفقات لتبادل الأسرى, خصوصا بعد انسحاب إسرائيل من جنوب لبنان, على الرغم من كل ذلك, فإن إسرائيل لم تخف يوما نيتها القاطعة لمستوى الجزم, في الإبقاء على القنطار, لدرجة تلميحها إلى استحالة تحريره, كائنة ما تكن الظروف والملابسات والمغريات. وإذا لم يعد من الادعاء الصرف في شيء, القول بأن حزب الله قد استطاع هزم إسرائيل بحرب تموز من العام 2006, ودحر جيشها, وتهديم نظرية الجيش الذي لا يقهر , فإنه من غير الادعاء أيضا, القول بأن ذات الحزب قد استطاع توظيف ذات السبق العسكري, لجني ثماره السياسية, اعترافا للحزب بالقوة والصلابة والجلد, وإيمانا بأنه بات عنصر المعادلة الذي لا بديل عن محاورته, وإن عبر وسطاء آتين من بعيد. إن النصر الذي حققه حزب الله بصيف العام 2006, بأعقاب اختطافه لجنديين إسرائيليين, مراهنة من لدنه على فرضية مبادلتهما بالأسرى العرب, القابعين بالسجون الإسرائيلية, إنما كان الفاتحة التي على أساسها تم تحريك ملف الأسرى وبمقدمتهم ملف سمير القنطار, الذي اتخذ الحزب من تحريره تحديا أعلنه أمينه العام جهارة, والتزم به أمام حزبه ووطنه, واتخذ منه أولوية ما بعد الانتصار في الحرب, هو الذي (القنطار أقصد) لم يكن يوما عضوا بالحزب, ولا كان للحزب من وجود يذكر إبان اعتقاله بشاطئ نهاريا. وإذا كان سمير القنطار (وجمع من رفاق له, أسروا بأعقاب حرب تموز) قد باتوا أحرارا طلقاء, بوطنهم وبين أهلهم وذويهم, فإن قراءة أولية (من منطلق الربح والخسارة على طرفي المعادلة, إسرائيل وحزب الله), إنما تبين بجلاء حقائق تفصيلية, لربما لم تستوقف المرء كثيرا بخضم الاحتفال بالتحرير, لكنها تدلل أيما تكن الدلالة على القادم من تحولات وتطورات: + فحزب الله أدار المفاوضات مع إسرائيل, عن طريق الوسيط الألماني, بحنكة وحرفية نادرتين, فرفع سقف مطالبه, كي يطاول نقطة التسوية النهائية لملف الأسرى والقتلى والمعتقلين, الأموات منهم كما الأحياء سواء بسواء. هو لم يدفع بمبدأ قتيل بقتيل, أو أسير بأسير (على الأقل بين إسرائيل ولبنان), بل دفع بمطلب التصفية النهائية للملف, على أساس مقولة سلمني ما لديك أسلمك ما لدي, أسرى كانوا أم جثثا أم رفاة, ولنعلن معا بعد ذلك, أن الملف قد أغلق بالجملة والتفصيل . بالتالي, فلو قبلت إسرائيل بذات المنطق, وقد انتهت بقبوله صاغرة مضطرة, فإن ذلك (على الأقل بتصور مفاوضي حزب الله) سيضمن تحرير الأربعة أسرى, يضمن استرجاع الرفاة, وسيفضي بتحصيل حاصل, إلى إدراج ملف سمير القنطار, باعتباره محور ذات المطلب, وهدف المطب المنصوب لمفاوضي دولة إسرائيل. وكذلك كان, إذ لم يتم الاتفاق على تبادل جثامين الشهداء ورفاتهم فحسب, ولا على مقايضة الأسرى الأربعة, بل طاول الاتفاق سمير القنطار أيضا, على اعتبار حزمة الاتفاق المبرمة وبمنطوقها. + والحزب, حزب الله, راهن على السرية والتكتم, فأوكل الملف لأمينه العام شخصيا وللفيف من صحبه, منحوا صلاحيات تدبيره, وتتبع أطواره درجة بدرجة مع الوسيط الألماني. إن حزب الله كان, بهذا الجانب, متمكنا أيما يكن التمكن من نقط ضعف وقوة خصمه, وعارفا أعمق ما تكون المعرفة بدهائه وقدرته على المناورة والمكر, ومدركا الإدراك كله, أنه بإزاء خصم عنيد, يوظف لبلوغ مآربه الخشونة والدهاء, قبل اللين وحسن النية. لذلك, فقد تعامل مع مفاوضيه, وهو يعلم علم اليقين أنهم قد يغدرون به, أو يتعذرون لطعن ما التزموا به, أو يتراجعوا إن تبين لهم أنهم خدعوا, وهكذا. ولما