في أحد مساميرك الموجعة اشرت مولاي التهامي بهطاط إلى حقيقتين صحافيتين صادمتين : أولاهما أن بعض الصحف الوطنية انشغلت بالنهش المتبادل في غياب أي تحرك لعقلاء وحكماء المهنة، فتحولت السلطة الرابعة إلى فرجة للصديق قبل العدو. وثانيهما أن الصحافة المغربية لا وجود لها خارج التراب الوطني، لأن تغطياتها لا تتعدى أخبار شبكات الدعارة وتجاوزات رؤساء الجماعات القروية. هاتان الحقيقتان الصادمتان لا مجال لإنكارهما أو تجميلهما أو تفسيرهما سوى بأنهما نتيجة طبيعة لغياب مدرسة صحفية أصيلة، فأحرى مرجعية مهنية يمكن أن تلعب دور “الشرطة” لضبط حركة السير في أزقة الصحافة وحاراتها، ما دمنا لا نملك شارعا للصحافة كما لدى الأمم الرائدة. هذا من جهة، ومن جهة ثانية، لأن الطموح في هذا المجال يتوقف أحياناً عند دوائر ضيقة، مع أن الصحافة التي توصف بأنها جهوية – في فرنسا مثلا- غالبا ما تكون مصدرا دوليا من مصادر الأخبار، بل توزع ملايين النسخ في دوائر أوسع من الجهة التي تصدر فيها. وعند هذه النقطة بالذات، وككل أشكال الإبداع، فإن المحلية هي بوابة العالمية، أي أن من يُقنع مواطنيه وينال إعجابهم، يكون أكثر حظاً عند سعيه للتحليق نحو آفاق أرحب..وفضاءات أوسع.. صحفنا لا تبيع نسخة واحدة خارج المغرب، وهذا أمر منطقي لانكفائها على الداخل، ليس لعجز الأقلام المغربية عن اقتطاع نصيبها من القراء العرب والأجانب، فمواقع الانترنيت أكبر شاهد على الكفاءة المغربية في هذا المجال، بل لأن ناشري الصحف عندنا -خاصة الكبرى منها- يتعاملون بمنطق “الطاشرون” الذي يهمه أن يكون كل شيء مضبوطا بالمليمتر وموزونا بالغرام..وفي الحد الأدنى. وأنا لا أكرر هنا ما قلته مرارا وتكراراً، بل أتخذ من هذا الاستهلال مدخلا للتطرق لموضوع ذي صلة، لا يقل أهمية وخطورة عن كل ما سبق. الأمر لا يتعلق بغياب الصحافة المغربية عن الساحة الدولية، بل بعجز المغرب الرسمي بكل مؤسساته وأجهزته السرية والعلنية، وبصحافته وصحفييه المداحين والهجائين، وبمجتمعه المدني، ونخبه المثقفة.. عن نقل وجهة نظر المغرب في كثير من قضاياه المصيرية، وأقول التعبير عن وجهة النظر لأن الحديث عن اختراق الصحافة الدولية وتجنيدها للترويج لأفكارنا وآرائنا يدخل ضمن خانة التكليف بما لا يطاق..أي المستحيل.. لنستحضر فقط ما حدث خلال رمضان عندما تحالفت الكثير من الفضائيات “الشقيقة” وأجمعت على طعن المغرب في أغلى ما يملكه : الشرف.. فلولا الإمكانيات التي وفرتها شبكة الأنترنيت للمحتجين المغاربة، وخوف “المعتدين” من أن تعلق الحرائق بأذيالهم، لما سمعنا كل تلك الاعتذارات حتى ولو أنها لم تؤد إلى نتيجة.. إن معركة كهذه لا يمكن أن تخاض، فأحرى أن تكسب، في ظل انعدام أسلحتها الفتاكة، وهي الصحافة واسعة الانتشار، سواء كانت مكتوبة أو مقروءة أو مسموعة أو إلكترونية.. ولحسن الحظ أن شبكة الأنترنيت فتحت أمام الشباب المغربي آفاقا غير محدودة، حتى أن متصفح الويب يفاجأ أحياناً بمساهمات تستحق التنويه، بل تجد مواقع لها على صفحات جرائد عربية ودولية رائدة، رغم أن موقعيها “مجهولون تماما” -أو مهمشون حقيقة- في