حسنية أكادير يهزم نهضة بركان بهدفين    الاعتداء الخطير على بعثة "المينورسو" في تيفاريتي يدفع للتعجيل بتصنيف بوليساريو على قائمة الارهاب الدولي    رغم الأمطار.. آلاف المغاربة في مسيرة من أجل فلسطين والتأكيد على وحدة التراب الوطني    الجزائر تدافع عن مشتبه به في جريمة محاولة اغتيال... وتتهم الآخرين بالتآمر    علماء ودعاة مغاربة يُدينون رسوّ سفن أمريكية تحمل عتادًا موجّهًا للاحتلال الإسرائيلي    تحقيق دولي لواشنطن بوست يكشف: إيران جنّدت مقاتلي البوليساريو في سوريا لتهديد أمن المغرب    إحداث مراكز الدراسات بسلك الدكتوراه في العلوم التمريضية وتقنيات الصحة ابتداء من الموسم الجامعي المقبل    المباراة الرسمية للقفز على الحواجز بتطوان : الفارس الغالي بوقاع يفوز بجائزة ولي العهد    حمزة إيغامان يقود ريمونتادا رينجرز أمام أبردين    اسبانيا .. تفكيك شبكة تهرب المهاجرين من المغرب إلى إسبانيا عبر رومانيا    مندوبية السجون تنفي صحة مزاعم وردت على لسان السجين السابق (ع. ر)    الحكم الذاتي في الأقاليم الجنوبية: مبادرة مغربية تكتسب شرعية دولية متصاعدة    قرعة كان أقل من 20 سنة.. المنتخب المغربي في المجموعة الثانية    إدريس لشكر بدون لغة خشب : «وطنيتنا هي التي تملي علينا مواقفنا»    اللجنة المشتركة المغربية العمانية: شراكة متجددة تعكس عمق العلاقات الثنائية    تافراوت : مجهودات جبارة لرجال الوقاية المدنية ساهمت في إنجاح النسخة ال 12 لمهرجان اللوز    القرعة تضع "الأشبال" بمجموعة قوية    المغرب يطلق مبادرة إنسانية جديدة لدعم الأطفال الفلسطينيين في غزة والقدس    مصدر ينفي تعرض موقع وزارة للاختراق    وفاة أستاذة أرفود متأثرة بإصابتها بعد الاعتداء الشنيع من طرف أحد طلابها    مقاييس الأمطار المسجلة بالمملكة خلال ال24 ساعة الماضية    مؤشر الحرية الاقتصادية 2025.. غياب النزاهة الحكومية وتصلب سوق الشغل يُفرملان نمو الاقتصاد المغربي    قطاع مكافحة سوء التغذية يحذر من «كارثة»    في ورقة لمركز الاستشراف الاقتصادي والاجتماعي .. مرسوم دعم المقاولات الصغيرة خطوة تعيقها معضلات التوزيع والبيروقراطية وهذه توصياته    أخبار الساحة    الوداد والرجاء يقتسمان نقط الديربي، والمقاطعة تفقده الحماس والإثارة    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الاثنين.. نزول أمطار بمنطقة طنجة    رشيد المرابطي يحطم الرقم القياسي لماراطون الرمال وعزيزة العمراني تفقد لقبها    في قبضة القصيدة الأولى: ذاكرة النص الأول بعيون متجددة    بينبين مستاء من تغييب وزارة الثقافة له خلال معرض الكتاب بباريس    الدرك الملكي يشن حملة أمنية واسعة عبر التمشيط بالتنقيط الإلكتروني    الصين تدعو الولايات المتحدة الى "إلغاء كامل" للرسوم الجمركية المتبادلة    عبد الوهاب الدكالى يعود بجمهور الرباط إلى الزمن الجميل    مكتب الصرف يحقق في تهريب العملة من طرف منعشين عقاريين    طبيب: السل يقتل 9 أشخاص يوميا بالمغرب والحسيمة من المناطق الأكثر تضررا    اندلاع النيران في سيارة على الطريق الساحلية رقم 16 نواحي سيدي فتوح    درهم واحد قد يغير السوق : المغرب يشدد القيود على واردات الألواح الخشبية    محاميد الغزلان ترقص على إيقاعات الصحراء في اليوم الثالث من مهرجان الرحل    من خيوط الذاكرة إلى دفاتر اليونسكو .. القفطان المغربي يعيد نسج هويته العالمية    'واشنطن بوست': إيران دربت مسلحين من البوليساريو وسوريا تعتقل المئات منهم    الدورة السابعة للجنة المشتركة المغربية–العمانية تُتوّج بتوقيع مذكرات تفاهم في مجالات متعددة    المغرب وسلطنة عمان يؤكدان عزمهما على تطوير تعاونهما في شتى المجالات    دراسة: الجينات تلعب دورا مهما في استمتاع الإنسان بالموسيقى    تيفلت.. توقيف شخصين انتهكا حرمة مسجد في حالة تخدير    