مخاوف الاستنساخ وحقائق النشأة الأخرى تحدث الدكتور مصطفى بن حمزة في الحلقة الماضية عن أجل الانسان الذي هو إما افترائي، بمعني أن الإنسان يموت عندما تنتهي طاقة الحياة فيه، وإما اغتراري، وهذا يموت قبل انتهاء هذه الطاقة لسبب عارض إما مرض أو حادثة سير أو غير ذلك، وأشار إلى أن كل من الأجلين هو قدر من الله لا يستقدم ساعة ولا يستأخر. وفي هذه الحلقة يعرض إعادة الخلق من جديد وأن الله ليس مغلوبا ولا مقهورا على ذلك. قال تعالى: (نحن قدرنا بينكم الموت وما نحن بمسبوقين على أن نبدل أمثالكم وننشئكم في ما لا تعلمون). الله سبحانه قدر الموت بمعنى أنه جعل نهاية الحياة الأولى للإنسان محددة بأجل، وهذا الأجل الأول ليس نهاية وليس عدما وإنما هو نقلة وارتحال من الحياة الدنيا إلى الحياة الأخرى. وقوله تعالى: (قدرنا بينكم الموت) فيه إشارة إلى أن الموت يطوف بين الناس ويتردد بينهم، ولا يدري أحد متى يصيبه أجله ومتى يحين وقته، فالموت دائر بين الناس، ولابد أن يلحق الجميع، لكن أي واحد منا لا يعرف متى سيموت. وهذا لا يعني أبدا أن الموت عشوائيا ولا اعتباطيا وليس كما يقول الشاعر: رأيت المنايا خبط عشواء من تصب تمته ومن تخطئ يعمر فيهرم صاحب هذا القول لديه فهم قاصر. إذ يتصور الموت ليس إلا شيئا عشوائيا قد يصيب وقد يخطئ، بمعنى أنه من المحتمل أن يموت الإنسان أو لا يموت، وهذا الفكر يؤدي بالإنسان إلى التخوف من الموت. أما إذا كان يعلم بأن الموت بقدر وبأجل محدد، فإنه يدرك حينئذ أنه لن يموت قبل حلول أجله، كما أنه لا يمكن أن يولد قبل أن يحل أجله. وهذه الفكرة الأخيرة في حد ذاتها ساهمت في بناء الأمة ومن خلالها حققت الأمة الإسلامية كل الأمجاد، ودفعت بها لتخوض غمار الحياة، وذلك لما علمت بأن الإنسان لا يموت إلا إذا شاء الله له ذلك. وموته يكون قدر الله الذي لا مرد له، وهو لا يستقدم ساعة ولا يستأخر. ثم قال تعالى بعد ذلك (وما نحن بمسبوقين على أن نبدل أمثالكم وننشئكم في ما لا تعلمون). نلاحظ من خلال هذه الآية أن القرآن وهو خطاب الله وكلامه يقول للناس مخاطبا إياهم من موقع الألوهية (وما نحن بمسبوقين). والمسبوق في ظاهر اللغة هو من سبق في الجري أو العدو. فمن كان في حالة مبارة وتسابق مع غيره، ولم يحصل على المكانة الأولى سمي مسبوقا. والسباق دائما يؤدي إلى أن يأتي البعض متقدما والبعض الآخر يأتي متأخرا وهذا الذي يأتي في الأخير أو بعد الأول على الأقل ليس إلا إنسان غلب على التقدم. فلما يتبارى الناس ويتسابقون كل واحد منهم يريد أن يكون في مقدمة السباق وبالتالي يكون هو الغالب، لكن هذه الأمنية لا تتحقق إلا لمن كان أكثر قوة وأسرع عدوا وأكثر خفة، فيأتي الأول، ومن بعده يكون مسبوقا ومقهورا. فالمسبوق إذا مغلوب، واستعمال القرآن لهذه العبارة جار على استعمال العرب فيكون قوله تعالى: (وما نحن بمسبوقين) بمعنى وما نحن بمغلوبين. والمغلوب هو الذي يحال بينه وبين ما يشتهي يقال: غلب المرء على الشيء حيل بينه وبين ما يريد (والله غالب على أمره) بمعنى أنه يفعل ما يشاء وأنه ينفذ إرادته ولا يحول بينه وبينها شيء. وليس هناك من يقدر على تعطيل إرادته جلت قدرته. فالله تعالى يكون دائما هو الغالب وفي كل الأمور. فهو ليس مغلوبا ولا مقهورا على أن يبدل أمثالكم. إذا أراد ذلك سبحانه لتحقق بالتأكيد، ولا يحول بينه وبين إرادته شيء. في هذه الآية يخاطب الله تعالى المخلوقات ويقول لهم لسنا مغلوبين ولا ممنوعين على أن نبدل أمثال هؤلاء البشر الذين يجادلون ويماحكون في قدرة الله تعالى على إعادة الخلق