المهدي بين الحقيقة والخيال والفانتازيا حلول العقائد أيّا كانت مداركها العقلية في محيط سوسيو ثقافي يكسبها الكثير من ضروب الخيال والفانتازيا. إذا أنكرنا ذلك سنكون قد تنكرنا لإحدى أهم قواعد الثقافة والاجتماع. ذلك لأن المجتمعات لا تكتفي بتطبيق الحقائق والاعتقاد بها على نحو من الجمود بل تتحرك بالصورة والخيال لتكسبها ألوانا من التكييفات الخلاقة ، كل بحسبه ، فإن كان المجتمع رشيدا كانت معتقداته كذلك والعكس صحيح. ولكن هذا لا يعني عدم وجود أساس حقيقي لذلك. ومن الخطأ أن تعالج المعتقدات داخل هذا التكييف السوسيو ثقافي الخلاق. إن الإنسانية لا يمكنها أن تعيش من دون خيال. والخيال هنا هو خيال خلاق يستند إلى الحقيقة، بل بقدر ما ينطلق من حقائق يرمي إلى إيجاد حقائق فوق الأرض. وهنا وكما سعى كوربان لدراسة الخيال الخلاق عند ابن عربي أدرك بناء على الكثير من الآراء التي سبقته على أن ثمة ما يميز بين الخيال والفانتازيا. فالفنتازيا هي من شأن المجانين لا ترتكز على حقائق ، بينما الخيال يرتكز عليها. فما هي الحقائق التي ارتكز عليه الفكر المهدوي في الثقافة الإسلامية؟ شبهة المنكرين وضعف حجاجهم تعد المهدوية واحدة من المعتقدات التي واجهت ولا تزال تواجه الكثير من ضروب الانتقاد والتهوين وهما غاية الإنكار. حيث لا يتكلف المنكر لها من الجهد لإيراد الأجود من الأدلة المخالفة لهذا الاعتقاد، ولا حتى يملك الحد الأدنى من التحقيق فيما جاد به المنقول من مستفيض الأخبار أو عالجه المعقول في مقام الثبوت والإثبات . حتى باتت واحدة من العقائد التي يتبادر إلى أهل الحجاج المغالط ، أنها ثغر متاح لكل من شاء أن يهز الصرح العقائدي الديني عموما أو الإمامي خصوصا. ولم يجدوا لهم ملاذا في دفعها أو رد السنن المتحدثة عنها سوى أن توسلوا مجملا بدعوى مناقضتها لروح العلم ومنطق الأشياء وصولة البرهان . ويكاد القوم يضعون في الأعين غشاوة وفي الآذان وقرا ، حتى لا يبلغ الخوض في المهدوية مداه ، ولا سبر أخبارها على قواعد الدراية، استثقالا لها وريبة منهم . ولا نخال أضراب هؤلاء الذين لا يحققون فيما يرفضون ولا يواجهون سيل الأدلة التي بلغت بعقيدة المهدوية حدا لا يدع مجالا للشك والمراء ، كحقيقة تواتر الإخبار عنها ، وأجمع الخاصة والعامة على أنها مما لا يخدش في وجودها حقيقة بالجملة ، إلا أن يكونوا من جنس المغالطين منطقا والمتحرفين شرعا، حيث لا يواجه الدليل عنادا إلا مغالط ، ولا يرفض مستفيض الأخبار ويرد ظهورها إلا متكلف متحرف معاند. فلا هذا بالمنطق وبرهانه آخذ ولا ذاك بالبيان مستبصر قابل . ولأنها كذلك في يسر الهضم وبداهة العلم، لم يجد الكذابون والدجالون في كل الحقب والعصور أفضل طريق للنصب على الأغمار والاحتيال على ضمير البله والتلبيس على الدهماء من أن يدّعوا المهدوية جهارا ، حيث نافسهم في مثل هذا الادعاء قادة وملوك مشهودون في التاريخ الإسلامي ، ادعاء أو تمثلا أو نزولا منزلة الممهدين الطريق للمهدي ادعاء لا دليل ينهض به في المقام. كل ذلك ما كان ليحدث لولا رسوخ هذا الاعتقاد في نفوس المسلمين وجريانه في أخلادهم جري المسلمات. وحيث هذا الادعاء ما كان له أن يشط بهذه الحقيقة عن مسارها الطبيعي ، سوى لأن الخلاف وقع فيها في الجملة وعلى مستوى التفاصيل. حيث ما أن نقترب من مدرسة أهل البيت ع حتى يبدوا من الممتنع ادعاء المهدوية ، بعد أن أصبح شأنها واضحا وعلاماتها المحتومة والموقوفة وافية، أحصاها الجيل بعد الجيل. وكلما نأينا عن هذه المدرسة كلما سادت الفوضى ، فأمكن من هب ودب أن يدعيها ؛ فصارت في كثير من الحالات صنعة يحترفها الحمقى فيجدون من الأغمار من يصدقهم . وكل ذلك لأن الأمر لم يتحقق في الجملة وعلى نحو الموجبة الجزئية المانعة من التيه والضلال ، حيث يصبح الاعتقاد بالجملة دون ضبط التفاصيل أخطر أحيانا من الجحود بها. هكذا كانت المهدوية في مدرسة أهل البيت ع ، تنسجم مع الإطار العام ، باعتبارها حلقة أخيرة من مسلسل الحجج والأئمة الأطهار ع ، كما فصلت تفصيلا مانعا من استغلالها لاستغفال الضمائر والنفوس الضعيفة ادعاءا وانتحالا. فالميزتان معا؛ الانسجام العقائدي والضبط التفصيلي ، هما سمتا العقيدة المهدوية في مدرسة أهل البيت (ع). فإما أن تكون المهدوية على ما جاء تفصيلا في تعاليم أهل البيت(ع)، أو هي الفوضى! ويستند الرافضون للمهدوية على مسوغين ، هما من الهشاشة بحيث لا ينهضان دليلين وافيين على صدق موقفهم، متى أدركنا أن الرافض لا يقع رفضه إلا عن قلة اطلاع وتحقيق، ومكابرة وعناد. فلا كتاب به يهتدون ولا عقل به يحاجون. ومن أنكر ما تعلل به الرافضون هو لما حصروها في ورود المسيح بديلا ، حتى لا يقولوا بما تواترت به الأخبار من أمر مهدي الأمة . بل وحتى لو صح في أصول العامة والخاصة الأخبارية بأن من أهم الأحداث في نزول المسيح صلاته وراء مهدي الأمة ، فإن العناد جعل البعض يهون عليه التصديق بعودة المهدي وقيامه بما سيقوم به. فكان نزاعهم ليس في تصور رجعة نبي هو المسيح(ع) اختفى ولا في أي مظهر من مظاهر ذلك الإمكان المتحقق حتما، بل بات نزاعهم في ثبوت الإخبار بظهور حجة من الأمة نفسها. ولا يحتاج المرء لدفع هذا التعلل إلى كثير شواهد وأدلة. فأولى بحجة شاهد على الأمة التي احتضنت الرسالة الخاتمة أن يقوم بهذا الدور العظيم، من نبي بعث لقومه خاصة وعالمه تعينا، ولم يصطف للخاتمية على علو شأنه ، وهو من أولي العزم. هذا مع أن ما ورد من شواهد متواترة تورث القطع واليقين، ما يفوق ذلك النزر القليل من الأخبار التي تحدثت عن المسيح ع . حيث لا تصل النوبة لردها على ضعفها كما سنرى، ما دامت لا تعارض أخبار ظهور المهدي، وما دام بالإمكان تطبيق قاعدة الجمع العرفي فيما ورد منها على سبيل الاستقلال استقلال نزول عيسى بن مريم (ع) ، أو توجيهها فيما لو وردت على سبيل البدل والمعاوضة عن مهدي الأمة من خلال ظاهرها كما ينقل ذلك ابن خلدون . يظهر جليا أن أمر المهدي مستقل عن نزول عيسى بن مريم. ومع تكاثر الروايات المخبرة عن حدوث الأمرين معا دون تزاحم، إلا أن البعض حاول أن يلبس هذا بذاك حتى قال بعضهم لا مهدي إلا عيسى.وقد أفرد الشيخ محمد باقر الإلهي القمي رسالة في رد هذا التلبيس أسماها :"الروض الفسيح في بيان المهدي والمسيح".يغني عن المطلوب. والواقع أن التوقف عند هذا الالتباس وتغليبه على ما تكاثر من أمر المهدي دونه خرط القتاد. وهاهنا ابن خلدون الذي استعرض ما روي عن الإمام المهدي عج يصحح بعضا منه، مع أنه حاول تضعيف غالبية الأخبار.