المغرب يستقبل 4 ملايين سائح في الربع الأول من 2025    تحسن ملحوظ في نسب امتلاء سدود المغرب مقارنة بالعام الماضي        مستقبل الصحافة في ظل التحول الرقمي ضمن فعاليات معرض GITEX Africa Morocco 2025    الدوزي يمنع من دخول أمريكا بسبب زيارة سابقة له للعراق    أمسية فنية استثنائية للفنان عبد الوهاب الدكالي بمسرح محمد الخامس    التكنولوجيا تفيد في تجنب اختبار الأدوية على الحيوانات    غموض يكتنف انتشار شائعات حول مرض السل بسبب الحليب غير المبستر    الذئب الرهيب يعود من عالم الانقراض: العلم يوقظ أشباح الماضي    العيد: بين الألم والأمل دعوة للسلام والتسامح    أجواء روحانية في صلاة العيد بالعيون    طواسينُ الخير    تعرف على كيفية أداء صلاة العيد ووقتها الشرعي حسب الهدي النبوي    الكسوف الجزئي يحجب أشعة الشمس بنسبة تقل عن 18% في المغرب    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



قوارب الموت تطفو على سطح الرواية
نشر في المساء يوم 04 - 02 - 2008

إنها ليست رواية عادية، فيها تتداخل الكثير من القضايا، ومن الأنسجة، ومن الخيوط، ومن خلالها يمسك الطاهر بنجلون ببراعة بكل هذه الخيوط مجتمعة، محولا أهم حدث اجتماعي في تاريخ المغرب المعاصر إلى مادة للكتابة، لقد خطف موضوعه من بين «أنيات» الكتاب المغاربة الذين ظلوا يأكلون أصابعهم ندما على «غنيمة» روائية طارت من بين أيديهم.
يقتنص الطاهر بنجلون الأحداث والوقائع اليومية، وتحس من خلال روايته «أن ترحل»، التي نقلها إلى العربية في ترجمة قريبة من روح النص الأصلي بسام حجار وصدرت مؤخرا عن المركز الثقافي العربي، بأنه بالفعل قناص محترف من فوق سطوح اليومي، وكأنه يعيش بالفعل في جحيم الوقائع اليومية التي يكتب عنها.
وهذا دليل على أن الكاتب لم يفقد اتصاله مع الواقع واليومي والجاري ليل نهار، مستقيا مادته وشخوصه ولحمة حكاياته من الواقع المغربي المتشابك، البسيط في النظرة الأولى، والمتعاقد مع أجندات في محيطه الأوربي أو في انتمائه العربي والإسلامي في النظرة العميقة.
لقد أثار هذا «الإجهاز» على الواقع المغربي نعوتا كثيرة في حق الكاتب المغربي صاحب الغونكور، وحصد بنجلون حصيلة وفيرة من الهجوم «النقدي» أدناه اتهام الكاتب ب«المتاجرة» في آلام المغاربة، والسطو على قضايا أصبح، بين عشية وضحاها، هو نصيرها والمدافع عنها، كما حدث مع قضية الاعتقال السياسي وسنوات الرصاص والمعتقلات السرية، حيث وفي عمق النقاش السياسي والاجتماعي حول الظاهرة، انقض بنجلون، كما يقول منتقدوه، على الموضوع، وخرج برواية «تلك العتمة الباهرة» دون أن تكون له الجرأة على إثارة الموضوع نفسه في الوقت الذي كان فيه الرجل يقيم في باريس بينما أصدقاؤه يقضون زهرة شبابهم في معتقلات سرية وفي ظروف قاسية للغاية.
من الأكيد تماما أن لا أحد له الحق في ادعاء الملكية الخاصة للواقع ولا لأحداثه، لأن الواقع فوق الجميع ولا أحد يمكن أن يدعي أن مادة الواقع محفوظة لديه في «الشهر العقاري».
في الترجمة العربية لرواية «أن ترحل»، يكتب الطاهر بنجلون روايته بقصدية بالغة وينسجها على مناول كثيرة، وإذا كانت البنية الحكائية للرواية خطية وخالية تماما من أي تهويم تجريبي، بل مرتبة ومقسمة إلى مقاطع سردية على شاكلة الروايات البالزاكية، فهي تشبهها على أكثر من مستوى، ظاهريا على المستوى الشكلي وفي الجانب الكمي. إنها رواية ذات نفس طويل عالية الإيقاع، محبوكة ومتعاضدة. وبتبويب دقيق أشبه باللوحات المسرحية، يقدم الكاتب الفعلي شخوصه الروائية، يربط ما بينها، ويشتتها في الفضاء الروائي، ويؤسس لخطاب متعارض، شخصيات خيرة وأخرى شريرة، شخصيات لا لها ولا عليها، وأسماء وصور وعالم مليء بالجثث وفي حاجة إلى مخلصين، حتى وإن كانوا «كذابين»، في حاجة إلى ملاحين مهرة يعبرون به من طنجة إلى الضفة الأخرى للمتوسط.
