عرف المجتمع المغربي في السنوات الأخيرة ارتفاعا خطيرا في نسب الانتحار، وهذا ما يكشف عن حجم التدهور الكبير في الصحة النفسية العامة، وخاصة في بعض المناطق التي تعرف ارتفاع نسبة البطالة والفقر، وما يزيد من تفاقم الظاهرة، هو غياب سياسات عمومية تولي اهتماما كافيا بالعلاج النفسي، بالإضافة إلى ضعف مجتمعي شديد في مجال الثقافة النفسية، وهو ما يؤدي إلى تفاقم الأمراض النفسية في المجتمع، وانتشارها واتساع نطاقها، وتكون له عواقب جسيمة على التماسك الأسري والاستقرار الاجتماعي، ومن أهم تجليات ذلك تزايد الانتحار والإدمان والجريمة بمختلف أنواعها. وفي هذا السياق، يطرح السؤال التالي: ما هي العوامل والدوافع المؤدية للانتحار؟ من البداهة القول إن الأسباب متعددة والنتيجة واحدة، لكن هناك أسباب عامة وأخرى خاصة، والمهم في تقديرنا هو معرفة الأسباب العامة، لأنها هي التي تكون في غالب الأحيان منتجة للأسباب الخاصة، وأيضا تفسر لنا التزايد المقلق في حالات الانتحار، ولذلك سنركز عليها في فهم وتوضيح العوامل الرئيسية المُفضية إلى الإقدام على الانتحار. قبل ذلك، لا بد من الإشارة إلى أن الشخص الذي يفكر كثيرا في الانتحار أو الذي يقدم عليه فعلا، يكون بالضرورة مصاب بإحدى الأمراض النفسية، ومن بينها الاكتئاب الحاد، الذي يكون دافعا إلى التفكير في الانتحار، وأمراض نفسية أخرى تجعل المصاب بها، يعاني من اضطرابات نفسية، قد تصل إلى مرحلة لا يستطيع معها السيطرة على نفسه، ويمكنه أن ينتقل سريعا من التفكير في الانتحار إلى التنفيذ، ويمكن أن يكون وراء سيطرة فكرة الانتحار على الشخص المريض، عدم وجود رغبة لديه في الحياة، بعدما يفقد الأمل في تحسن حالته النفسية، أو ظروفه الاجتماعية، وهو ما يسبب له معاناة وآلام مستمرة. لكن هذا لا ينفي، أن هناك كثير من الأشخاص يعانون من أمراض نفسية مستعصية، ومع ذلك لا يفكرون في الانتحار، حتى وإن كانوا فاقدين للرغبة في الحياة، نتيجة ظروفهم الاجتماعية الصعبة، وهذا الفرق سببه الوازع الديني أو الإيماني، الذي يمنح الشخص المريض القدرة على مقاومة المشاعر السلبية التي تسيطر عليه. على هذا الأساس، يمكن القول أن هناك ارتباط وثيق بين ما يحمل الإنسان من معتقدات، وقدرته على مواجهة مشاكله النفسية والاجتماعية، لكن هناك عوامل وظروف عامة، يكون لها دور حاسم في تحسن أو تدهور الحالة النفسية للمريض، مثل البطالة والفقر والعجز عن متابعة العلاج، وقلة وضعف المؤسسات الخاصة بالعلاج النفسي، وبذلك عندما تجتمع على المريض النفسي الفقر والبطالة والعجز عن متابعة العلاج من جهة، وضعف الوازع الإيماني، فإنه يكون معرضا لفقدان الرغبة في العيش، والتفكير في الخلاص من معاناته، وهذا ما يفسر تزايد نسبة الانتحار في السنوات الأخيرة، والتي شهدت حوادث انتحار مأساوية في عدد من مناطق المغرب، وخاصة في منطقة الشمال، نتيجة تراجع دور الدين في الحياة المعاصرة، وتفاقم المشاكل الاجتماعية، وخاصة معاناة المغاربة من غلاء المعيشة وارتفاع الأسعار، بحيث أصبحوا يعانون من ضغوط نفسية يومية، بحكم الإجهاد في العمل، الذي يستنزف كل طاقاتهم المادية والمعنوية، وعدم