مرة أخرى. وذلك بخلق ذوات أخرى وأجساد أخرى، ثم يزرع الله فيها أرواح الذين ماتوا وهلكوا. لأنه لو شاءت عناية الله تعالى أن يأخذ هذه الأرواح التي هي الآن في البرزخ وأجسادها انتهت واندثرت، ثم يخلق لهذه الأرواح أجسادا جديدة فإن ذلك من طبيعة الخلق الأول، كما خلق الله الأجساد لأول مرة، فالله تعالى لا يعجزه أن يخلق أجسادا جديدة ثم يقدف فيها تلك الأرواح، وفي الآية إشارة لكل إنسان يتساءل عن كيفية إعادة الخلق أي كيف يعيد الله هذه الأرواح إلى أجسادها ثم يحاسبها على أعمالها. بأن الله تعالى لو شاء أن يخلي الأجساد الأولى بالمرة. وينشيء أجسادا أخرى جديدة ثم يقذف فيها تلك الأرواح التي هي الآن في عالم البرزخ، فإن هذا ليس ممتنعا ولا مستحيلا في حقه سبحانه وتعالى. أي لو شاء الله تعالى هذا الأمر لأمكن وهذا ليس بمعنى تناسخ الأرواح. لو عجز الإنسان عن إدراك أن الله يحيي الجسد الأول ويعيده هيئته الأولى. فهل يعجز عن إدراك هذا الأمر الثاني، وهو أن الله قادر على أن ينشيء أجسادا جديدة لتلك الأرواح وتركب فيها. فهذا الأمر لا يستعظمه حتى الكافر، فهو يقول بأن الله خلق الأجساد وهو يخلقها دائما. إذا فلما لا يخلق الله لهذه الأرواح أجسادا جديدة فتستأنف الحياة. قوله تعالى: (وما نحن بمسبوقين) فيه تهديد لأولئك الذين ينكرون قدرة الله تعالى على إعادة الخلق مرة أخرى، ويقول لهم بأن الله قادر على أن يزيل هؤلاء البشر ويمحوهم محوا. ويخلق بشرا آخر يطيعون ولا يعصون ويوحدون ولا يشركون. فالآية لها معنى خلق أجساد جديدة لتلك الأرواح التي في عالم الغيب. كما أنها تعني أيضا أن الله يستأصل هؤلاء البشر ويأتي بآخرين إن يشأ يذهبكم ويأتي بخلق جديد وقوله فسيأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه، أي إذا كنتم غير قادرين على عبادة الله وتوحيده فإن الله قادر على أن يستأصلكم ويزيلكم من الأرض ويخلق أناسا آخرين كما خلق الله الملائكة يطيعون ولا يعصون ويوحدون ولا يشركون. وقوله تعالى: وننشئكم في ما لا تعلمون يعني أن الله إذا شاءت إرادته أن يبدل هؤلاء البشر بخلق جديد، فإنه سبحانه وتعالى ينشئهم فيما لا نعلم. أي في هيئات أخرى في كيفيات أخرى. لو شاء الله تعالى أن يخلق هذا البشر في هيئة أخرى وفي نمط آخر. فمن الذي يمنعه من ذلك؟ فالله قادر على خلق الإنسان بطينة أخرى ونمط آخر. الآن نجد بعض الكتاب والمسرحيين يكتبون قصصا ومسرحيات وأفلاما من الخيال العلمي، تصور الإنسان غير الإنسان الذي نعرف. فقد تصور لنا إنسانا طائرا أو إنسانا له إشعاع خاص يهدم به ويدمر. أو إنسانا شفافا تكشف خباياه ونواياه. وهي كلها احتمالات وافتراضات بوجود إنسان آخر. الآن حينما نتحدث عن الاستنساخ فهو نشأة جديدة فيما لا نعلم. بالتأكيد، الكثير من الناس يتصورون أن وجود الإنسان المستنسخ شيء كارثي، بمعنى أن هذا الإنسان الذي يستنسخ منه أفراد مثله يحملون كل خصائصه. سيؤدي في نهاية المطاف إلى ارتباك كبير جدا في حياة البشر. والاستنساخ الآن لم يعد احتمالا بل أصبح واقعا، الحيوانات المستنسخة معروفة وموجودة، وأصبحت حقيقة وليست خيالا، وهذه الحيوانات لم يكن للإنسان اعتقاد بإمكان وجودها يوما ما. ينبغي أن نتساءل لما يصبح الإنسان المستنسخ حقيقة في عالم البشر. كيف يكون هذا المستنسخ؟ كيف تكون علاقته مع المستنسخ منه. ماهي العلاقة التي تربط بينهما؟ هل هو أب له أم هو أم له؟ ماهي العلاقة التي تكون بين المستنسخين؟ كيف نستطيع أن نميز هذا من ذاك حينما تتوحد بينهم الجينات وكل الأشياء؟ لهذا كله يتوقع بعض الناس أن شيئا مرعبا سيقع في حياة الإنسان وذلك لما يأتي هذا الإنسان المستنسخ. ونحن نعلم أن كثيرا من العلماء الفوضويين الذين لا يهمهم مصير العالم، والمحافظة على نمط الحياة، يجرون عدة تجارب من أجل استنساخ الإنسان. مع العلم أن هناك مجموعة من المؤسسات تعمل على محاربتها. فالمؤسسات الدينية والقيمين على الأخلاق في العالم يناهضون عملية الإستنساخ لأنهم يتخوفون منها ومن عواقبها. لكن هل دائما ستمضي الحياة بدون استنساخ، ألا يوجد الآن من يعمل على استنساخ البشر. فهم الآن يريدون أن يجعلوا من الإنسان قطاع غيار، أي تكون فيه أجهزة وأدوات تعطى لمن هو في حاجة إليها. إذا كان بعض العلماء يلتزم بحدود الأخلاق، فليسوا جميعهم، ولسنا مطمئنين بأن الاستنساخ لن يقع. بل قد يقع، واليهود يمضون في هذا الاتجاه، وذلك من أجل أن يحدثوا فوضى علمية. إذا هذا خلق فيما لا يعلمه الإنسان، ولم يكن يخطر لنا على بال، والآن نراه حقيقة موجودة. وهذا هو معنى قول الله تعالى: (وننشئكم في ما لا تعلمون) أي في الكيفية والصورة التي لا تعلمونها. نحن الآن نتحقق من أن الإنسان يمكن أن ينشأ نشأة أخرى ليس لها صلة بهذا الإنسان. كما أن هذا الإنسان له نشأة ربما مخالفة نوعا ما للإنسان الأول. لما تحدث علماؤنا عن آدم كانوا يتساءلون هل هو أخير الأيدمة على الأرض أو أن أربعين آدما مر على الأرض وأجناس بشرية مرت. وبعضهم قال بهذا وبعضهم يقول بأن آدم هو الذي أخذت منه الملائكة ذلك الجواب (أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك...) الملائكة لما قالت هذا الكلام في رأي بعض العلماء، ذلك أنها عاشت ما عاشه الإنسان ووقع لها ما وقع للإنسان، وهي مركبة تركيب فيه عنصر بشري أرضي وعنصر ملائكي، وكان هناك دائما اختلاف وتجاذب بين ماهو ملائكي وماهو إنساني. والإنسان دائما يحاول أن يستعلي على ماهو أرضي، وفي بعض المرات ينزل إلى ماهو أرضي فتقع المعصية. وهذا الموضوع قد أثير قديما في كتب قصص الأنبياء، مع أن أغلب ما فيها ليس صحيحا، ومن أحسن ما كتب في هذا المجال ما كتبه الشيخ عبد الوهاب النجار وهو من علماء الأزهر. كما أثار كتاب عبد الصبور شاهين أبي آدم خلافا كبيرا، هل آدم هو أول من خلق أم أن هناك قبله مخلوقات بشرية. المهم عندنا هو أن هذا الإنسان ليس هو الطبعة الوحيدة النهائية بل إن الله يمكن أن يخلق الإنسان خلقا آخر. ويمكن أن يخلق جسدا آخر ويزرع فيه الروح. ويمكن أن يستأصل هذا الإنسان ويأتي بآخر. لذلك قيل بأن هذه الآية تستعرض كل إمكانات الخلق، بمعنى أنك إذا كنت قد وجدت على هذا النحو من الخلق، فليس ذلك هو الأمر النهائي في قدرة الله، وإنما لأن إرادة الله شاءت أن تكون على هذا النمط، لكن إذا شاء الله تعالى أن يخلق إنسانا أطول أو أذكى أو أضخم أو له خصائص معينة مما يتخيله العلم المعاصر لكان ذلك ممكنا. الخيال العلمي يصور لنا الإنسان بإمكانات وصور متعددة، ولو شاء الله ذلك لكان، بل وأكثر منه بكثير مما يدركه الخيال العلمي ومما لا يدركه وهذا هو معنى قوله تعالى (وننشئكم فيما لا تعلمون). إذا فكل هذه الصور والكيفيات واردة وممكنة، والله تعالى قادر على أن يخلق الإنسان بطرق متعددة، وإذا كنا قد وقفنا على حالة واحدة من حالات الخلق وهي خلق الإنسان من مني بالصورة التي عليها الآن، فهذا لا يعني أبدا أنها وحدها الممكنة في علم الله تعالى. الله تعالى له طرق وإمكانات كثيرة في الخلق، وإذا أراد سبحانه شيئا منها لا يسبق أي لا يغلب ولا يحول بينه وبين إرادته شيء. أعدها للنشر : عبد المجيد بنهشوم