ياصديقي لن يصب النيل في الفولغا و لا الكونغو و لا الأردن في نهر الفرات كل نهر و له نبع و مجرى و حياة ياصديقي أرضنا ليست بعاقر كل أرض و لها ميلادها و كل فجر و له موعد ثائر *محمود درويش*
تمخضت الانتخابات كآخر طلقة في مسلسل يراد له أن يكون إصلاحيا و أن يوصل المغرب إلى غاياته من دون تضحيات جسام ، فما الذي أنجبته ؟ إن ما يولد من رحم الانتخابات هو تماما ، من جهة الشبه ،كالذي تنجبه الأرحام الحقيقية للأمهات ، فكما يتضرع الآباء ألا يعاقبهم الله بذريتهم ،كذلك يرجو الناخبون ألا تنسل من صناديق أصواتهم يد تقبض على آ خر رمق في آمالهم و تطلعاتهم .قد يرى البعض أن الفرق كامن في الأمد الزمني ،لكن كم من قرارات اتخذت في ولاية حكومية محدودة زمنيا ،فظلت آثارها سارية لعشرات السنين ،إما في شكل سرطان فتاك ،أو على صورة براعم تزهر و تثمير على مهل . لهذا السبب يتطلع الناخبون ألا يكون المستقبل مدعاة للندم على الثقة التي وضعوها في من اختاروا، و ألا تكون فترة الولاية الحكومية فترة حسرة بالتقسيط و تبخر تدريجي للوعود التي أثارت آمالهم.و في حالة نتيجة الانتخابات الحالية ،ألا ترتكس العدالة و التنمية القهقري إلى مسلسل سلوكيات يصنع "المشترك بين كل الفاعلين السياسيين و الحزبيين في المغرب " باعتباره حصيلة "خلطة كيميائية عجيبة " اسمها "مغربة الممارسة السياسية" ، وهي خلطة فتاكة ، بحيث لا تنفع أمام مفعولها القوي لا عقاقير إيديولوجية و لا أمصال مبدئية ، مهما كانت السوق التي استعيرت منها ،يمنية أو يسارية ،تقدمية أو محافظة، و العرض المرضي البارز لهذه "الخلطة العجيبة " هو أن الفاعل الحزبي ،يغير ما كان يحمله من خطابات و يروج لها و هو في المعارضة بمجرد ما يضعه أهل السفينة أمام دفة التدبير و التسيير ،إلى درجة تصل أحيانا حد التنافي . و إن كان التاريخ المغربي السياسي المعاصر قد أثبت بما لا يدع مجالا للشك انهزام " الأحزاب الإدارية " أمام هذه "الخلطة و مفعولها " – مع أن حالتها لا يعتد بها لأنها أصلا مصابة بداء فقدان المناعة المبدئية – كما انهزم أمام ضراوتها من كان يفترض فيه تمثيل التوجه الاشتراكي في البلد ،بالرغم مما كان يتباهى به من قوة مناعية ، و ها هو الدور قد جاء على العدالة و التنمية ،كممثل للموجة الإسلامية ،فهل ستلقى ذات المصير ، أم أنها ستخلق الانعطافة ؟؟ إن السنوات المقبلة هي الكفيلة بالإجابة عن هذا السؤال ، باعتبارها سنوات ولوجهم لقاعة "الفحص و الجس "و فيها سيتم تسليط أشعة استبار لقياس مدى حملهم ل" جين المناعة "الكفيل بمواجهة هذه " الخلطة الكيميائية "،و هل قوتها تتجاوز قدرة ما تزودوا به من أمصال مناعية ، و إن كان السياق الذي يحف بولوجهم قد يسهم نوعا ما في التقليل من مناعتهم ،لأن "المصباح الإسلامي "سيلج ردهات ملؤها الظلمات و الدياجير ،و الكثير من الكوابح و و غير قليل من الحفر ما ظهر منها و ما بطن ، و عيون الخصوم عليهم قبل الحلفاء ، و كل هذا في سياق اقتصادي عالمي و محلي غير باعث على الراحة و ، و لا هو بالمقاسات التي تشتهيها سفينة المصباح . هذا حتى و إن كانت تحولات المحيط، بما أفرزته من بروز فاعلين جدد، تبدو في صالح فاعلي هذا الحزب، ما داموا يتقاسمون و إياهم ذات المبادئ و الشعارات ،فإن هذا الشرط المعزز يبقى في غاية الضآلة مع حجم الشرط الأول الباعث على الارتياب . *** ***