خضوعهم لفترات راحة وترويح كافية، من أجل الحصول على المال الكافي، لتغطية مصاريف العيش.. والمثير في ظاهرة الانتحار، أنها أصبحت تمس كل الفئات الاجتماعية، الفقيرة والمتوسطة والغنية، وكل الفئات العمرية بما في ذلك الأطفال والشباب والشيوخ، والنساء والرجال، لكن نسبة انتحار الرجال أكثر من النساء حسب ما كشفته بعض التقارير الحديثة، فقبل أيام فقط، انتحر شاب يبلغ من العمر 21 سنة في مدينة طنجة. وحسب تقريرٍ صدر حديثا عن منظمة الصحة العالمية، فقد تضاعف معدّل الانتحار في المغرب خلال العقد الأخير، حيث تمّ توثيق أكثر من 800 حالة انتحار، 80% منها من الرجال، مع العلم أن هذه الأرقام ستتضاعف في حالة وضع سجلٍّ رسمي لمتابعتها، وما يؤكد أن الصحة النفسية العامة ببلادنا أصبحت في تدهور خطير، هو أن المغرب حسب التقرير جاء في المركز الثاني على الصعيد العربي، من حيث معدل الانتحار بعد السودان، وتجدر الإشارة إلى أنه منذ أربع سنوات لم تجري أيّة دراسة حول الظاهرة، كانت آخرها التقرير الذي نشرته وزارة الصحة آنذاك، اعتمدت فيه على بعض الدراسات الاستقصائية. وقد أوضح هذا التقرير أن 16% من المغاربة لديهم ميول انتحارية، وأن 14% من الشباب (بين 13 و15 سنة) حاولوا وضع حّد لحياتهم لمرّةٍ واحدة على الأقل، وتشهد بعض مدن الشمال ارتفاعا مرعبا في عدد المنتحرين، مثل مدينة شفشاون التي شهدت أكبر عدد من حالات الانتحار، حيث شهدت المدينة قبل أسابيع قليلة، انتحار رجلٍ مسنّ، وكشف أقاربه أنه كان يتلقى علاجاً نفسياً بإسبانيا، كما اهتزّت هذه المدينة الجميلة أيضاً على وقع انتحار شخصين آخرين خلال الأيام الماضية، وخلال شهر ماي الماضي، شهدت مدينة طنجة انتحار أربعة أشخاص، لا تتجاوز أعمارهم الثلاثين، وخلال الفترة الممتدَّة بين يناير وأبريل، شهدت مدينة شفشاون انتحار ستة أشخاص شنقاً، من بينهم ثلاثة (بين 20 و30 سنة). كما تمَّ توثيق 10 حالات انتحار في مدينة طنجة، من بينها صبي يبلغ من العمر 8سنوات، وخلال شهر ديسمبر من العام 2017، سجّلت مدينة شفشاون 5 حالات انتحار في غضون 10 أيام فقط، من بينها فتاة تبلغ من العمر 17 سنة، فضلاً عن امرأة متزوجة تبلغ من العمر 25 سنة، كما أقدم رجلان على الانتحار في مدينة طنجة، أحدهما يبلغ 77 سنة والثاني 27 سنة. وخلال الأسبوع الأخير من السنة الماضية، انتحر طفلٌ في الرابعة عشر من عمره شنقاً، في منزل عائلته في مدينة شفشاون، وفي ظل هذا التزايد الخطير في ظاهرة الانتحار، لا يزال هناك غموض حول الأسباب الكامنة وراء ارتفاع حالات الانتحار في الشمال خاصة وفي مختلف المناطق بشكل عام. لذلك، هناك حاجة ماسة لكي تعمل كل القطاعات والمؤسسات المعنية بالأمن الصحي للمغاربة، على إجراء أبحاث ودراسات، للوقوف على الأسباب المختلفة التي تؤدي إلى ارتفاع نسبة الانتحار ببلادنا، بشكل غير مسبوق، وذلك من أجل إيجاد الحلول والقيام بإجراءات استعجالية، تساعد على الحدّ من اتساع رقعته أفقيا وعموديا، وهذا الأمر يحتاج لقرار سياسي على أعلى مستوى في الدولة، يولي الأهمية القصوى للصحة النفسية للمواطنين، لأنها أصبحت في وضعية حرجة، لا تحتمل مزيدا من الإهمال.