غير أن هذا لم يمنعه من رد زعم المنكرين المتشبثين بحديث محمد بن خالد الجندي المروي عن أنس بن مالك عن النبي ص حيث قال:"لا مهدي إلا عيسى بن مريم". وقد استعرض ابن خلدون رأي الحاكم في قوله بمجهولية محمد بن خالد. كما ألمح إلى محاولة الجمع العرفي التي حاولها البعض دون جدوى فقال:"وبالجملة فالحديث ضعيف مضطرب وقد قيل أن لا مهدي إلا عيسى أي لا يتكلم في المهد إلا عيسى يحاولون بهذا التأويل رد الاحتجاج به أو الجمع بينه وبين الأحاديث وهو مدفوع بحديث جريح ومثله من الخوارق".[1] ومادام الأمر مؤكدا في المنقول ، أصبح من الضروري التسليم به ما لم يرد ما يخدش في قطعية صدوره كما لا يخفى . ولا نخال الإمامية متراخية في تحقيق ثبوت تلكم الأخبار ، حيث لا ثبوت للعقائد الكبرى إلا بما صح وتواتر. فالعقائد لا سيما الكبرى منها لا تثبت بخبر الآحاد. وحيث أجمعت الأمة على أن مصادر اعتقادها هي القرآن والسنة والإجماع ودليل العقل مع خلاف في الجملة حول ما إذا كان العقل يستقل بأحكامه أم أنه يدور مدار السماع وجودا وعدما ؛ فإن استناد المهدوية على قطعي الصدور يجعلها ثابتة حسا لا حدسا ، خلافا للمنكر. دليل القرآن لو أنك تأملت نصوص القرآن الكريم، ونظرت في أسرار آياته، لتأكد لك بأن عقيدة المهدي تكاد تتخلل كل حقائقه. وعجبا للمسلمين كيف عز عليهم أن يستلهموها من قرآنهم حيث استلهمها مستشرق أجنبي، هو هنري كوربان الذي عزاها إلى أصل القرآن دفعا للقائل بأنها منتحلة عن الأفكار والمعتقدات التي نشأت في المجال الديني والسوسيو ثقافي الذي حلت به الرسالة الاسلامية. فالقرآن نفسه وعد بأن يقيم على الأرض جنة تتنزل بركاتها من السماء.كما وعد بخسف الكافرين وفشلهم المتوقع مهما عتوا في الأرض عتوا واستكبروا فيها استكبارا. وعليك أن تحصي كل الآيات التي وعدت بتلك الوعود دون أن تتحقق واحدة منها حتى اليوم ؛ وها هو الرسول الخاتم ص قد ولى ، وها هم الأئمة الأطهار قد التحقوا بالرفيق الأعلى ، فمن يا ترى حقيق بأن يحقق وعد الله في الأرض. يقول تعالى في كتابه الكريم :" ( هُوَ الَّذِي أرْسَلَ رَسُولَهُ بالهُدى وَدِينِ الحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ المُشْرِكُونَ)[2]. قال القرطبي : « وقال السدّي : ذاك عند خروج المهدي ، لايبقى أحد إلاّ دخل في الاِسلام ».[3] وفي قوله تعالى : ( وَإنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلا تَمْتَرُنَّ بِه َوَاتَّبِعُونِ هَذا صِراطٌ مُستَقيم)[4].يقول الكنجي الشافعي في كتابه البيان : «وقد قال مقاتل بن سليمان ومن تابعه من المفسّرين في تفسير قوله عز وجل : ( وإنّه لَعْلِمٌ للساعة ) هو المهدي عليه السلام ، يكون في آخر الزمان ، وبعد خروجه يكون قيام الساعة وأمارتها».[5] فهذا قبس من نار ما جاء تفسيرا بالحقيقة والمصداق ، لكثير من الآيات من كافة المفسرين سلفيين ومعتزلة وإمامية ؛ كالقرطبي والرازي والزمخشري وابن كثير والنسفي ؛ لك أن تتخذ ذلك ميزانا تزن به حقيقة ومصداق كل آية فيها وعد لم يتحقق ، و ما أكثره ، إلا وكان أمارة على أن أمرا لم يتم في دنيا الناس ، الله متمه ولو كره الكافرون. ولا يتصور تحققه إلا في ضوء العقيدة المهدوية وما حاط بها من أخبار تعزز شأنيتها وتجعلها الأنسب لتحقق هذا الأمر العظيم، فافهم. وقد أجمع المفسرون على ورود هذه الآيات في حق المهدي وآخرون كما قلت قبل قليل حصروها في المسيح ، مع أن لا تعارض بينهما لتقارن نزوله مع ظهور الحجة عج . إلا أن يقال كان ذلك استثقالا لذكر أمر مهدي الأمة. وقد ظهر لك أن أهل العلم والتحقيق لا يمانعون في أصل الموضوع، بل وكلهم بمختلف مدارسهم ومواقفهم في المنقول والمعقول ، فسروا الآيات المذكورة بالظهور. ويبدو أن أهم ما يجدر الوقوف عنده في المقام؛ أن القرآن أكبر شاهد على حقيقة الإمام المهدي من جهة الإمكان العقلي والإمكان الواقعي. فأنت تجد القرآن الذي شاء له العزيز الحكيم الاقتصاد في سرد فصول أخبار من كانوا قبلنا و أن يبرز من القصص ما ينتفع به ويصلح مادة للتأمل ، حتى يكون حاكما لما تشابه على الأمة ، فترده إلى محكم الكتاب ، فتهتدي به إلى صراط مستقيم. وقد دعيت الأمة أن تعود إلى كتاب الله وتحكم به ما تشابه عليها. فلا وجود لسر تلبس به أمر المهدي إلا وله نظائر من الذكر الحكيم. فانظر تجد أن أمر الغيبة متكاثر الأمثال والنظائر، كرفعة إدريس وعيسى وغيبة يونس عن أنظار الناس في بطن الحوت ، حيث قال عنه تعالى:" ولولا أنه كان من المسبحين للبث في بطنه إلى يوم يبعثون" ، وغيبة موسى أربعين يوما عن قومه من الأنبياء ، أو اختفاء أمر إلياس أو الخضر من عموم الصالحين وتدبيره السري لما ينفع الناس. وانظر تجد لأمر الغيبة الطولى نظائر كأهل الكهف الذين دخلوا في نوم امتد بهم جيلا بعد جيل ، وكلبهم معهم باسط ذراعيه بالوصيد. فإذا لم يكن عزيزا أن يبقي الله فتية يتقلبون على جنوبهم ليكونوا آية لقوم شاء الله أن يسخرهم في طريق لطفه ، كيف يعز عليه ذلك في صالح أهل بيت النبوة ص . وإذا كان كلبا أمكنه أن تطول به الغيبة كل هذا العدد من السنين ، هل يكثر ذلك على من هو في الشأن أعظم؟! لم يرد في أمر المهدي أنه سيفعل شيئا لم نجد له نظائر في القرآن وألزمنا على الاعتقاد به ، بل إن واحدة من حكمة الخالق على إيراد هذه الأمثال أن يجعل الاعتقاد بالمهدي تحصيل حاصل في الاعتقاد الديني. حيث منطق القرآن كما أخبر الصادق (ع) ، نزوله على نحو إياك أعني واسمعي يا جارة. فالذين عز عليهم الاعتقاد بالمهدي وهالهم الدور العظيم الذي سيسند إليه في عصر الظهور، لا جرم هم أعجز عن التسليم والاعتقاد بأدوار من سلف من الصالحين ؛ كذي القرنين الذي صنع للقوم الذين استغاثوا به، سدا عظيما. أو الخضر الذي كان يتصرف بالعلم لا بالظاهر، أو ما جاء في أمر نبي عاش مسبحا في بطن الحوت أو فتية غيبوا سنين عددا في كهفهم.. إنه سؤال الإيمان. فمن أمكنه أن يؤمن بهذا في الأول أمكنه الإيمان به في المآل.