كان المغرب في أواخر التسعينات من القرن الماضي مهددا ب" السكتة القلبية ،فكان ما كان ، و قرر الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية الولوج عبر بوابة التناوب لتأمين استمرارية النبض ل" القلب المغربي " ، فأنعش إيقاع النبض بعد ها ، لكن ذلك أورت جسد الاتحاد الكثير من الشلل ، فتفرقت "قواه الشعبية "مللا و نحلا ، و غنى كل واحد على ليلاه ،فما بقي لهم جميعا إلا التغني بأمجاد النضال في سالف الأيام ،هروبا من حاضر يلجم ألسنتهم أمام الأنام .و ضرب زعماؤه الرحال فمنهم من"خيم " مؤسسا حزبا جديدا ،و منهم من ابتعد باحثا عن ضالته في أحزاب أخرى أنأى مبدئيا حتى من الجيران ! و ها هو حزب العدالة و التنمية يلج العتبة الفارقة ، و المغرب ليس بمعزل عن هبات الربيع العربي ، فهل يكون الدور المراد إسناده إلى العدالة و التنمية هو التخفيف من شدة مؤثرات الجوار ؟ و هل يمكن حصر دورهم في أنهم أفضل "حامل صوت " لإجادة التخاطب مع المحيط المغاربي ،خاصة و أن العلاقة بهذا المحيط تسهم بعمق في حلحلة قضية يتوقف عليها التماسك و الاستقرار الداخليين ؟ ذاك احتمال الزمن القادم وحده كفيل بالكشف عن مدى صحته ،و هو وحده الكفيل بكشف الحجاب عن النوايا ،و عما إذا كان حزب العدالة و التنمية سيعب من معين ذات المصير الذي منه ارتوى من سبقوه .و الأمل كل الأمل ألا ينطفئ "المصباح "في يد حامله ، و ألا ينضب معين زيته بمجرد الخطوات الأولى على بساط التسيير ، لأن التاريخ ،على الأقل في نسخته المغربية المعاصرة ، يظهر أن الفرق شاسع بين "أن تعارض " و بين "أن تسير " ، لكن للعدالة و التنمية من الأطر ما يسمح له بإيجاد معادلة تضمن الظفر بالعبور بين الضفتين بكامل السلاسة ، على الأقل لأنه أجاد تأتيت بيته الداخلي بزي الديمقراطية ، و عرف دون سائر الأحزاب المغربية كيف يصرف مقتضياتها ، بدلا من أن يتغنى بها ، كما يفعل الكثيرون ممن يرفعونها كشعار لتخطيء الآخرين و شيطنتهم ،و أصابعهم راسمة لعلامة الانتصار لها ،بينما تقف أقدامهم على جثتها ! تلك أسئلة نطرحها و لا أحد يملك الإجابة اليقينية عليها سوى المستقبل و صانعوه ممن هم في اللجة .مع أننا نتمنى لهذا الحزب النجاح ،لأن في نجاحه إعادة إيقاد لجذوة الثقة التي عانت ردحا غير يسير من الخمود بين جنبات النفس المغربية ، و في نجاحهم تجديد للنفس في جسد سياسي ترهل و اهترأ ، و مشهد حزبي صدئ.كما أن في محالفة النجاح لهم ،تحجيم للعدمية ، و تحفيز لغيرهم من الإسلاميين ممن لبثوا خارج دائرة اللعب على الدنو أكثر من قواعد اللعبة و الإسهام في تغييرها نحو الأفضل و في اتجاه المزيد من الكمال ،و المساهمة في إضاءة و لو القليل القليل من الشمع بدل الإنكفاء على الذات و الاكتفاء بلعن الظلام !! *** *** ***
لكن ما يلفت الانتباه عند المقارنة بين نسبة التصويت المسجلة في هذه الانتخابات و بين نظيرتها عند التصويت على الدستور الجديد نسجل فرقا يقارب 15% به تتجاوز النسبة الثانية النسبة الأولى ، فما الذي يؤشر عليه ذلك ؟ و هل نسبة هذا الفرق تمثل أولئك الذين هم مع تغيير الدستور و مع الشكل الذي انتهى إليه هذا التغيير ، أي أنهم يفضلون قواعد اللعبة و الإطار الذي سيتم فيه اللعب ،من دون أن يكون أي أحد ممن هم مرشحون للعب على قدر طموحهم و تطلعاتهم ، لذلك فضلوا أن يرابطوا في قاعة الانتظار إلى أن يجود الدهر بمن يحمل ملامحا من الفارس الذي يستبد بأحلامهم ، و إما أن الولاء هو الذي تحكم في التصويت ،أكثر مما تحكم فيه ما جاء به الدستور من مضامين ، وأن التصويت كان أولا و أخيرا من باب التأسي و الإقتداء ، أما أن تكون هذه النسبة قد انفتح صدرها للمقاطعة التي يدعوا إليها "الفبراريون" بعد أن كانت قد صوتت لصالح الدستور فهو من أكثر الاحتمالات استبعادا ، ليبقى الأكيد هو أن هذا الشعب يرقص على إيقاع "البين بين " و لا نقول ذلك من باب إصدار حكم القيمة ، بل من باب الإشارة إلى نبض التاريخ ،لأن التوتر و الغموض و الالتباس هي النوتات الأبرز في سمفونيات أزمنة التحول ،فهل المصباح كفيل بالتقليل من كثافة هذا التردد و الحيرة ؟ نعود للقول الأيام وحدها قمينة بالكشف عن ذلك ، لكن الأكيد هو أن لكل شعب تجربته و مساره الخاص به ،و الذي لا يمكن لأحد أن ينوب عنه في شقه و تعبيده و كما قال الراحل محمود درويش :
لن يصب النيل في الفولغا و لا الكونغو و لا الأردن في نهر الفرات كل نهر و له نبع و مجرى و حياة ياصديقي أرضنا ليست بعاقر كل أرض و لها ميلادها و كل فجر و له موعد ثائر.