هذه العبارات فيها إشارات مهمة جدا، فالله سبحانه لم يقل نحن نميتكم بل قال قدرنا بينكم الموت، وقدرنا بينكم ليس كأمتناكم، فقدرنا بمعنى أنه بقدر، بموعد وبأجل، والله سبحانه قدر الموت بكل أنواعه فهناك موت يأتي بعد نهاية الطاقة الحيوية في كل إنسان. وهذا النوع من الموت قد يصل على أكبر تقدير إلى 140 سنة، في حين أن هناك حيوانات قد تعيش ربما مئات السنوات كالديناصورات مثلا. إذا فقدرة الحياة أو مادة الحياة في الكائنات مادة مقدرة، فالفرس مثلا يعيش من 20 إلى 30 سنة. بينما تعيش السلحفاة مدة أطول، فكل كائن له مدى ينتهي إليه، أي أن مادة قوة الحياة مقدرة بين الكائنات كلها. فشاء الله تعالى أن تكون قوة الحياة بالنسبة للإنسان محينة في سن معين حتى لا يشغل هذا الكائن الأرض أكثر من اللازم، بمعنى لو كان الناس يعيشون ثلاثمئة سنة أو أربعمئة سنة لكثر عددهم، ووقع إشكال كبير في حياتهم. نحن الآن أين نسكن؟ طبعا في مساكن الذين توفوا، نحن الآن نعمر أرضا سبقنا إليها أناس شغلوها، وسنشغل أماكن ويأتي آخرون ليشغلوها، فالأرض يتداول عليها الإنسان، وذلك بوفاة أجيال وميلاد آخرين، لأن نسبة هذه الكثافة الموجودة الآن هي راجعة إلى مقدار الحياة الذي أوعده الله في الإنسان. أي طاقة الحياة وقدرة الحياة وهي التي يسمبها علماؤنا الموت الفترائي بمعنى أن هناك فترة يأتي فيها الموت. كما يرون أن هناك موت آخر يسمى الموت الاغتراري. وهو يعني أن قوة الحياة في الإنسان هي كذا، لكن قد يصاب بمرض في الكبد ويموت في الثلاثين أو الأربعين، أو قد تحدث له حادثة سير، أو قد يعم الطاعون فيأتي على الصغير والكبير، فهذه آجال يقدرها الله تعالى بسبب هذه الظواهر، ويكون الموت حينئذ موتا اغتراريا كما يسمونه، وهو في مقابل الموت الافترائي. إذن، فالموت الفترائي الذي هو الأمد الأقصى لحياة الجسد قدره الله تعالى. والموت الاغتراري الذي يلحق الإنسان قبل ذلك الأجل هو أيضا قدره الله تعالى، فالله تعالى يقدر الأجلين معا. ويعني قول الله تعالى (ونحن قدرنا بينكم الموت) أن البشر مجموعون وينتظرون متى يطلع لكل واحد منهم سهمه. وصورته نحن الآن نعلم جميعا أننا ميتون بدون شك أو ريب. ولكننا ننتظر كما لو كنا ننتظر مالا يوزع علينا أو غنيمة توزع. والجميع يعلم أنه سينال شيئا. ولكن لا يدري أي واحد من هؤلاء متى يطلع سهمه متى ينادى عليه، ويذهب إلى المقبرة. فالكل مسجل في اللائحة وينتظر متى يطلع سهمه ويأخذ نصيبه، ويشبه هذا أن إنسانا في حالة وفاة قال: الناس بمثابة أناس حكم عليهم جميعا في محكمة بالإعدام، وفي كل يوم أو أسبوع بتم إعدام واحد أو أكثر. فالحكم وقع والتنفيذ منتظر، ولا يدري أي واحد منهم أينفذ فيه الحكم اليوم أو غدا. الله حكم على الجميع بالموت بقوله (كل نفس ذائقة الموت) ومعنى ذائقة، أنها تذوق الموت بآلامه وشدته. فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أثناء موته يقول (سبحان الله إن للموت لسكرات). إذا فالجميع يشمله هذا الحكم، لكن لا يدري أي واحد منا متى يلحقه نصيبه. لذا يجب على الجميع أن يكون دائما متأهبا وحقيبته حاضرة، ومستعدا أن يكون هو المطلوب غدا، لأن الذين ماتوا بالأمس لم يكونوا أبدا يتصورون أنفسهم أنهم ميتون بالأمس، وفيهم عدد كبير كان طويل الأمد وكان يرجو أن يعيش بعد ذلك أربعين أو خمسين سنة، وكأن الموت لا تصيب إلا الشيوخ الكبار. فالناس يموتون كبارا وصغارا. ذكورا وإناثا دون تمييز ولا استثناء في قوله تعالى: (نحن قدرنا بينكم الموت) شيء يشير إلى أن الناس ينتظرون الموت كمن ينتظر غنيمة. والموت ليس شر كله، نعم الموت قد ترفضه النفس وتأباه. ولكنه ليس دائما بالنحو الذي يراه الناس، لأن الموت قد يكون مصدر سعادة للكثير من الناس. قد يكون الموت سبيلا ليتخلص الكثير من الناس من ألام الجسد، فهناك من يمرض مرضا يصعب علاجه، وهناك من يصيبه الهرم والعجز، ويضعف سمعه وبصره، ويتألم جسده، ويحدث له في جسمه ضرر، فيعيش الإنسان على أساس أنه كتلة من لحم متألمة. ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو الله أن يبقى سمعه وبصره ويجعله الوارث منا، بمعنى نموت ونحن نسمع، نموت ونحن نرى، أي أن آخر ما ينطفئ من حياتنا هو السمع والبصر، فحينئذ تكون هذه الملكات هي الوارثة منا وفي هذه الحالة يمكن أن ننظر للموت على هذا الأساس أنها شيء مثل القسمة، قسمة نصيبها وحالة سعادة ننتظرها. ففي حالات كثيرة يتمنى الإنسان الموت، لكن الشرع يمنع تمني الموت ولا يشجع على ذلك، إلا إذا كان من أجل الدين، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنه في آخر الزمان يمر الإنسان بقبر فيتمنى لو كان مكانه، لا لأنه سئم الحياة، ولكن لأنه لم يعد يجد فيها شروط الحياة، حيث تكثر فيها المعاصي وتقل فيها الطاعات. ثم إن الموت هو سبيل الحياة الباقية، وهو وسيلة لينعم الأتقياء بالجنة، حينما ينظر الأتقياء والعباد الصالحون للموت، فهو عندهم وسيلة للوصول إلى العالم الآخر، وهو في نظرهم حاجز يحجزهم عن نعيم الجنة، لذلك نجدهم يتشوقون لما بعد الموت. فلما قالت بنت بلال: واكرباه. قال: بل واطرباه، لا فرارا من الحياة ولكن كما قال: اليوم ألقى الأحبة محمد وصحبه. فهو عنده طرب، لأنه سيلتقي بالنبي صلى الله عليه وسلم والصحابة الكرام، لذلك فهو مستعجل، وجاء كذلك في حديث الجنازة أنه يجب الإسراع بها حتى إذا كانت جنازة صالح فهو خير تقدمونه إليه، فهو يستعجل ليكون في روضة من رياض الجنة، وإذا كانت جنازة شقي فهي شر يجب أن نضعه عن أعناقنا. إذا فالموت ليس شرا بهذا المعنى، فهي انفتاح على عالم آخر نعم قد لا يقبله الناس كما لا يقبل الطفل الصغير خروجه إلى الدنيا، وربما ينزعج حينما يخرج من رحم أمه ويتألم، لذلك فهو يصرخ عند خروجه إلى الدنيا، لكنه بعد ذلك يكتشف أن الحياة هي أوسع وأرحب وأجمل من حياته محصورا داخل كيس في رحم أمه. إذا هذا الذي يفيده قول الله تعالى: (نحن قدرنا بينكم الموت) فالموت ليس عشوائيا. بل هو مقدر، وقدرالله لا يرد، الموت يقدر بين الناس ويوزع بينهم، وقد يكون مثل النعمة التي ينتظر الناس متى يصيبهم نصيب منها خصوصا إذا كانوا قد استعدوا لذلك كما ينبغي. فالله تعالى يقول نحن خلقناكم وقدرنا بينكم الموت فالله كما خلق الحياة قد خلق شيئا آخر وهو الموت، وهو إنماء وجود هذا الإنسان الجسدي فيكون الله تعالى قد أعطى الدليل على القدرة مرتين: قدرته على الخلق وقدرته على الإماتة. وإذا تساءلنا عن ماهية البعث، فهو لا يخرج عن أحد هاتين العمليتين إحياء أو إماتة، وهو بطبيعة الحال عبارة عن إحياء مجدد، أي تكرير للعملية الأولى التي تم وقوعها. فالله هو الذي أحيا والله الذي أمات لا يسأل هل يستطيع أن يبعث الأجساد وقد خلقها أول مرة. فمن خلال الإحياء والإماتة نكتشف أن قدرة الله بالغة، فالله تعالى يقدر الموت، ومعنى يقدر الموت أنه له علما، لأن المقدر لابد أن يكون عالما، ويقدر الموت بمعنى أن له قدرة. ويقدر الموت بمعنى أنه مريد لابد له من إرادة. فصفات العلم والقدرة والإرادة كامنة في قوله تعالى (قدرنا) فالتقدير علم، والتقدير هو كذلك إرادة، أراد الله أن يقدر فقدر، ثم إذا هو قدر قدر، بمعنى أنه ينفذ ذلك ولا يعجزه شيء من ذلك، ولا يحول شيء دون إنفاذ إرادته. وهذا هو معنى قول الله تعالى (نحن قدرنا بينكم الموت وما نحن بمسبوقين) والمهم هو أن الله تعالى رد ردا قويا ومعقولا، على الذين استبعدوا البعث. لأن الشك في البعث واضطراب عقيدة البعث فيه انهيار جميع القيم، كل هذا الفساد الذي يقع في الكون سببه عدم الإيمان بالبعث. فلما لا يؤمن الإنسان بأن هناك بعث، فهو يدعي الحرية مطلقا، نعم أنا حر لو لم يكن البعث، أنا أفعل في نفسي ما أشاء لو لم يكن البعث. إذا فالإنسان ليس حرا مطلقا، فأنت حر بمقدار ما تستجيب لأمر الله، فلذلك غياب عقيدة البعث الآن أو ضمورها أو تشكك الناس فيها، فتح الناس على كل وجوه الشر. فلا يعتقد بالبعث من يقطع الطريق، ولا يعتقد بالبعث من يسرق، ولا يعتقد بالبعث من يجهز على نفوس الناس، ولا يعتقد بالبعث من يعمل على تدمير البشرية. فلو كان هؤلاء يعتقدون أن هنالك بعثا وجزاءا لكان مصير العالم مصيرا آخر، بمعنى أن الفكرة المركزية والجوهرية في العقيدة الإسلامية بعد توحيد الله تعالى هو اعتقاد البعث واعتقاد الجزاء، وحينئذ بتصرف الإنسان وفق هذا الاعتقاد. أعده للنشر: عبد المجيد بنهشوم في الأسبوع القادم مع محاضرات الدكتور مصطفى بنحمزة