الوسط الصحفي والثقافي المغربي، الخاضع للمحسوبية والانتهازية وسيطرة الدخلاء.. نفس السيناريو يتكرر في القضية المصيرية للمغرب، ألا وهي قضية وحدته الترابية. ففي الوقت الذي كانت “أميناتو حيدر” صورة حاضرة في كل لحظة وفي كل مكان وعبر كل وسائط الاتصال، خلال “أزمتها المفتعلة” بسبب خفة رجل “أبي جهل” المخزني المغربي، لا نكاد اليوم نرى أي شيء عن قضية مصطفى ولد سلمة، رغم أنها أخطر بكثير – قانونيا وإنسانيا- من فشوش حيدر ومن معها من انفصاليي الداخل. فباستثناء “مجاملات” بعض الصحف الخليجية الصديقة جدا، لا أثر لهذه القضية..والتقصير من المغرب بطبيعة الحال.. فإعلامه العمومي -9 فضائيات وواحدة أرضية..وتلك عشرة كاملة- لا يشاهده حتى المغاربة أنفسهم فكيف نتوقع منه صناعة رأي عام دولي ضاغط؟ والإعلام الورقي حاله كما نرى..سباب وهجاء متبادل... أما الإعلام الإلكتروني فأقصى ما يمكنه فعله هو أن يطلق صرخات في سوق هائج مائج...قد لا يسمعها أحد.. الوجه الآخر للمسألة يرتبط هنا بسر عجز المغرب عن “توجيه” مراسلي الصحافة الدولية المتواجدين فوق ترابه، وكذا عن تسخير المنابر ذات التأثير الواسع في عوالم صناعة القرار الدولي لخدمة مصالح.. بالنسبة للشق الأول من التساؤل أعلاه، نستطيع الجزم بكل ثقة بأن المغرب يكاد يكون البلد العربي الوحيد الذي يشتغل المراسلون الأجانب المعتمدون لديه ضد مصلحته، حيث يكفي مثلا أن نقارن بين ما صدر عن مراسلي وكالة الأنباء الفرنسية بالجزائر على هامش قضية مصطفى ولد سلمة، حيث تم تبني الرواية الرسمية للبوليساريو ومن يقف خلفها، بينما أصيب ممثلو نفس الوكالة بالمغرب ب”اللقوة” ولم يكلفوا أنفسهم حتى عناء نقل الواقعة كما هي دون تعليق..الشيء الذي دفع مثلا جريدة “الاتحاد الاشتراكي” إلى تسجيل هذا التناقض باستغراب، يفترض أن يزول حين نعلم أن القائمين على شؤون الإعلام عندنا لا يعرفون كيفية تدجين “المراسلين”..لأن الدخول معهم في مواجهة، أو التضييق عليهم أو انتقادهم سرا وعلانية لن يحل المشكل، بل قد يفتح على المغرب نافذة تدخل منها رياح عاصفة لجمعيات الحق في التعبير وحرية الصحافة وحقوق الإنسان..وهلم جرا.. الحل هنا يمكن باختصار في “المنبع”..فلا توجد على وجه الأرض وسيلة إعلام محايدة أو مستقلة أو موضوعية، بدليل أن حتى قنوات البي بي سي التي لا يجادل أحد في ريادتها لا تستطيع تقديم أية لقطة للهمجية الإسرائيلية في حق الفلسطينيين، حتى لو اضطرت لاختراع مبررات لتفسير ذلك الموقف المنحاز للجلاد على حساب الضحية.. من قبيل الحفاظ على مشاعر المشاهدين.. يملك المغرب سفارات وسفراء وبعثات ديبلوماسية منتفخة في جميع عواصم صناعة القرار، لكنك لن تسمع أبداً عن أية محاولة لربط جسور تواصل مع الجهات المتحكمة في توجيه وصناعة الرأي العام، خاصة في فرنسا وإسبانيا... فالمراسل الصحفي المقيم بالمغرب، حتى لو تم “تدجينه” بأية طريقة، لا يمكنه أن يحقق المطلوب لأنه ليس هو من يحدد الخط التحريري للمؤسسة التي يعمل لصالحها..ولهذا لابد من “التفاهم” مع المنبع...