وبذلك وصفوا في محكم التنزيل"الذين يؤمنون بالغيب"! فلا يبقى شك في رسوخ هذه الحقيقة في التصور الإسلامي أصالة ، حتى أنك تجد الخليفة الثاني ، يفترض أن محمدا (ص) لم يمت بل غاب كما غاب موسى أربعين يوما، متهما من قال بموته بالنفاق. وأيا كان مبرر هذه الدعوة فهي تستدعي حقيقة مركوزة في التصور الإسلامي ، وليست دخيلة على الإسلام كما تراءى للبعض شططا. أقول : إن الذين زعموا أنها موروث قديم ودخيل على الإسلام، فضلا عن أنهم حبكوا على منوال الجهل المركب ، وغاب عنهم ما في التعاليم الإسلامية من تأكيد على هذه الحقيقة ، إنهم لم يفعلوا أكثر من اجترار بعض آراء بعض المستشرقين الأوائل ممن سلكوا حبوا للإحاطة بالشريعة عبثا، فكان فهمهم للتعاليم والشريعة الاسلامية فهم المبتدئ الغرير. ولا أخال أولئك سوى من استبدت بخيالهم المحصور فكرة الأشباه والنظائر، فكل ما له نظير في الديانات الأخرى، حسبوه دخيلا، فيا لها من رؤية قاصرة ومن منطق مغالط. ولو أننا طبقنا المنهج ذاته على باقي الأصول والفروع ، لقلنا بالنتائج نفسها ، فيكون التوحيد نفسه دخيلا على الإسلام ما دام له نظير في الرسالات السماوية. فإن قالوا الأمر يختلف ، والقياس هاهنا مع الفارق ، قلنا ، فالمنهج المتبع غير مخصص ، ولا قيمة للمنهج إلا أن تكون أحكامه شاملة عامة كما لا يخفى على من آنس بالصناعة المنطقية. فالتخصيص لا يأتي إلا بدليل،وإلا فهو عبث كمن يرجح بغير مرجح. دليل السنة لا ننوي الإطناب في استعراض كافة الأدلة الروائية المستفيضة في شأن المهدي وملابسات ظهوره. فلو انضم ذلك الكم الهائل من الروايات الواردة من طريق الخاصة بتلك التي وردت من طريق العامة، لعدت بالآلاف. وهي متواترة ، فيها الصحيح وفيها الضعيف لجهة الإسناد ، وضعيفها مجبور بالمتواتر. وحيث المقام لا يتسع لذاك ، اكتفينا ببعض الروايات الواضحات التي لا لبس يعتري ظاهرها ، وأيضا ذكر من روى أخبار المهدي من طريق العامة، حيث لا حاجة لإيراد ما روي عن طريق الخاصة ، فهو تحصيل حاصل في المقام. منها ما رواه البخاري في صحيحه،عن أبي هريرة قال: قال رسول الله وعن ابن مسعود قال: قال رسول الله (ص): "لا تذهب الدنيا ولا تنقضي حتى يملك رجل من أهل بيتي يواطئ اسمه اسمي".[6] وعن أبي هريرة قال: ذكر رسول الله (ص) المهدي فقال: "يكون في أمّتي المهدي إن قصر فسبع، وإلاّ فتسع. فتنعم فيه امتي نعمة لم ينعموا مثلها قط".[7] ويروي أبو داود في سننه عن جابر بن سمرة قال: "سمعت رسول الله (ص) يقول: لا يزال هذا الدين قائماً حتى يكون عليكم اثنا عشر خليفة".[8] وعنه أيضا عن سعيد الخدري قال: قال رسول الله (ص): "المهدي منّي أجلى الجبهة، أقنى الأنف، يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت جوراً وظلماً، ويملك سبع سنين".[9] فهذا فيض من غيض مما روي صريحا وتلميحا ، فلا يكاد يخلو مصنف روائي من باب يعقد لذكر أمر المهدي من أمة محمد(ص). فأخبار عيسى والظهور، واردة في صحاح العامة، بحيث تكفي لوحدها أن تكون شاهدا على ذلك ، نظرا لتواترها وصحة بعض طرقها عند القوم . وكذا يمكن إكمال تفسير ما سكت عنه في بعضها من خلال ما صرحت به أخبار أخرى. حيث ليس هاهنا مندوحة لذلك. يقول ناصر الدين الألباني : « أما مسألة المهدي فليعلم أنّ في خروجه أحاديث صحيحة ، قسم كبير منها له أسانيد صحيحة».[10] . وبذلك يكون قد عبر عن إجماع كبار المحدثين السنة حيث أن أخبار المهدي قد تواترت لديهم . فأخرجوا أخباره في مصنفاتهم ومجاميعهم الروائية كما تحدثوا عن أنها أو بعضها على الأقل مما لا مجال لرده ، لصحته وتواتره. ومن هؤلاء ؛الإمام الترمذي ،الحافظ أبو جعفر العقيلي (ت|322 ه)، الحاكم النيسابوري (ت|405 ه) ، الاِمام البغوي (ت|510 ه أو 516 ه)، ابن الاَثير (ت|606 ه) ، القرطبي المالكي (ت|671 ه)، ابن تيمية (ت|728 ه) ، الحافظ الذهبي (ت|748 ه) ، الحافظ ابن القيّم (ت|751 ه) ، التفتازاني (ت|793 ه) وغيرهم كثير. المنكر شاذ وعند التحقيق يظهر أن من أنكر أخبار المهدي من العامة ليس في يده ما يدفع به شدة التواتر وشهادات أولئك الأعلام الذين، وإن ضعّفوا بعض الطرق، إلا أنهم صححوا أخرى. وإذا علمت أن بعض ضروب الضعف يمكن جبره ، بإعادة تركيب السند، فيما لو وجد مشترك بين الأسانيد ولم يختلف المتن ، فيكون السند الصحيح مصححا للآخر، فتصبح كلها صحيحة . لكن بعض المنكرين وهم في الأغلب معاصرين، استندوا في ردهم وتضعيفهم لأحاديث المهدي على رأي ابن خلدون ، والطريقة التي تناول بها أخبار المهدي عند القوم. ومع أن الكثيرين تصدوا للموقف الخلدوني من طريقة تناوله لبعض الأخبار حول الإمام المهدي ، إلا أنني أرى أن شيئا ما لا يزال في جعبتنا بخصوص الطريقة الخلدونية في تناول هذه الأخبار وأيضا المنظور الفلسفي الذي بنى عليه رأيه بهذا الخصوص. وبذلك سنبرئه مما كاد ينسب إليه من القول بالنكران. استناد احمد أمين وآخرون على تضعيف ابن خلدون لأخبار المهدي ، تدليس ، يفضحه ابن خلدون نفسه ، حيث اعترف بصحة بعض من تلك الأخبار . بل ويؤكد ذلك اعترافه بحقيقة المهدي بمقتضى المشهور بين كافة المسلمين. وقد يبدو للبعض أن موقف ابن خلدون من المهدوية ، موقف نهائي وسلبي، حيث عالجها في فصول مخصصة لتناول عقائد الشيعة أو أمر الفاطمي. ثمة فصلان يتناول فيهما ابن خلدون مسألة المهدي في سياق ، يوحي بالكثير من الالتباس والخلط. الفصل السابع والعشرون من المقدمة ، وهو فصل في مذاهب الشيعة في حكم الإمامة. والآخر هو الفصل الثاني والخمسون، في أمر الفاطمي وما يذهب إليه الناس في شأنه وكشف الغطاء عن ذلك. ومما يؤسف له أ يقول تلميذ لأحمد أمين:" سعد محمد حسن : «ولقد أوسع علماء الحديث ونَقَدَتِه هذه المجموعة نقداً وتفنيداً، ورفضها بشدة العلاّمة ابن خلدون"[11]. وزاد السائح الليبي:"وقد تتبع ابن خلدون هذه الاَحاديث بالنقد، وضعفها حديثاً حديثا"ً.[12] مبدئيا لا وجود عند ابن خلدون لما يسند قول المنكرين. ويكفي أن يقول في بداية الفصل الثاني والخمسون من المقدمة :" اعلم أن المشهور بين الكافة من أهل الإسلام على ممر الأعصار أنه لا بد في آخر الزمان من ظهور رجل من أهل البيت يؤيد الدين ويظهر العدل ويتبعه المسلمون ويستولي على الممالك الاسلامية ويسمى بالمهدي ويكون خروج الدجال وما بعده من أشراط الساعة الثابتة في الصحيح.." .[13] وما محاولة ابن خلدون في استعراض جملة الأخبار عن المهدي ، سوى للوقوف عند الصحيح منها وغيره ، كما قال:"ونحن الآن نذكر هنا الأحاديث الواردة في هذا الشأن وما للمنكرين فيها من المطاعن وما لهم في إنكارهم من المستند ثم نتبعه بذكر كلام المتصوفة ورأيهم ليتبين لك الصحيح من ذلك إن شاء الله تعالى".