هذا هو العالم الروائي الذي يغطس فيه الطاهر بنجلون، لا يكتبه من منطلق التجربة الشخصية ولا من المعايشة اليومية، ولكن من منطلق المتابعة، فالذين عاشوا متربصين في قوارب مهترئة يحلمون بالانتقال إلى الضفة الأخرى، مسرنمين بالكيف والحشيش والأحلام، لم يكن لهم الوقت لكي يكتبوا مذكراتهم أو يومياتهم، كانوا مشغولين بشيء آخر، اسمه البحث عن أرض صلبة كي يستقر فيها الحلم ويبيض ويفرخ، لا البقاء طوال الوقت على طوف ماء مهزوز، تجرجره الرياح والماء الرجراج، ويتصيده خفر السواحل في الجهة الأخرى من المحيط.
أحسن من يكتب ذلك هو روائي مدرب، له الحنكة الكافية والخيال الضروري والعصا السحرية التي تحول المعادن إلى ذهب. ولعل الطاهر بنجلون قد فعل هذا بموهبته التي جعلته ضلعا أساسيا في الأدب الفرانكفوني إلى جانب الأسماء الكبيرة الأخرى.
لكن ميزته هي هذه المواكبة لليومي وللجاري في الزمان والتي تجعله، لا يخشى من تحولات اليومي ولا من مخاطر الاقتراب منه ولا يقول: فلأنتظر حتى تنضج الظروف. وحين يفعل ذلك يكون قد أعد العدة كاملة. السياق الثقافي والاجتماعي المساعد، حركة المجتمع المدني، النقاش العلني حول الظاهرة، المتابعات الصحافية اليومية، الرأي العام المنشغل سلبا وإيجابا بالظاهرة..
بمعنى آخر، إنه يواقت رواياته، ويهيىء لها بخرجة كبيرة في الإعلام المرئي والمسموع والمكتوب، وفي الأعمدة التي يكتبها في الصحافة الفرنسية.. وهو، علاوة على ذلك، رجل يحب أن يكون مصحوبا دوما بضجة إعلامية، كما أنه «يتصدى» إلى أفكاره بالشرح والتحليل ويهيىء لها خلفية نظرية وقاعدة تقوم عليها، مثلما حدث مع قضية الحجاب، حيث تحرك على كل الجبهات، وتوج الأمر بإصدار كتاب في الموضوع أو ما حدث مع ملف تازمامارت حين رأى أنه خارج السياق، فما كان منه إلا أن انقض على الموضوع بعمل روائي قيل عنه إنه شوه الكثير من الحقائق وأساء إلى مرحلة وإلى «ثمن» كان هو خارج أداء فاتورته الباهظة.
تلك هي الضجة التي ترافق كاتبا كبيرا وعلى درجة من الأهمية، ترامته النعوت حتى وصفته ب«الدجال»، لكن الحقيقة هي غير ذلك، ففي عمله «أن ترحل» الصادر سنة 2005 والذي ترجمه بسام حجار سنة 2007، فتنة الكتابة وظلال كاتب يعرف من أين «تؤكل» أكتاف السرد ومن أي جهة يشتق السرد، ففي الوقت الذي كان فيه موضوع ما سمي ب«قوارب الموت» موضوع الساعة، وفي الوقت الذي كانت فيه قوافل الجثامين تعود إلى الوطن خائبة الأحلام ومنهوشة العيون، وفي ظل خطابات سياسية واجتماعية متضاربة حول الأسباب المباشرة وغير المباشرة التي أدت على طفوح هذه الظاهرة، في ظل كل هذا الجو القاتم والسوداوي، يخرج بنجلون من «مخبئه» الباريسي ويأتي إلى طنجة كي يكتب رواية أشبه بالتحقيق الصحافي، حافلة بخطابات متضاربة، ومأهولة بشخوص من الزمن المغربي الجديد، زمن المافيات والقوادين والحشاشين والمهربين والزعماء والورعين والمتشددين والأصوليين أصحاب الفكر الجهادي والتكفيريين والمعتدلين والحالمين والواقعيين والمحشورين في مخابئ سرية إلى أن يحين وقت تهريبهم ليلا على متن مراكب مطاطية في رحلة هي رحلة الموت والحياة، رحلة اليأس والأمل، رحلة المخاطرة الأخيرة إلى حيث ينتهي الجحيم ويبدأ الفردوس.
كل هذا يتم من طنجة، المدينة الكوسموبوليتانية، المدينة الغول، التي بدأت تفقد إنسانيتها، وتتحول إلى وحش كبير وكاسر، المدينة التي أحبها الكتاب وتاه في غرامها المحبون من كل بقاع الأرض، المدينة التي تتفسخ الآن وتدمع فيها العيون وتكبو فيها الأحلام المؤجلة إلى حين.
لا يفرط بنجلون في لغته المكثفة ولا في النوافذ الشعرية التي تزين روايته «الواقعية جدا» إلى حدود الفانتازيا، إنه يرمي بعيدا بمجاديف الجمال، ويحول تلك الرغبة الجارفة في الرحيل وفي ركوب السفينة إلى لحظة قيامية جديدة، لحظة ما بعد الطوفان، الكل يحج من فجاج الأرض كي يستقل سفينة عملاقة اسمها «توتيا»، سفينة عليها قبطان بملامح نحيلة تعود إلى القرون الغابرة.
تلك هي قدرة الطاهر بنجلون السحرية التي لا تخفى.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.