بوشعيب الساوري * طالعنا الكاتب المبدع والناقد إبراهيم الحجري بروايته الأولى ‘صابون تازة'1 وهو عنوان مثير مستوحى من التراث الشفهي المغربي، الذي يستعمل هذه العبارة الساخرة مؤكداً أن الشيء المتسخ لا ينفع معه أي صابون ولو كان صابون تازة المشهور بجودته، مبرزاً في تناصه هذا قذارة الواقع واتساخه، واقع شذيذ الانحطاط، تصعب إزالة ما علق به من أوساخ وتشوهات وعوائق وبشكل خاص واقع المجانين وعالمهم الموبوء. يوهمنا السرد بإيراد البطل لقصة قرية منسية هي ‘كطرينة' التي أحرقها المستعمر الفرنسي بعد أن رفض أهلها الخضوع له، وكان والده وصديقه عباس الناجيين الوحيدين من تلك المحرقة، فجعله أبوه الراحل مهووساً بها من خلال ما كان يحكيه له عنها، فيرحل إلى منطقته الأصلية ‘كطرينة'. ليعيد اكتشافها، استجابة لوصية الأب، بالبحث عنها وعن سر تسميتها. ليجد نفسه داخل عالم المجانين فيُجن بدوره. كل ذلك يتخذ إطاراً له الحلم إذ نلمس في آخر الرواية أن السارد البطل كان في حلم. وهو اختيار جمالي موفق أبعد الرواية عن التناول المباشر لظاهرة الجنون. فالحكاية تدعو إلى الرحلة، لتتحول من رحلة إلى ‘كطرينة' إلى رحلة إلى الجنون وعالم المجانين، وهي أيضا رحلة الذاكرة إلى بعث الموروث، وهي رحلة إلى الوجدان. الجنون الذي يحدث انحرافاً سردياً لينقلب بشكل فجائي صادم للقارئ، من الحديث عن كطرينة إلى عالم المجانين وسيرهم وأفعالهم المثيرة ودورهم الاجتماعي وكيف يتم التعامل معهم داخل المجتمع، إهانة وسخرية وتعنيفاً وفرجة. قبل الحديث عن تخييل الجنون في رواية ‘صابون تازة' لا بد لنا من تحديد مفهوم الجنون. ومن المفكرين الذين انشغلوا بظاهرة الجنون الفيلسوف الفرنسي ميشال فوكو الذي ميز بين شكلين من الجنون: هناك شكل سلبي يمكن نعته بالجنون المأساوي dramatique، وهو غالباً ما يصيب الأفراد، لأسباب سوسيو اجتماعية وثقافية. وهناك شكل إيجابي ويسمى بالجنون النقدي critique، وعرف عنه أنه يصيب أفكار الشخص دون جسده، بحيث إن مرضه يتجلى على مستوى الأفكار والمعارف التي تشبع بها ذلك الشخص، الشيء الذي يحدث لديه نوعاً من فقدان التوازن العقلي، لينعكس ذلك كله سلبياً على الجانب النفسي والشخصي للمريض. ويصيب هذا النوع من الجنون غالباً المفكرين والفلاسفة المعروف عنهم الاستعمال المفرط لقدراتهم العقلية، وإعمال العقل الخالص بطريقة عميقة في التجريد. وهنا يمكن استحضار الكثير من التجارب كتجربة الفيلسوف الألماني نيتشه. كما تحدث ميشال فوكو عن أربع مراحل في تاريخ الجنون: المرحلة الأولى تجلت في القرن السادس عشر، وقد تم فيها إزاحة الجنون من قدسيته، إذ كان يعتبر في السابق كعلامة على القداسة، ومجالاً للحقيقة في ارتباط بما هو إلهي؛ وبدأ ينظر إليه من حيث هو اختلاف عن العقل والحكمة الإنسانية. أما المرحلة الثانية فقد شهدها القرنان السابع عشر والثامن عشر، إذ أصبح العقل فيها نقيضاً للجنون، من حيث الاتصال والمجاورة، فتم نفي كلّ من وُسم بالجنون، وذلك بتهميشه وتصنيفه خارج المجتمع؛ وفي المرحلة الثالثة تم ‘تحرير' المجانين من