[14] وحينئذ لا إشكال في وجود الضعيف إلى جانب الصحيح. فمثل ذلك وارد في كل الأصول ، لا بل في كل الفروع. فما من مبحث أصلي كالتوحيد أو فرعي كالصلاة ، إلا ويوجد فيه الصحيح إلى جانب الضعيف. فمتى بلغ الخبر التواتر صحح ما دونه إن تشابه المتن ، فلا يلتفت إلى وجود الضعيف في سنده. ولم نجد من فائدة فيما قدمه ابن خلدون وهو يستظهر بعض الأخبار حول المهدي، بلغة أهل الحديث في التصحيح والتضعيف، وهو الذي تناولها في سياق محكوم بمبناه في التاريخ وعلم العمران، ما كان يكفيه بلوغه دونما مشقة. ومع ذلك يقال ، أن الاضطراب كان باديا في تناول ابن خلدون لموضوع المهدي من جهة الاخبار . فهو في الفصل السابع والعشرون:" وقال مثله غلاة الامامية وخصوصا الإثنا عشرية منهم يزعمون أن الثاني عشر من أئمتهم وهو محمد بن الحسن العسكري ويلقبونه المهدي دخل في سرداب بدارهم في الحلة وتغيب حين اعتقل مع امه هناك وهو يخرج آخر الزمان فيملأ الارض عدلا ، يشيرون إلى الحديث الواقع في كتاب الترمذي في المهدي"[15]. على أن من أنكر عليهم اعتقادهم ذلك لهم طرق غير الترمذي. ومع أن الظاهر يوحي بالتهافت في ما ساقه ابن خلدون حول المهدي ، إلا أنني أعتقد بأن ابن خلدون لم يرد القول أن سبب الغلو هاهنا هو الاعتقاد بالمهدي الوارد في الصحيح باعترافه. بل سبب الغلو في نظره هو الحديث عن أن المهدي المذكور في الصحيح هو نفسه الحجة بن الحسن عج . فالاستشكال شخصي لا نوعي. هنا لا بد أن نذكر بأن ابن خلدون هو مؤرخ وليس محدثا كما لا يخفى. وإن ما أورده من أخبار ، ومن النتائج التي استخلصها ، يوحي بأنه لا معرفة له بالأخبار بله التصرف فيها على أساس الجمع العرفي متى تعارضت هذه الأخيرة. يقول ابن خلدون:" هذا آخر ما اطلعنا عليه أو بلغنا من كلام هؤلاء المتصوفة وما أورده أهل الحديث من أخبار المهدي قد استوفينا جميعه بمبلغ طاقتنا "[16]. وعليه ، فإن استفراغ الجهد في طلب المظان لم يتحقق مع هذا القدر اليسير من الأخبار التي تطرق إليها ابن خلدون، بينما ما لم يحصه منها يعد بالآلاف. فإدعاء الاستقصاء واستيفاء الأخبار حول المهدي ، هو ادعاء مزيف. ما دام لم يتطرق إلى أغلبية ما ورد حول المهدي في مصنفات القوم. فما فعله ليس مصداقا لبدل الوسع ، ولا هو من جنس الاجتهاد المعتبر. ثم ماذا درى من أمر الإمامية حينما زعم أنهم يقصدون الحديث المروي عند الترمذي؛ وقد ظهر بأن ابن خلدون لم يقف عند عشرات الأخبار التي وردت في مصنفات العامة بله وجود نظائرها في مصنفات الخاصة. إلا أن يقال ، أن ابن خلدون كما أحصينا من زلاته الكثير في غير محلنا، كان على مسامحة في التحقيق وتعصب لمذهبه . أي أن تحيزه مانعه من الوقوف عند الحقائق كما هي. ثمة تراخي ملحوظ في طلب الحقيقة متى تعلقت بالتراث الآخر. لقد كان ابن خلدون ضحية ساذجة لثقافة الملل والنحل التي استند إليها مسلما بنتائجها. يكشف ابن خلدون عن هشاشة اجتهاده في معرفة التراث الآخر، حيث مضى يبني مواقفه وأحكامه على آراء كتاب "الملل والنحل" الذين ارتقوا بالعناوين والنعوت إلى مصاف المدارس العظمى. حيث ذكر من الاتجاهات والمدارس والمذاهب ما كان بعضه مجرد سبة أو تهمة أو وصف لا وجود له في الواقع. ومع ذلك يقول فيلسوف العمران:"ومقالة هذا الصباح في دعوته مذكورة في كتاب الملل والنحل للشهرستاني(...)ومن أراد استيعابها ( أي مذاهب ومقالات الشيعة) ومطالعتها فعليه بكتاب الملل والنحل لابن حزم و الشهرستاني".[17] وعليه أمكننا التصديق بقولة للشيخ أحمد شاكر : «ابن خلدون قد قفا ما ليس له به علم، واقتحم قحماً لم يكن من رجالها ، انه تهافت في الفصل الذي عقده في مقدمته تهافتاً عجيباً ، وغلط أغلاطاً واضحة . إنّ ابن خلدون لم يحسن فهم قول المحدّثين ،ولو اطّلع على أقوالهم وفقهها ما قال شيئاً مما قال"[18]. وقد رد أحمد بن محمد بن الصديق على ابن خلدون ردا أسماه : (إبراز الوهم المكنون من كلام ابن خلدون). إلا أنه وحتى لا يظلم الرجل، فابن خلدون لم يكن في وارد رد أخبار المهدي ، بقدر ما أعترف بصحة الكثير منها، ولم يخرج عن مقتضى الإجماع على تواتر الأخبار. بل إن الالتباس ناشئ هاهنا عند ابن خلدون من أنه عالجها ضمن سياق التاريخ السياسي لبعض أدعياء المهدوية أو ما نسب إليهم من قبل كتاب أهل الملل والنحل كما أكد ابن خلدون سابقا معرفا بمصادره. ثمة ما هو جدير بالتذكير في المقام. وهو أن ابن خلدون يؤطر رؤيته السياسية على أساس منظور مبنائي قوامه العصبية. وعلى هذا الأساس جاءت قراءته لواقعة كربلاء ، واعتبارها نوعا من سوء الفهم لسنة الملك ، حيث اعترف للإمام الحسين ع بالحق في الموقف والصدق في دعوته ، إلا أنه غلطه في الخروج مع فقد الشوكة وضعف العصبية. وهاهو يعود إلى مبناه ويترك كل هذا النقاش الإخباري الذي لم يكن له ملزم، حيث يقول:" والحق الذي ينبغي أن يتقرر لديك أنه لا تتم دعوة من الدين والملك إلا بوجود شوكة عصبية تظهر وتدافع عنه من يدفعه حتى يتم أمر الله فيه وقد قررنا ذلك من قبل بالبراهين القطعية"[19] يفهم من ابن خلدون أنه مع فرض التسليم بالمهدي ، لا يقر بظهور دعوته وتحقق بسط اليد لقائم آل محمد(ع) بالشكل الذي يظهر من الروايات إلا إذا تحقق شرط العصبية. والحال أن الدعوات التي يتحدث عنها ابن خلدون ، لم تقع في سياق العصبية لقريش والفاطميين، التي اعتبرها ابن خلدون قد تلاشت من جميع الآفاق ووجد أمم آخرون قد استعلت عصبيتهم على عصبية قريش إلا في الحجاز في مكة وينبع والمدينة...وهم منتشرون في تلك البلاد وغالبون عليها وهم عصائب بدوية متفرقون في مواطنهم وإماراتهم وآرائهم يبلغون آلافا من الكثرة فإن صح ظهور هذا المهدي فلا وجه لظهور دعوته إلا بأن يكون منهم ويؤلف الله بين قلوبهم حتى تتم له شوكة وعصبية وافية بإظهار كلمته وحمل الناس عليها وأما غير هذا الوجه مثل أن يدعوا فاطمي منهم إلى مثل هذا الأمر في أفق من الآفاق من غير عصبية ولا شوكة إلا نسبة في أهل البيت فلا يتم ذلك ولا يمكن لما أسلفناه من البراهين الصحيحة"[20] لقد أورد ابن خلدون حديثه هذا لرد دعوة من أسماهم بالعامة والأغمار من الدهماء ، الذين يوجبون تحقق الظهور لمجرد النسب لا بتحقق الشوكة والعصبية. والحق أن نظرية الشوكة على واقعيتها ، تصلح أن تكون نفسها دليلا على ظهور المهدي ، وأيضا مانعا من استغلال الدعوة المذكورة في غير محلها. لكن قبل ذلك لا بد من مناقشة ابن خلدون في كيفية تنزيله لنظرية العصبية في موضوع الإمام الحسين والمهدي ع . إن نسبة الغلط للإمام الحسين بالنسبة لابن خلدون هي نتيجة تطبيق سطحي للنظرية التي اجترحها ومنحها كل هذا الاقتدار التفسيري. وأحسب أن المشكل في المعطيات التي يستند إليها بن خلدون وليس في صميم النظرية، حيث لا خلاف حولها. حيث السؤال المطروح على ابن خلدون: من قال إن الحسين خرج طلبا للملك ، حتى يشترط العصبة؟ ألم يؤكد بأن دعوته إن هي إلا ثورة في وجه الظلم ، وأمر بالمعروف ونهي عن المنكر؟! ألم يحاصر ويفرض عليه البيعة والذلة ، فكانت ثورته من أجل الكرامة وفضح الطغيان لا طلبا للملك؟! فأين غلط الحسين حاشاه، كما يقول ابن خلدون، ولما تراءى لهذا الأخير أن الحسين طالب ملك. إن نظرية العصبية ، تحصر العالم وتاريخ البشر التدافعي والصراعي في العصبة والشوكة. وهي بذلك لا تفتح مجالا للثورة على الظلم والاحتجاج. فالعصبية بالمنظور الخلدوني هي وحدها القوة ، وهي تتمتع بوضع قار وكيف خاص. بينما أكدت حركة التاريخ ، بأن القوة تتحصل من التدبير الأمثل لعلاقات القوة واستغلال الحدث السياسي. وقد كان دائما لبني هاشم من العصبية ما يكفي، حيث قامت دول في التاريخ الإسلامي بالدعوة إلى آل محمد ع كما هو شأن العباسيين ، والفاطمييين والبويهيين والحمدانيين ودولة الأدارسة وغيرهم. لم تنحصر عصبتهم في الحجاز فقط ، بل امتدت إلى فارس وأفريقيا وبلاد ما بين النهرين..