طنجة ليست ملكا لأحد. ولا يملك أحد، مهما علا صوته أو تجذر نسبه أو تقادم مقامه، أن يحتكر الحديث باسمها أو يضع مفاتيح انتمائها في جيبه. هذه المدينة، التي كتبت فصولا من التاريخ بمداد التنوع، ليست قلعة سلالة مغلقة، ولا إرثا محفوظا في دفاتر الحالة المدنية. طنجة كانت، وما تزال، نقطة التقاء، وميناء أرواح، ومحطة لكل من ضاقت به الجهات الأربع. لا تسأل عن الأصل، ولا تحاسب على المسقط، بل تُحب بمن يقيم فيها ويحفظ لها الود، ويحرص على بهائها كما يحرص على شرف بيته. لكن كلما طفَت إلى السطح قضية أخلاقية أو حادثة تمس الذوق العام، ترتفع فجأة أصوات تبحث عن تفسير في الجغرافيا، فتتجه نحو فئة من ساكنة المدينة، وتلقي على عاتقها مسؤولية ما جرى، وكأن الخلل الأخلاقي لا يمكن أن يصدر إلا من خارج "النطاق الأصلي"، وكأن المدينة كانت فردوسا نقيا قبل أن تستقبل سائر أبناء الوطن. هذا الخطاب، الذي يتسلل إلى المجالس والمقاهي والتعليقات الافتراضية، ليس مجرد تنفيس عن الغضب، بل هو تعبير عن وهم بالتفوق، لا يجد له سندا في القيم، ولا في الواقع. إنه وهم يطمئن البعض إلى أنهم أفضل، فقط لأنهم جاؤوا قبل غيرهم، أو لأنهم يتحدثون بطريقة مغايرة، أو لأن أسماء أحيائهم أقدم. لكن الحقيقة التي لا ينبغي أن تُوارى خلف الانفعالات، هي أن الانحراف سلوك فردي، لا يُقاس بمكان الولادة، ولا يتغذى من اللهجة، بل من ضعف التربية، وشح الوعي، وتراخي المجتمع والمؤسسات في بناء القدوة. لا يوجد أصل مغربي مصون من الزلل، ولا منطقة تحصّن أبناءها من الخطأ. الطنجاوي الحقيقي، في جوهره، ليس من وُلد في حي المصلى أو تربى في مرشان. الطنجاوي، في المعنى الحضاري والإنساني، هو كل من أحب هذه المدينة حبّا صادقا، وذاب فيها كما يذوب العاشق في محبوبه، فصار يعتني بها في غيابه كما في حضوره، ويرى في نظافتها وأناقتها مرآةً لكرامته الشخصية. الطنجاوي قد يكون ابن المدينة، وقد يكون من أتى من أقصى الشرق أو الجنوب، لكنه حين يستقر فيها ويمنحها من قلبه وسلوكه وعقله، يصبح واحدا من ملحها وطرَفها. وطنجة، التي اختارت أن تكون بوابة المغرب على العالم، لا يمكن أن تُقفل بواباتها في وجه أبناء بلدها. لا يمكن أن تُصبح مدينة بطابع جهوي ضيق، ولا أن تنزلق إلى متاهة التصنيفات المرضية. فكما لا نقبل بأن يُعامل زائر أجنبي بازدراء على أرض المغرب، لا يليق بنا أن نُهين المغاربة أنفسهم لأنهم اختاروا الاستقرار في مدينة أحبّوها. وإذا كان لا بد من حزم، فليكن الحزم في مواجهة الظواهر نفسها، لا في تتبع أصول أصحابها. وإذا كانت لنا غيرة حقيقية على طنجة، فلنصبّها على منظومة التربية، على البنيات الثقافية المهترئة، على غياب القدوة، لا على أشكال الناس ولهجاتهم. إن أخطر ما يمكن أن يصيب مدينة مثل طنجة هو أن تُختزل هويتها في خطاب استعلائي يزعم الدفاع عنها بينما هو ينخر قيمها. فالمدينة التي نحبها ليست فقط مباني ومقاهي وأسوار، بل روح، والروح لا تعرف التمييز. دعوا طنجة للجميع. دعوها مغربية كما كانت، وعالمية كما تريد. دعوها تحتضن أبناء الجبال والسهول، الشماليين والجنوبيين، الأمازيغ والعرب، المسلمين وغير المسلمين. دعوها كما يحبها العشّاق: حرة، جميلة، وكريمة.