التصور الذي ألحقهم بالمجرمين والمتسولين. فتم اعتبار المجنون ‘مريضاً ‘وأصبح الجنون مرضاً نفسياً يمثل مرحلة في تاريخ تطور الشخصية، وبالتالي تمّت إعادة المجانين إلى دائرة البشر. أما في المرحلة الرابعة، وقد تجسدت في القرن العشرين، فقد تمّ تقليص المسافة الفاصلة بين العقل والجنون، خصوصاً بعد الاكتشافات المذهلة التي حققتها مدرسة التحليل النفسي. وقد شكل في كل مرحلة من هذه المراحل تجلياً من تجليات الخطاب السائد داخل مراكز القوى الاجتماعية في مختلف هذه العصور الأربعة، في إطار جدل المعرفة والسلطة. وباعتبار الرواية تاريخاً لمن لا تاريخ لهم. تبقى قادرة على تقديم معرفة بالواقع الكائن، انطلاقاً من كون التخييل عموماً يروم تبليغ فكرة ما، على اعتبار أن المحكي الروائي وسيلة لمعرفة الواقع كما هو مبني ومنظم داخل النص الروائي والتعبير عنه وتفسيره، فإن رواية ‘صابون تازة' تقدم معرفة بأوضاع المجانين بالمغرب، وما يتميزون به من تهميش في واقع هابط ومنحط وقذر يصعب غسله ولو بصابون تازة كما يؤكد ذلك تناص العنوان. مُراهِنة على إعادة الاعتبار إلى المنبوذين والمنسيين مؤكدة على أهميتهم كرجال ونساء عابرين لكنهم بصموا على أفعال جعلت الأماكن مشهورة بأفعالهم، بحس اتنوغرافي يقاوم النسيان ويحاول إحداث مصالحة مع الوجدان، لتدق الرواية ناقوس الخطر حول علاقتنا بماضينا وبموروثنا. فكثير من الشبان اليوم يتخلون عن الموروث ويلقون به ويقبلون على أمور تافهة يمكن أن تؤدي بهم إلى ما هو مرفوض ومنبوذ مثل نموذج أخ السارد البطل. انطلاقاً من الدرس الفوكوي، نستنتج أن التعامل مع ظاهرة الجنون، رهين بمستوى الوعي الذي وصل إليه كل مجتمع وبذلك تختلف أشكال التعامل مع الظاهرة من مجتمع لآخر. كما أشرنا سابقا أن رواية ‘صابون تازة' جعلت من الجنون تيمة مركزية. إذ تناولت ظاهرة الجنون بحس اتنوغرافي يركز على الغرائبي والمهمل والهامشي، مهتمة بإظهار خصوصيات المجتمع المغربي، من خلال بلدة كطرينة، التي يكثر بها المجانين بالأزقة والأضرحة والأسواق. يقول: ‘وفي هذه البلدة السعيدة ما أكثر المجانين!' (الرواية، ص.37.) وهي في الواقع تتجاوز هذه البلدة الى كل المدن والقرى المغربية التي بتنا نلاحظ فيها تنامي ظاهرة المشردين والمجانين. وبذلك تقدم لنا الرواية صورة مصغرة عن وضْع المجانين بالمغرب. وكيف يتفاعل المجتمع مع الظاهرة. كما تُقدم الرواية نماذج لشخصيات تتفاوت أعمارها، وجنسها، ويوحدها الجنون. تنقل الرواية لنا بطريقة غير مباشرة وضع المجانين داخل المجتمع المغربي إما بحبسهم داخل أحد الأضرحة أو استغلالهم وجعلهم فرجة مجانية وإهمالهم في الشوارع غير آبهين بما يحدق بهم من أمراض وأخطار، وما قد يسببونه لغيرهم. من أذى وكل ذلك في إطار تمثلات يختلط فيها المقدس بالمدنس. وتبقى الصورة المهيمنة على الرواية وهي أن هؤلاء المجانين يثيرون إعجابنا لأنهم يقولون ما يشاؤون ويفعلون ما لا نستطيع فعله، وفي الغالب ما يثيرون ضحكنا ونجعلهم موضع فكاهة وتندر. إذ يقدم لنا إبراهيم الحجري في هذه الرواية بورتريهات المهمشين