نعم إن النظرية الخلدونية تجيب عن سؤال: لماذا هو غائب ؟ حيث الغياب والحضور مشروط بتحقق العصبية المستوفية والشوكة الكافية لتحقق ملكه وانبساط يد سلطانه. فوجود النسب وحده لا يكفي. وحيث جوهر القضية ليس مجرد النسب بل خصوصية فيه اقتضت تخصيص الأئمة من آهل البيت ع . إن الحديث عن المهدي مع تحقق العصبية اللازمة أمر يسلم به ابن خلدون.لكنه لا يسلم به دون شوكة بها يتحقق ملك المهدي على الأرض. وعليه ، فإن كل الأخبار التي تتحدث عن المهدي ، تتحدث عن التأييد بالقوة والعصبية وبكل ما تحتاجه دولته وما يقتضيه بسط اليد. يكون ابن خلدون على خلاف ما ادعاه المنكرون ، مقرا بالمهدوية ، ومسلما بصحة أخبارها. لكنه اشترط قيدا بها تتقوم ؛ ألا وهو العصبية. وليس هذا إلا عين ما يتعين أن يكون عليه الاعتقاد بالمهدوي، بوصفها تجلي لأكبر عصبية في تاريخ البشر. حيث كل أسباب الدعم والتأييد والتسديد ستكون معه. فهو مهدي مزود بكل أسباب القوة؛ بل وكما أكدت الروايات: سيرقى في أسباب السماوات والأرض. وهو عنوان العصبية ، ليس بمدلولها الخلدوني التقليدي والساذج ، بل هي عصبية قائمة على استغلال أمثل لعلاقات القوى في عالم معاصر ، تغير فيه كل شئ حتى مفهوم الشوكة والعصبية. حيث الحق والعدالة والأهداف النبيلة تشكل عنصر قوة، وهي علة لإعادة تشكيل العصبية. أمر يثبته تاريخ الحضارات والتحولات البشرية الكبرى. من هنا ، فإن النظرية الخلدونية تبدوا مثغورة لأنها لا تستدعي قوانين القوة غير العصبية ، ولا تقدم تفسيرا للتعاليم القائلة بأن دولة العدل مع الكفر تدوم ودولة الظلم مع الدين لا تدوم. ومتى تضخم الظلم وجدت الأمم المغلوبة في العدالة مطلبا رئيسا ، فتشكلت عصبيتها من جديد على أساس المبدأ. إن مفهوم العصبية في نظر ابن خلدون، ذو دلالة عشائرية وقبلية ، لذا ما كان له أن يتصور بأن العصبية قد تقوم على المصالح مع اختلاف في القومية والملل والنحل. وتلك هي سمة العصبية في عصر القائم(ع) ، جامعة للأمم على أساس المصلحة في العدالة والسلام. دليل الإجماع لم نكن في حاجة إلى إجماع طالما لم تصل النوبة إليه. غير أن الإجماع هنا هو تأكيد على التواتر وصحة أخبار المهدي كما تحدث عنها أعلام المدرستين. وبهذا المعنى يصدق الإجماع وتلك من كرامة مهدي الأمة عج بمعناه المعتبر عند العامة والخاصة. فلا يخفى أن حجية الإجماع في مدرسة أهل البيت كاشفية غير موجدة ، سواء أتعلق بالمحصل منه أو المنقول. من هنا ما كان أجرأ منن فقهاء الإمامية أن ردوا جملة من الاجماعات المزعومة استنادا إلى قرائن تزلزل كاشفية هذا الإجماع. وذلك حيث كانت حجية هذا الأخير ثابتة بالعرض لا بالذات. فالمعتبر فيه ما كان كاشفا عن رأي المعصوم وإلا فهو مسامحة ، أو مسامحة في مسامحة كما عبر عن ذلك سلطان الأصوليين الشيخ مرتضى الأنصاري في رسائله بخصوص الإجماع المحصل. أمكن حينئذ أن يلحق الإجماع في مدرسة أهل البيت بالسنة ، لأنه يدور معها برسم الكاشفية وجودا وعدما.غير أن النكتة في المقام ، أن ثمة شكلين من الإجماع ثابت هاهنا، وتتحقق حجيته باعتبار المدرستين معا، مما يجعله أقوى إجماع على الإطلاق. فمن جهة ، لا أحد من المسلمين خرج عن مقتضى الإجماع ولو اختلف في المصداق الشخصي لأخبار المهدي. فبين من قال أنه هو الحجة بن الحسن (ع) وبين المنكر الذي يقول بولادته آخر الزمان، لا أحد قال بأنه سيكون مهديا من خارج الأمة، أو أنه من غير بيت النبوة. ولا أدل على ذلك من قول ابن خلدون الذي مر معنا حيث تحدث عن المشهور بين كافة أهل الإسلام على مر العصور أنه لا بد في آخر الزمان من ظهور رجل من أهل البيت. وقول ابن خلدون عمدة في المقام . لما علمت أنه وبناء على نظرية العصبية والغلب ، كان أحرى بفيلسوف العمران أن ينكرها ويتحدث عن تاريخ مفتوح على كل أشكال العصبية الممكنة، وحيث أكد على أن عصبية قريش أو الهاشميين انتهت وكادت تنحصر في الجزيرة العربية . والشهرة التي يتحدث عنها ابن خلدون كما رأيت ، ليست بمدلولها الشرعي ، بل بمدلولها اللغوي الذي يؤدي بحسب الاصطلاح معنى الإجماع ، حيث جعله أعم وأوثق بقيد كل الاعصار ، كناية على ان ما من طبقة إلا وتمت فيها الشهرة، ولم يرد من العلماء من شكك في ذلك المعتقد ، بل إن ابن خلدون استعرض كما مر معنا من تلكم الأخبار ما أكد صحة كثيره كما ثنى بموقف أهل التصوف والذوق إثباتا لعقيدة المهدوية بطريق الحدس. يتحصل مما ذكرنا أن الإجماع قائم في المدرستين وعلى أساس اعتباريته فيهما معا. فالإجماع ثابت وفق ما اعتبر عند الخاصة لجهة إجماع أهل الإخبار المعتبرين ، كما أن الإجماع عند الإمامية قائم هاهنا وفق المعتبر منه في المدرسة ، حيث هو من جنس الإجماع الحسي كما لا يخفى. فهو ليس فقط كاشفا عن رأي المعصوم حدسا كما لو تعلق الأمر بآراء فقهائية مع فقد الدليل ، بل هو إجماع قائم على ثبوت أدلة متواترة ، ومعززا لدليليتها. وقد أحصى بعض الفضلاء واستقصوا مخرجي أحاديث المهدي التي عدت بالآلاف ، وارتأينا أن نستعرضه في هذا الباب ، حيث وجدناه مستوفيا للمطلوب وكافيا لا حاجة معه للتكرار و مزيد استقصاء إلا أن يقال أن الإجماع غير قائم بهؤلاء الأعلام المعتبرين ، فتعين قيامه بالمغمورين ممن لا أثر لهم في إجماع سلبا وإيجابا. وهؤلاء الأعلام هم: ابن سعد صاحب الطبقات الكبرى (ت|230 ه) ، وابن أبي شيبة (ت | 235 ه) ، وأحمد بن حنبل (ت|241 ه) ، والبخاري (ت|256ه) ذكر المهدي بالوصف دون الاسم ، ومثله فعل مسلم (ت|261 ه) ، وأبو بكر الاسكافي (ت|620ه) ، وابن ماجة (ت|273 ه) ، وأبو داود (ت|275ه)، وابن قتيبة الدينوري (ت|276 ه)، والترمذي (ت|279ه)، والبزار (ت|292 ه) ، وأبو يعلى الموصلي (ت|307ه) ، والطبري (ت|310 ه) ، والعقيلي (ت|322ه)، ونعيم بن حماد(ت|328 ه) ، وشيخ الحنابلة في وقته البربهاري (ت|329ه) في كتابه (شرح السنّة) ، وابن حبان البستي(ت|354ه) ، والمقدسي (ت|355 ه) ، والطبراني(ت|360 ه)، وأبو الحسن الآبري(ت|363 ه) ، والدارقطني (ت|385ه) ، والخطابي (ت|388 ه) ، والحاكم النيسابوري (ت|405ه) ، وأبو نعيم الاصبهاني (ت|430 ه) ، وأبو عمرو الداني (ت|444 ه) ، والبيهقي (ت|458 ه)، والخطيب البغدادي (ت|463ه)، وابن عبد البر المالكي (ت|463 ه)، والديلمي (ت|509ه)، والبغوي (ت|510 أو 516 ه)، والقاضي عياض (ت|544 ه)، والخوارزمي الحنفي (ت|568 ه)، وابن عساكر (ت|571ه)، وابن الجوزي (ت|597 ه)، وابن الأثير الجزري (ت|606 ه)، وابن العربي (ت|638 ه)، ومحمد بن طلحة الشافعي (ت|652 ه)، والعلاّمة سبط ابن الجوزي (ت|654 ه) ، وابن أبي الحديد المعتزلي الحنفي (ت|655ه)، والمنذري (ت|656 ه) ، والكنجي الشافعي (ت|658 ه)، والقرطبي المالكي (ت|671 ه) ، وابن خلكان (ت|681ه)، ومحب الدين الطبري(ت|694 ه) ، والعلاّمة ابن منظور (ت|711 ه) (في مادة هدِيَ من لسان العرب) ، وابن تيمية (ت|728ه)، والجويني الشافعي (ت|730 ه)، وعلاء الدين بن بلبان (ت|739 ه)، وولي الدين التبريزي (ت|بعد سنة 741ه)، والمزي (ت|739 ه)، والذهبي (ت|748 ه)، وابن الوردي (ت|749 ه)، والزرندي الحنفي (ت|750ه)، وابن قيم الجوزية (ت|751 ه)، وابن كثير (ت|774 ه) ، وسعد الدين التفتازاني (ت|793ه)، ونور الدين الهيثمي (ت|807 ه) ، وابن خلدون المغربي (ت|808 ه) والشيخ محمد الجزري الدمشقي الشافعي(ت|833 ه) ، وأبو بكر البوصيري (ت|840ه)، وابن حجر العسقلاني (ت | 852 ه) ، والسخاوي (ت|902ه) ، والسيوطي(ت|911ه)، والشعراني (ت|973 ه) ، وابن حجر الهيتمي(ت|974 ه)، والمتقي الهندي (ت|975 ه) والشيخ مرعي الحنبلي(ت|1033ه) ، ومحمد رسول البرزنجي (ت|1103ه)، والزرقاني (ت|1122 ه) ، ومحمد بن قاسم الفقيه المالكي (ت|1182ه)، وأبي العلاء العراقي المغربي (ت|1183ه) ، والسفاريني الحنبلي (ت|1188 ه) ، والزبيدي الحنفي (ت|1205 ه) في كتاب (تاج العروس) مادة : هَدِي، والشيخ الصبّان(ت|1206 ه) ، ومحمد أمين السويدي(ت|1246 ه) ، والشوكاني (ت|1250ه) ، ومؤمن الشبلنجي(ت|1291 ه) ، وأحمد زيني دحلان الفقيه والمحدث الشافعي (ت|1304ه) ، والسيد محمد صديق القنوجي البخاري(ت|1307 ه) ، وشهاب الدين الحلواني الشافعي (ت|1308ه) ، وأبي البركات الآلوسي الحنفي (ت|1317 ه) ، وأبي الطيب محمد شمس الحق العظيم آبادي(ت|1329 ه) ، والكتاني المالكي (ت|1345ه) ، والمباركفوري (ت|1353 ه) ، والشيخ منصور علي ناصف (ت| بعد سنة 1371 ه) ، والشيخ محمد الخضر حسين المصري (ت|1377ه)، وأبي الفيض الغماري الشافعي(ت|1380 ه) ، وفقيه القصيم بنجد الشيخ محمد بن عبد العزيز المانع (ت|1385 ه) ، والشيخ محمد فؤاد عبد الباقي (ت|1388ه) [21] دليل العقل ومقتضاه اللزوم؛ نظير لزوم المقدمة لذي المقدمة كما في مقدمة الواجب. وهو ما تحقق حكمه عقلا على نحو من الاستقلال لا يستدعي مدخلية السماع. إن علاقات اللزوم هي تجلي العاقلية التي بها تم التكليف وبها تمت الحجة على العباد وعليها توقف التكليف ، حيث قبل التنزيل كان العقل. فأول ما خلق الله العقل. ولقد استند المنكر للمهدي على خطاب العقل والعلم والبرهان ، ضاربا عرض الحائط ما جاء من الإخبار عنه وعن أحواله، حتى ما تواتر منها. وقد تركز رفض المنكرين على أنها عقيدة باطلة للأسباب التالية: 1 نحن في عصر العلم ، وهذا ما بقي من آثار الفكر الغيبي السحري. فالحداثة هي عصر العقل الذي قطع مع عصر الإيمان. 2 إنها تعكس ثقافة التمحور حول الشخص ، وإضفاء صفات الأسطورية عليه ونحن في عصر الجماهير والديمقراطيات وعصر تجاوز عبادة البطل المخلص.وهذا لا ينسجم مع عصر النضج البشري الذي تحدث عنه كانط في رسالة التنوير، وشكل عنوان الحداثة.. 3 أنها تعبير عن عجز الإنسان عن صناعة حاضره والتوكل على المخلص الذي يصنع عنه ذلك بالوكالة. 4 ما أحاط بأخبار الإمام المهدي من معاجز هو باطل في نظر العلم التجريبي. 5 وفي ما يخص من ذهب إلى أنه الغائب، فإن هذا بخلاف العلم أيضا، وفي هذا التقى المنكر الأصلي مع المنكر للغيبة مع اعتقاده بالمهدي المستقبلي بالجملة. لدفع الشبهة الأولى، نقول: ثمة مغالطة في التأريخ للعلم والفكر الإنسانيين. ويراد من هذا التحقيب لتاريخ المعرفة على أساس القطائع التامة ، التنكر لمنطق تكامل المعرفة وتداخلها وتعايشها ، حيث إن سلمنا بأن ثمة قطائع ، فهي كذلك من جهة النموذج لا من جهة الحقائق والأفكار. وسلطة النماذج والباراديغمات هي سلطة تفسيرية لا يتأكد حضورها بالاستحقاق المعرفي على النحو الواقعي ، بل يتحقق ذلك من جهة انتظام جماعة في لحظة ما أو عصر ما على التقيد بنظيمة أو جملة من التصورات أو المبادئ التأسيسة الكبرى. أما هل هذا يعني نهاية الأفكار المجردة والتعاليم ، فدونه خرط القتاد. ولا أدل على ذلك من أن الأنتربولوجيا الحديثة وسعت من مجال بحثها ليشمل ما يبدو مجتمعات حديثة وأخرى في غاية البدائية. فالأفكار وإن كانت بدائية فهي تتمظهر بصور شتى في العصر الحديث حيث لا يبقى من متغير سوى الإطار والشكل الخارجي ، أو لنقل الصيغ التعبيرية، بينما الوفاء يظل ثابتا للمضمون نفسه. هكذا تجلى التفكير ما قبل المنطقي في رومنسيتنا الحديثة، وحيث لم يجد التفكير برسم العلية مكانه في كل ما يدين به البشر. فما يبدو من مقتضى عصر الإيمان أو مراحل الغيب والسحر هو حاضر في بدائية هوجاء في الكثير مما يدين به البشر في حداثتهم. لم يخل عصر من العصور من عقل وعقلاء، كما لم يخل عصرنا الحديث من مظاهر الغيب والسحر. وقد أجابت الحداثة عن ذلك ضاربة عرض الحائط بالنزعة العلموية التي قسمت أزمنة المعرفة إلى جزائر غير متاخمة لبعضها البعض، ورسمت بينها قطائع مدعية بأن عصور اللاهوت والسحر وما شابه قد ولى بلا رجعة في زمن الوضعية الإيجابية. والحق أن الدين كان ولا يزال هو الظاهرة الاكثر حيوية ورسوخا، في كل زمان ومكان. بل هو الظاهرة الأولى والأخيرة ، ما استوجب تواضعا كبيرا في السوسيولوجيا الدينية. محاولة تقريب الظواهر الدينية والغيبة بموازين العقل التجريبي الذي لا يزال يتخبط في طريق السيطرة على الطبيعة وهي أقل الظواهر صعوبة وأقربها للفهم ، كان زعما وادعاءا مغالطا. واليوم نستطيع وانطلاقا من العلم الحديث بشعبه وتخصصاته المختلفة أن نؤكد على أن القسم الأكبر من الظواهر في العالم لا زالت أسرار غامضة. لا بل إننا متى رمنا الدقة في بعد من أبعاد الظاهرة الواحدة افتقدناها اضطرارا في البعد الآخر. فلم يكن رائد فيزياء الكوانتا هايزنبيرغ مبالغا في التأكيد على مفهوم اللادقة، حيث بات من المستحيل السيطرة على الزمان والمكان في آن واحد.مات انشتاين كما مات غيره وفي جعبتهم الشيء الكثير من حتى. فالعالم تتسع ظواهره أمام العلماء بمقدار ما يتم اكتشاف يسير من أسراره القريبة المنال هنا أو هناك. والعلم الحقيقي التام لا وجود له حتى الآن إلا في رؤوس من لم يجربوا العلم أو تعاطوا مع عصرهم بغرور. وقد ظهر أن أكثر من يتغنى بالعلم بجاحة وغرورا هم من شعب لا صلة لها بالعلم ومعاناته، التي تجعل العلماء المتخصصين يزدادون تواضعا يوما بعد يوم.