كان الأمر كذلك, ولربما أكثر, فإن حزب الله لم يطلعهم على حقيقة وضع الجنديين, أأحياء يرزقون هم, أم باتوا جثثا, أم تحولوا إلى رفاة, حتى إذا اقتربت شاحنات الصليب الأحمر الدولي, صبيحة ذلك اليوم, 16 يوليوز 2008, من نقطة الحدود والعملية (عملية التبادل) قد قاربت على نهايتها, تبين أنهما جثتين, أكد خبراء الطب الشرعي بإسرائيل أنهما للجنديين حقا وحقيقة, بدأت تعرية التعفن تطاولهم. العبرة, بهذه الجزئية, لا تكمن فيما آل إليه وضع الجنديين, بل تكمن في حرفية التكتم على مصيرهما, لإغنام مكسب إضافي بآخر دقيقة, أو الاحتفاظ بما تم تحصيله بالمفاوضات, وهي (الحرفية أقصد) التي لم تكن لتدرك كلها, لو لم يكن الملف بأياد تدرك جيدا, تقنيات التفاوض ونظريات المساومة عن ظهر قلب. + ثم إن الحزب, حزب الله, لم يفرط قيد أنملة, في آلاف الأسرى الفلسطينيين والعرب, بل حرر العديد ضمنهم, لكن مفاوضيه لم يستطيعوا توسيع مجال الحزمة, وإلا فحتما فشل العملية, إذا لم يكن بالجملة, فتأكيدا بالتفاصيل. إن حزب الله قد أفرج عن رفات مغاربة وفلسطينيين وأردنيين وتونسيين وسوريين وغيرهم, لكنه لم يستطع إدراك المبتغى الأمثل, مبتغى تحرير كل العرب والمسلمين (إيرانيين تحديدا) من سجون الاحتلال, إذا لم يكن بسبب ضيق مجال دفتر التحملات المتوافق عليه مع العميل/الوسيط, فتأكيدا بحكم تعقد المسارات, التي تسري على هؤلاء بالمنطقة كما بالبلدان البعيدة. ومع ذلك, فإن ما تم انتشاله من مقبرة الأرقام إنما هو, بنظر حسن نصر الله, عنوانا رمزيا, المفروض أن تمتطيه الحكومات والتنظيمات السياسية والمدنية بكل دولة, لتحرير أسرى وجثامين ورفاة أهلها ومواطنيها. وعلى هذا الأساس, أساس كل ما سبق, فإن تحرير سمير القنطار وصحبه الأربعة, واسترجاع العشرات (وضمنهم رفاة الشهيدة البطلة دلال المغربي) إنما أبان أن حزب الله ليس تنظيما عسكريا فحسب, بل هو إطار سياسي فعال وناجع أيضا, يقوم عليه نفر من الناس لم تخلف وعدها يوما, ولا زايدت على أحد, ولا اتخذت من إنجازاتها مادة للابتزاز, أو لمصادرة القرار هنا أو هناك. لا يتأتى الدليل على ذلك هنا من الاحتفال الجماهيري والرسمي الواسع, الذي تزامن وعملية الرضوان, ولا من اصطفاف كل الساسة حول الإنجاز, بالحضور والتبريك والتهنئة, بل وأيضا من التئام كل الطوائف والملل والنحل, حول الأسرى المحررين, واعترافهم مجتمعين (وضمنهم من كان يزايد على خط المقاومة جهارة) بقوة المقاومة, ونجاعتها, وضرورة حمايتها, واتخاذها عضدا للجيش, بأية استراتيجية دفاعية مزمعة أو مقدم على صياغة مضامينها وتوجهاتها. إذا كان انتصار حزب الله, بيوليوز 2006, قد لقي مزايدات وشكوك وطعونات من الخلف, فإن إنجاز ال 16 يوليوز 2008 أكد, بحجمه وطبيعة مدركاته, ذات النصر, ودفع بأعدائه كما بأصدقائه, للاعتراف له بالقوة والحنكة والحرفية وطول النفس. إن حزن إسرائيل, وتذمر ساستها من غنيمة الصفقة الباهتة ماديا (جثتين هامدتين, مقابل القنطار وصحبه ومئات من رفات الشهداء) والفارغة سياسيا, لا تشي فقط بنجاعة خط المقاومة واستحالة دحرها (هي التي تحسد الشهداء على شهادتهم وتستعجلها), بل وتشي أيضا بهذيان السياسة, إن لم ترتكن لعنصر القوة المادية, والاعتبار بالقيم الرمزية, التي تعتبر الشهادة أقواها على الإطلاق, بل وأفتكها. هنيئا للمقاومة اللبنانية إنجازها الكبير, وبشرى للمقاومة العراقية, المكابرة, المرابطة بقوة, هناك ببلاد الرافدين.