لا أحدَ منّا عاقِلاً إلاّ بمقدارٍ، بمعنى أنّنا كلّنا مجانينُ بمقدارٍ أيضًا، وهذا ما يجعل حياة الكائن البشريّ تنوسُ بين فضاءَيْن من التواجُدِ الأرضيِّ، وحركةُ نَوَسانِها تهدِّئُ من روعِ الإنسانِ وتُنسيه آلامَه وتُدخِلَه في حالةِ خَدَرٍ واقعيٍّ يتجاوز به مراراتِ الواقع، بل ويجترحُ خلالَ صفائِها معناه فتزدادُ غبطتُه بحياتِه، بل، ويرغبُ في الاستمرار فيها ناسِيًا لحظةَ ارتطامِه بنهايتِه. لكأنّ الجنونَ هو قلبُ العقلِ ورَبيبُه في التواجد الدَّلاليّ. فأنْ تكون عاقِلاً معناه أنّك تميِّزُ في سلوكِكَ مدى قُربِك أو بُعدِك من حيِّزِ الجنونِ، وهذا التمييز هو في أصلِه معرفةٌ ذهنيّةٌ بحالِ الجنونِ ربّما تبلغ أحيانًا تمثُّلَه في فعلِنا الحياتيِّ الذي نمزج فيه بين المفهومِ والموهومِ، والظاهر والباطن، والحقيقة والمجاز. ولذلك كلِّه نظلّ عقلاءَ لأنّنا نعرفُ معنى الجنونَ ونعرفُ في الصمتِ بأنّه يمارس نشاطه على الأشياء من حولِنا. هل تجرّأ الفيلسوف الفرنسيّ ميشال فوكو على عقلانيةِ الغربِ عندما كتب "تاريخ الجنون في العصر الكلاسيكيّ"؟ نقول: نعم. كان فوكو عاقِلاً بالفعلِ وهو يوصِّفُ الأخلاقَ العامّة للمجتمعات الأوروبية خلال أكثر من أربعمئة سنة في التعاطي مع الجنونِ من نَبْذٍ للمجنونِ تجلّى خاصّة في الحِيطة منه وتسييجِه في أضيقِ السجونِ أو تسريحه عارِيًا من إنسانيتِه في الأرضِ دون وجهةٍ، وقد فعل ذلك استنادًا إلى تجربتِه الشخصية في الجنونِ. وكان فوكو مجنونًا بالقوّةِ في جرأتِه على القول بأنّ أوروبا تعاملت مع المجانين بجنونٍ مضادٍّ فمنعتْ جسدَه من التمرُّدِ على قوانينِ الفيزياء وألجمتْ فهمَه من تجاوز أشراطِ الأخلاقِ لبناء رمزيّاتٍ له جديدةٍ فيها لذّةٌ لا تقولُها كلماتُ العقلِ وتشي بها ضحكاتُ المجانينِ. كلّ الثقافاتِ البشريّةِ فيها شيءٌ من الجنونِ، ولولا ذاك الشيءُ من الجنونِ ما أينعتْ فكرةٌ في ذهنٍ ولا أشعّتْ حقيقةٌ في عقلٍ، ولا تمكنّت البشريّةُ من السيرِ خطواتِها العملاقةَ في تاريخِها الحضاريِّ، ولولا الجنونُ ما استطعنا الحُبَّ. والمدنُ الخاليةُ من المجانينِ مُدنٌ ميّتةٌ، وشارعٌ لا يقفُ في ناصيتِه مجنونٌ ويضحكُ من الناسِ يظلُّ قفرًا من المعنى، وجُملةٌ لا تتمرّدُ على منطِقِ أخلاقِها القوليّةِ وتجهرَ بدَلالتِها المارقةِ عن المألوفِ تبقى جملةً بسيطةً ابتدائيّةً لا تصلُحُ لكتابةِ نهدٍ وهو يتثاءبُ أو حتّى يتمطّى.