ومع ذلك نقول ، إننا وجدنا الغيب يتخلل كل هذا العلم. حيث اليوم أصبح واضحا أن غرور علم الأنوار وما قبله ، كان لا يزال مصدوما بكبرى يقينيات الميكانيكا والظواهر القريبة من العين المجردة. لكن مع دخول عصر الفضاء وعصر الذرة وغيرها بات العلم يتعاطى مع الظواهر بالكثير من النسبية والاحتمال والتوقع والفوضى والاستقراء والفرضية مع الإبقاء على زند التنكر لتفجير محتمل دائما لهذه الخطة التفسيرية أو تلك. بمعنى آخر وكما أكد بوبر، بأن النظرية العلمية هي ما تستطيع أن تصمد أمام الاختبار والدحض العلمي المستدام. لا وجود لنظرية علمية تامة، بل لا وجود إلا إلى اختبار مستمر للنظريات، ولا تزال الفرضية هي ذلك التجلي لتأثير العلم الحضوري، بل لا زالت النتيجة هي تلك النتيجة التي تبحث عن اختبار حسي.إن الفرضية هي نتيجة محدوسة كما أن النتيجة هي فرضية محسة. لكن من أين تأتي الفرضية؟! ومع ذلك أمكننا من خلال هذا اليسير من العلم أن نحقق في إمكان حدوث وقائع بلغت مسامعنا بمحض الإخبار . لقد أمكننا من خلال التيرموديناميك الميكانيكا الحرارية أن نتوقع وهذا غيب نهاية محتومة لعالمنا. وكيف نستطيع أن نتحدث بثقة علمية قاطعة عن وجود الطاقة ، وهي غيب لا ندركه إلا من آثاره الفاعلية كالضوء أو الحرارة أو الحركة.هذا فيما عرفناه. أما ما لم نعرفه ، فكم من أنواع الأمراض التي لا زال يتكبد فيها الطب الحديث كل هذا العناء بلا جدوى. وماذا نستطيع أن نفعله حيال الزلازل والأعاصير التي لا تستطيع أن تتنبأ بها أعتى وسائل الاستشعار حساسية. هل استطاع العلم الحديث في كبرى المجتمعات الحديثة والمتقدمة أن يقضي على الظاهرة الدينية والروحية..يوما بعد يوما يبدو الإنسان ضعيفا أمام أسرار الكون والطبيعة..وبقدر ما يتم اكتشاف سر هنا ، تنهمر أسرار في الجانب الآخر..إن الإنسان الحديث المنبهر باكتشافاته الصغيرة ، والتي ينشئ معها علاقة الطفل بدماه، لا يزال يمشي بعلمه الطبيعي يرسف بكلاكل العجز. بل لا يزال يمشي على حقل طين لزج أو رمال متحركة. هكذا غدا الواقعي مع ماكس بلانك هو كل ما يمكن قياسه.فالمساحات التي يعجز العلم عن قياسها هي في نظر رائد الكوانطا، في عداد المعدوم. إن الإنسانية تدين في الجزء الأكبر من حياتها اليومية بمعتقداتها الروحية.هذه العبادة الساذجة للعقل والتي أتت عليها وضعانية أوجيست كونت، تبدوا اليوم هجينة. وليس عصر النضج الذي تحدث عنه كانط في رسالة التنوير سوى نوبة من نوبات غرور الأنوار، وحكم يستحضر ماضي البشرية ، وليس مستقبلها. فمتى بلغت الحداثة الباب المسدود ، وثمة من رأى ذلك من داخل الحداثة نفسها مثل ماركوز، فإن عصور الظلام تنتقل من الماضي إلى المستقبل. فوجهة الإنسان اليوم التي تسلك على طريق التدمير والفوضى والتلوث والظلم الاجتماعي والحروب ، كلها ترسم مستقبلا غامضا للإنسان، أكثر من ظلمات ما سبق من تاريخه. ومع ذلك فإن كانط نفسه كان أول من سدد الضربة الكبرى للعقل راسما له حدوده مذكرا إياه بما ينبغي وما لا ينبغي له كما في نقد العقل المحض. وقد بات واضحا مع نيتشه بأن هذه العبادة الساذجة للعقل على حساب الوجدان هي من يصنع مستقبلا من اللامعنى، ويحدث الكثير من التغليط ، حيث هذا العقل الذي وجد لإدراك الأشياء الثابتة أنى له أن يدرك العالم في صيرورته المستدامة. صوب نيتشه ضرباته لهذا التصور المتعجرف للعقل ومنحه مكانته المتواضعة ، وحطم أسطورة العقل المؤله. وليس بعيدا عنه ما قام به رائد التحليل النفسي سيغموند فرويد وهو يعيد بناء العلاقة بين الإنسان والعالم على أساس اللاوعي الذي هو العمدة في سلوك البشر فرادى وجماعات ، حيث كانت تلك ضربة لا تقل خطورة ضد النزعة العقلانية الساذجة.بل إنها لو اعتبرت واحدة من صدمات الإنسان المعاصر، شأنها شأن الثورة الكوبرنيكية ، فإنها بمعنى آخر هي صدمة الإنسان الحديث مع حداثته ، حيث أظهر التحليل النفسي ، عكس ما ساد الاعتقاد به في الفكر الحديث . ومع ذلك ، فالأديان والمعتقدات وحدها من أكدت بأن أكثر الناس لا يعقلون وأغلبهم غافلون. و قد استلهمت الفرودية ثورتها على الوعي ومزاعمه من الفكر الديني نفسه. كيف يقال أن عصر الإيمان ولى ، حيث حل عصر العلم. هذا إن قلنا بأن هذه النظرة الساذجة للإيمان والعلم، لا وجود لها في واقع حياة المجتمعات.حيث تؤمن بالعلم إيمانها بمعتقداتها، في تعايش لم يزعجه شذاذ الآفاق. وحتى لا ونطنب أكثر من هذا ، لنأخذ مثال الاعتقاد بالمهدوية. إن هناك شيء أشبه بتنويع على الأفكار الدينية الكبرى. إن كل ما لنا من علم هو حلم استلهمته البشرية من الأديان نفسها. فالذي أغنى مخيلة الكائن وأطلق طاقاته ومنحه روح الأمل ، هي هذه المعتقدات والأديان الروحية.بل إن العلم الحديث جعل من التراث اليوناني وأساطيره الوثنية نموذجا إرشاديا في كثير من ابتكاراته وفنونه كما لا يخفى. ولا يزال الإنسان الحديث مدينا لفكرة المهدوية ، حتى وهو يعبر عنها برسم فلسفات ومذاهب فكرية شتى. وعصرنا الحديث هو الاكثر اهتماما بعلم التوقع والمستقبليات. بل دائما وعلى مر العصور كان هناك اهتمام استثنائي بعالم متوقع في ذهن الحكماء، يجد في المتلقي قابلية الاعتقاد. حدث ذلك في اليونان مع الجمهورية الفاضلة عند أفلاطون؛ لكن الحلم نفسه لم يتوقف يوما حتى مع ولوج العصر الحديث. فالأفكار الملهمة والمؤسسة لعصر الأنوار كانت مسكونة بهذا الحلم المهدوي.بعد المدينة الفاضلة التي كتب حولها فلاسفة مسلمون كثير هناك مدينة الله للقديس أوغيسطينوس ومدينة الشمس عند كومبانيلا. كما كتب توماس مور عن جزيرة يوتوبيا. وهي حكاية عن عالم متصور عن نحو من النضج والكمال النفسي والعقلي والأخلاقي، ما شكل ملهما لعصر النهضة. إن عصر النهضة الأوربية التي كان توماس مور واحدا من أبر روادها ،كان يتصور الحداثة بهذا الكمال العقلي والأخلاقي. إن النهضة الأوربية الحديثة هي بنت هذا الإلهام المهدوي الكبير ، كما جسدته تلك المدن الفاضلة المتوقعة، كما تحكي جزيرة توماس مور الفاضلة. وسمت فكرة الإنسان المتفوق الآتي من بعيد ، فلسفة نيتشه، إلى حد يكاد يجسد مظهر المهدوية بنفسها. " اسمعوا، ها أنذا منبؤكم عن الرجل الأخير". كذلك يبتدئ نيتشه حديثه في هكذا تكلم زرادشت. وهو يكاد يصف ويحدس ما ينبغي للمنتظر العظيم ذي الشأن الكبير، حيث يقول:" وستصغر الأرض في ذلك الزمان فيطفو على سطحها الرجل الأخير الذي يحول إلى حضارة كل ما يدور به ، إن سلالة هذا الرجل لا تباد ، فهي أشبه بالبراغيث، والإنسان الأخير أطول البشر عمرا". فما كان من الحاضرين من تلك الجموع الغفيرة بعد أن ينهي زارا خطابه:"إلينا بهذا الرجل الأخير يا زارا، اجعلنا على مثال أناسي الزمان الأخير فقد تخلينا لك عن الإنسان المتفوق"[22] يتحدث نيتشه هنا على لسان زارا ، بحقائق تنطبق على الرجل الأخير المنتظر.