وسيرا موجزة عن كثير من المنسيين، وصناع الفرجة المجانية، باعتبارهم أسماء بقيت عالقة في الذاكرة بأفعالها وتصرفاتها الخارجة عن المألوف حتى صارت حكاية تندر يتسلى بها الناس، ويشتركون فيما يلي: - كلهم مبتلون أو مدمنون على شيء معين. - يقدمون على أفعال مثيرة وغريبة ومدهشة. - هناك جانب مشترك بين هؤلاء إلى جانب القذارة هناك نوع من الحكمة. - كونهم مستغلين من قبل العقلاء جسدياً وجنسياً أحياناً، كما يحظون بالإهانة منهم. - وهم إما مجانين أو يقومون بأفعال تدخل في إطار الخارق والغريب. - يعيشون في عوالم يتداخل فيها الصوفي والسحري بالشبقي. - يعرفون تحرراً جسدياً، إذ تبرز الرواية كيف يسمح الجنون بتحرير الجسد من سلطة الاجتماعي والأخلاقي. كما نلمس في الرواية نوعاً من التقريظ والثناء على المجانين، نظراً لاعتبارهم موضع استغلال نفسي وجسدي من قبل ‘عقلاء' المجتمع، ناهيك عن ما يتعرضون له من إهمال وحبس وسجن واستغلال لسذاجتهم من قِبَل من يعتبرون عُقلاء. كما نلمس حضوراً قوياً للجسد المجنون والذي يحضر في كل أوضاعه وحالاته النفسية؛ عاملاً، راقصاً، عابثاً، مستمتعاً، متعفناً، معنفاً، متحرراً من سلطة القيم الاجتماعية، باعتبار هذه الفئة شخصيات تلقي بقيم المجتمع عرض الحائط وتصنع اختلافها وتميزها في أوضاع وحالات يتداخل فيها المقدس والمدنس. وإذا كانت ‘ظاهرة الجنون، هنا هي بمثابة أداة يُعبر بها المجتمع عن مواطن خلله'2 فإن إبراهيم الحجري انشغل بطريقة غير مباشرة بأسباب ودواعي الجنون، مؤكدا أن انحدار المجتمع وانغلاق آفاقه، وانحداره وانقلابه القيمي، وما يتولد عنه من مفارقات، والتي نسجل حضوراً كبيراً لها في الرواية، عبر إشارات يلتقطها البطل، كالبطالة ومتاهات البحث عن العمل، والعنف والوضع المزري بالمستشفيات، كلها أسباب تقود إلى الجنون. كما يصبح الجنون أفضل للإنسان أمام انحدار الواقع وهبوطه، ونوعاً من التمرد. يقول: ‘الجنون تمرد على قوانين عالم مقيت'. (الرواية، ص.38) فهناك فكرة موجهة للرواية وهي أن اليومي بمفارقاته يمكن أن يقود إلى الجنون، فالواقع المنحط لا يمكن أن يقود إلا إلى الجنون. يقول: ‘الواقع المر هو أن كل شيء في هذا المجتمع المتخلف، المنحل، يهيئ الإنسان ليكون أحمق مجنوناً، كل شيء يمكن أن تقاومه إلا الرغبة في التنصل من العقل في هذا البلد: فقر مدقع، عطالة أبدية، جهل وأمية، عهارة وتفسخ، إرهاب متعدد... أينما وليت وجهك لا تجد أمامك سوى الجدران الصدئة التي تخرب العقل وتهدم الحواس....' (الرواية، ص.37) ليصير الجنون مبرراً ومقبولاً. هكذا يتناول الروائي الجنون من أجل تبليغ فكرته ورؤيته وموقفه من واقع اجتماعي وإنساني، مبرزاً الوضع المنحط والمتدني واللا إنساني للمجانين، وهو وضع شاهد على تدهور المجتمع الذي يبقى، دوماً، سبباً في انتشار الظاهرة وتفاقمها بفعل ما يحبل به من مفارقات وتدن للقيم. الهوامش إبراهيم الحجري،' صابون تازة'، دار رواية للنشر والتوزيع، مصر، 2011. 2 ممدوح حقي، ‘تيمة الجنون انكسار الذات دراسة تطبيقية'، مجلة الرافد، العدد 171 نونبر 2011 .