ولغات هذا التفاهم عالمية يعرفها الجميع.. كثير من المطبوعات الفرنسية تغرق في الإعلانات التي تغدقها عليها كثير من المؤسسات العمومية المغربية حتى المترنحة منها والموشكة على الإفلاس، ومع ذلك لا نرى أي مفعول لهذا الكرم..بل يكفي أن نستحضر كيف أن “جون أفريك” مثلا، المجلة المختصة في شؤون إفريقيا “تهبر” كل سنة مئات الملايين من “لارام” وغيرها، لتضع المغرب دائما في المؤخرة بعيدا جدا خلف تونس، حتى حين يتعلق الأمر بمواضيع لا مجال فيها للمقارنة أصلا بين البلدين (حقوق الإنسان مثلا).. لا ينبغي أن نرسم هالة كبيرة للصحافة الأجنبية ونصدقها، فزمن الإعلام المناضل انتهى، ونحن في عصر الإعلام التجاري، كل ما تغير هو طريقة “الإشهار”، فعوض إرسال مبعوثين خاصين، لإعداد ملفات إعلانية ملونة، والفصل بين محاورها بوصلات إشهارية مدفوعة الأجر، أصبحت نفس النتيجة تحقق لكن بطرق “من تحتها” لا تخفى على العاملين في المجال الصحفي.. وهنا يفشل المغرب، ربما لأنه يعتقد أن صناع الإعلام في الغرب معصومون وملتزمون، وبالتالي يتم “التوسل” إليهم لنقل الواقع كما هو على الأقل، بما أن الأمر وصل الآن إلى حد تشويه الحقائق والمس بالمغرب وحقوقه وحتى كرامته..ولا ندري كيف نفسر أن الرهان يقع فقط على وسائل إعلام فرنسية تأكل وتشرب تلعن مضيفها في نفس الوقت الذي تجلس فيه على مائدته.. إن الحفاوة التي يستقبل بها الإعلاميون الأجانب -وخاصة الفرنسيون- تؤدي حتما إلى عكس المراد، لأن المنطق يفرض التوصل إلى اتفاق محدد : المطلوب كذا..مقابل كذا..وما على الذين يحاضرون عن النزاهة والموضوعية والمصداقية إلا أن يتابعوا غزوات ساركوزي الإعلامية..والصراع المضحك بين الصحافة المحسوبة عليه وزميلتها المحسوبة على المعارضة خاصة على مستوى أرقام استطلاعات الرأي المتناقضة.. لقد حان الوقت للكف عن “علف” بعض الصحف والمجلات الأجنبية – خاصة في بعض المناسبات المحددة-، لأن هذه المنابر “تبيع القرد وتضحك على من اشتراه”، فهي تنجز أعداد خاصة لكن توزعها في المغرب فقط، لأنها لا تستطيع أن تقدم لقرائها في العالم، ملفا من عدة صفحات حول المنجزات والمكتسبات التي تحققت في المغرب، بل إن كثيرا منها -رغم تخمة الإعلانات- تأبى إلا أن تجتزأ خريطة المغرب بدعوى “الحياد” أو انتظار “فتوى من الأمم المتحدة”.. لقد حسم المغرب معركة وحدته الترابية عسكريا، رغم كل الضجيج الذي يفتعله المرتزقة حاليا عبر التلويح بحرب لن يؤدي بهم إلى أي أفق.. كما حسم المعركة سياسياً وديبلوماسيا، لأنه من أصل 80 دولة التي كانت تعترف بالبوليزاريو لم يبق سوى 30 ليس بينها دولة واحدة من الدول الفاعلة، ولولا الرشاوى الجزائرية لتقلص هذا الرقم إلى ما هو أقل.. وحسمت المعركة أيضا اقتصاديا واجتماعيا بعد أن اندمجت الأقاليم الجنوبية في الوطن الأم، وحازت نصيبها -وأكثر- من الأوراش الكبرى ومن البنيات التحتية.. لكن المجال الوحيد الذي لازال المغرب لحد الساعة عاجزا عن الحسم فيه، هو الجبهة الإعلامية، حيث إن الانفصاليين يتقنون المناورة في هذه الساحة، بينما -وكما أسلفت- تنشغل صحافتنا المكتوبة بالنهش المتبادل..وإعلامنا العمومي بإنتاج الرداءة ولا شيء غيرها..