إنه يتحدث عن أن الأرض ستصغر في زمانه فيطفوا على سطحها، كناية عن الظهور. وأيضا إشارة إلى بسط اليد. وأنه سيحول إلى حضارة كل من يحيط به كناية عن أنه سيملؤها قسطا وعدلا؛ وهل الحضارة إلا كذلك. ثم إنه يتحدث عن أن سلالة الرجل الأخير المنتظر لا تباد. وحيث ان النص النيتشي ككل نصوصه ، نص أدبي غارق في الكنايات والتشبيه، صور ذلك بالبراغيث لجهة التشبيه، وتعبيرا عن قوة التكاثر إلى حد العجز عن على محو آثارها. وهو في نهاية المطاف أطول الناس عمرا. لقد لخص نيتشه في هذه الفقرة التصور الحقيقي للرجل الأخير المنتظر. في أيامنا هذه ، ازدادت وطأت الحروب والتحديات التي جعلت الاستكبار العالمي حتى وهو يمارسه جرائمه المنكرة في حق الإنسانية بالغزو والتحكم بمقدرات الشعوب والأمم ، يفعل ذلك متمثلا زيفا مظهر المخلص الذي سيملأ الدنيا سلما وديمقراطية ورفاهية. ومثل هذا الادعاء وارد ، حيث ادعاه دجالون عبر العصور. وما درى هؤلاء المستكبرون بأن المهدي المخلص هو للأمم قاطبة، وليس لأمة واحدة أو لطبقة وفئة وشبكة مصالح خاصة. لكن النكتة في المقام ، واحدة من أكثر الاطروحات إثارة عقب سقوط الاتحاد السوفياتي ؛ هي فكرة نهاية التاريخ والرجل الأخير ، للخبير الأمريكي فرنسيس فوكوياما. لقد راقت هذه الأطروحة للكثير من المتحمسين للهيمنة على العالم ، ووجدوا فيها غطاء لتحقيق أهدافهم الجهنمية. لقد أوحت الأطروحة إياها بأن نهاية التاريخ استقرت على أعتاب الولاياتالمتحدةالأمريكية، وبأن الرجل الأخير هو الرجل الليبرالي بامتياز. كان تصور نيتشه للرجل الأخير اكثر أهمية وأغنى خيالا من الرجل الأخير عند فرنسيس فوكوياما الذي بدا وكأنه تراجع عن الكثير من أفكاره بهذا الخصوص. غير أن جوهر القضية ظلت ولا زالت هي المحرك والملهم لحركة الإنسان الحديث إن سلبا وادعاءا أو إيجابا .ولعل هذا ما جعل فكرة فوكوياما أكثر وقعا على العقل الأمريكي نفسه من نظيرتها الصدام بين الحضارات لهينتنغتون. فهذه وإن حاصرت الإمكان وحددت الرجل الأخير في النموذج الأمريكي، فهي تمنحه ريادة في العالم وهيمنة على الدنيا. بينما هينتنغتون شكك في قدرة الولاياتالمتحدةالأمريكية على الاستمرار في الهيمنة على العالم، وطالب بتراجعها إلى حدودها الطبيعية، والى تكتلها الغربي ، بل وتنبأ بزوالها ان لن تأخذ بعين الاعتبار الاهتمام بشؤونها الداخلية وحماية ثقافتها الغربية من خطر الهجرة.لم توجد فكرة الرجل الأخير في أطروحة الصدام بين الحضارات ، لكنها وجدت عند فوكوياما.لذا، لا يزال الباراديغم المهيمن على الخطاب السياسي الأمريكي ، هو الباراديغم المهدوي، ولكن بالصورة المعكوسة التي يخطئها الحس والحدس. من هنا أردنا أن نؤكد بأن العصر الحديث ، لا يزال مدينا للبارديغم المهدوي في كل مظاهره، بمعنى آخر إن الموضوع الجوهري في المهدوية حاضر من خلال عقيدة المخلص والرجل الأخير والانتظار.بهذا يندفع الإشكال الأول ، ومفاده أننا نعيش عصرا العلم والعقل . الإشكال الثاني ومفاده أن فكرة المهدوية مستلهمة من ثقافة تتمحور حول الشخص المخلص الفريد ، وإضفاء صفات الأسطورية على الإنسان. ونحن اليوم في عصر الجماهير والديمقراطيات وعصر تجاوز عبادة البطل المخلص.وهذا لا ينسجم مع عصر النضج البشري الذي تحدث عنه كانط في رسالة التنوير، وشكل عنوان الحداثة. إن حركة التاريخ هي حركة موضوعية وتاريخية وليست حركة أفراد أو فرد واحد ملهم. والحق أن هذه الشبهة لا تشكل أكثر من موقف أيديولوجي من فكرة البطل ودور الفرد في التاريخ. وقد حدث ذلك الجدال الكبير حول هذا الموضوع بين الفكرين: الماركسي والليبرالي. عالجها المؤرخون الألمان كما عالجها ماركسيون وكذا اشتراكيون تقليديون من أمثال بليخانوف.تشبت الاتحاد السوفياتي بفكرة التاريخ وحركته، وتشبث الغرب بفكرة البطل. انتصر الغرب على الأقل لأنه لم يلغ دور البطل في حركة التاريخ، وإن كان الاتحاد السوفياتي نفسه يمنح هذا الدور غير المعلن للفرد البطل. لقد صنع الاتحاد السوفياتي أبطاله أيضا؛ من لينين وستالين وغيرهما.وحينما سقط المعسكر الشرقي ، علقوا الهزيمة على غورباتشوف. فإن كان الفرد مسلوب الدور في حركة التاريخ على صعيد الإيجاب ، فالأمر سيان على صعيد السلب. وإذا كان التاريخ يتحرك ضمن قوانين لا دخل للإرادة فيها ولا معنى لوجود البطل تقديما وتأخيرا، فلما السياسة والتخطيط والمناورة. إن الأبطال الموهوبين هم أنفسهم شرط من شروط حركة التاريخ. بل ثمة جدل بين الارادة وحتمية التاريخ ، حيث الشروط تتهيأ للبطل ، والبطل يتقدم بالشروط نفسها إلى لحظة الأوج والتخارج التاريخي للبنية، فيحدث الحدث العظيم.لا وجود في التاريخ لحركة تاريخية لم يوجد البطل في طليعتها، يصنع مجد الأمة ويتكامل مع جملة الشروط التاريخية.. وفي مثال الإمام المهدي عج ، لا نتحدث عن بطل مجرد يقاتل بالنيابة عن الناس، ولا بطل يأتي من دون شروط موقوفة وحتمية. إن غيبته كانت دليلا على فقد تلك الشروط ، وخروجه هو عنوانا لتحقق تلك الشروط. هذا ناهيك عن أنه سيصنع حركته التاريخية بالجماهير التي تنتظره وتأمل في وجوده . إنها حركة مشروطة. ودور الإمام الملهم هو دور البطل العبقري الذي يعرف كيف يحقق إنجازات الأمة وكيف يراقب خططها واستغلال طاقاتها وتنظيم قدراتها؛ إنه دور لا محيد عنه في كل مراحل التاريخ ، لكنه في عصر الظهور سيكون أبرز وأقوى! إن الديمقراطيات اليوم لا تستغني عن البطل ، بل إن الديمقراطيات هي نفسها تصنع الأفراد وتمنح للفرد دورا مميزا في حركة التاريخ.وأما الحداثة التي وسمت بنضج الإنسان ، فهو نضج بالنسبة إلى حال الإنسان في القرون الوسطى وما قبلها. وقد ذكرنا أن صاحب المقولة نفسها ، كانط ، أكد على محدودية العقل المجرد ، وقدم صيغة في القانون الأخلاقي لا يمكن تحققها إلا في زمن شبيه بزمن المهدي.وهو عالم افتراضي لا تحقق له في الواقع كما لا يخفى. ومع ذلك لا يفوتنا أن الحداثة هي نفسها ركزت على البطل والعبقرية الفريدة للأشخاص. فلك أن تنظر إلى أي مذهب من مذاهبها العلمية أو فلسفية أو الاجتماعية أو..أو..إلا وله علقة بشخص ، أضفى إسمه على المدرسة والاتجاه كله. فهناك التوماوية نسبة إلى توما داكوين، والديكارتية نسبة إلى ديكارت وهكذا نتحدث عن النيوتونية والبرغسونيةوالكانطية والهيغلية والماركسية والكينيزية و..و..فليست الحداثة إلى مجموع الإنجازات التي صنعها أفراد موهوبون، كما أن تاريخ الغرب الحديث هو تاريخ أبطال وأفراد موهوبين. تاريخ نابوليون وبيسمارك وجورج واشنطن وأمثالهم. أنقر هنا لقراءة بقية المقال أو عبر الرابط التالي : http://hespress.com/?browser=view&EgyxpID=22865