سبب كتابتي لهذا المقال ليس هو "الحب" في حد ذاته ككائن حي يحتاج للغذاء حتى يعيش ويكبر ويستمر ويتجدد، وليس هو في احتفال الغربيين (الكفار كما يحلوا للمتطرفين أن يسمونهم) به في الرابع عشر من كل فبراير، ولا في إظهارهم للعالم، كيف ينعكس تأثيره على نفوسهم بالسعادة والبهجة والإشراق والتفاؤل والانطلاق والتقدم في العمل والإنتاج، والنجاح في جميع مناحي حياتهم اليومية وعلاقاتهم في والبيت والعمل والشارع مع الأصدقاء والخصوم على حد سواء. بل إن الدافع الأساس في ذلك، هو نزوع الكثير من المتشددين الجدد –الذين يطرحون أنفسهم فضلاء مطهرين، إلى اعتبار الحب منقصة ومذمة وضعة ومذلة وفحش، وينسجون الفتاوى التي تُرَجّس كل شيء جميل في الوجود(أي تعتبره رجسا) فتحرم الحب وتمنع المسلمين من التحلي بهذه العاطفة الإنسانية التي عرفتها الثقافة العربية، قبل الإسلام وفي أثنائه وبعده، على أنها موضوع طبيعي، لا خطر في تناوله أو الحديث عنه من أيّ بعد. وإذا كان القرآن الكريم -وهو كتابٌ تعبديّ يتلوه لذلك الكبار والصغار- يحفل بمفردات الحب والإشارات الدالة عليه مباشرة أو مجازا، حين تحدث مثلا عن شغف امرأة العزيز {قَدْ شَغَفَهَا حُبّاً} [سورة يوسف/30. وإنه لم يمتنع عن أو يحذر -ولو مرة واحدة- من التصريح به ومفرداته والإعلان عنه، حتى خلا خلوا تاما -وكذلك الحديث الشريف- من أية إشارة تنبئ عن أنه من المحظورات، بل على العكس من ذلك أكدا -القرآن والحديث-على ضرورته بلا أدنى حرج اجتماعي أو ثقافي. ومع ذلك فلن أقحم نفسي – أثناء هذا التناول- في ما اعتاده المصابون بالكبت الجنسيّ المتأزّم، المهووسون بالقهر والمنع، من بوليميك عقيم لا ينتج لا فكرا ولا أدبا، كما أني لن أخوض في الحديث عن أشكال الحب التي اختلف البشر، عامتهم وخاصتهم، على ماهيته وأنواعه، وعجزوا عن تعريفه التعريف الاسمي، بالرغم من أنه ليس هناك خلاف بين الناس في أنه يمثل حالة خاصة من حالات النفس الإنسانية، ويعبر عن أقوى انفعالاتها المتفجرة، والتي رغم اعتقاد الجميع بأنهم يعرفونه، فإنه يصعب على الكثير منهم إيجاد تعريف أو تفسير صحيح لمفهومه أو معناه، حتى أنك إذا سألت أي شخص عنه، فلن تجد منه الإجابة الكاملة والواضحة. لذلك سأكتفي بالحديث عنه كأمتع وأرق المشاعر التي تصيب الإنسان، وأكثر التجارب التي تؤثر في نفسه تأثيراً عذبا، الأصل فيه الإباحة لا التحريم، كرابط طبيعي عجيب ينمي بذور العطف والخير والشفقة في النفوس، ويعفي الناس من التملق والنفاق، والضيق بالمخطئين، ليعيش الجميع في جو من التسامح والود والوئام الذي من المفترض أن يهيمن على أي علاقة إنسانية تجعل المرء شمعة تذوب كي يعيش الآخرون في تواد وتضامن وتعاون وتآزر وتعاضد، كغاية كقصوى نزلت من اجلها كل الديانات السماوية وعلى رأسها الإسلام الذي لا يوجد دين يحث أبناءه على التحابب والتواد والتآلف وإظهار العاطفة والحب، حتى أنه جعل الحب سبيلا مؤدية لدخول للجنة، والتظلل بظل الله تعالى يوم لا ظل إلا ظله، بدليل قوله صلى الله عليه وسلم: "والذي نفسي بيده لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، أولا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم أفشوا السلام بينكم" رواه مسلم، وقوله عليه الصلاة والسلام: "إذا أحب الرجل أخاه فليخبره أنه يحبه" رواه أبو داوود والترمذي وهو صحيح. وذلك لأن إظهار المشاعر الطيبة، والعواطف النبيلة، وإشاعة السلام والتواد والتكافل بين المؤمنين يحقق التماسك والاستقرار الاجتماعي كما جاء في القول: "مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالسهر والحمى". أما كتم المشاعر وقهرها، وعدم الإفصاح عنها بالتزام الصمت، فتؤدي لا محالة إلى ازدياد الجفوة، وتوسيع الفجوة بين الناس، وتُشعرهم بالإحباط والغموض، والتعالي، والتباعد، حتى وإن لم تكن مقصودة. فتصاب العلاقات بالصمت الزوجي"، أو "الطلاق الصامت"، أو"الطلاق العاطفي"، وغيرها من المسميات التي تتسبب فيها مثل تلك السلوكات المتزمتة التي يرفضها ويحاربها الدين الإسلامي الذي جاء ليؤكد ويرعى ويحافظ على الحب بين الناس عامة، وبين الرجل والمرأة خاصة، بل ويعظم كثيرا كل المشاعر النقية الخالصة في صورتها الأصلية الخالية من الزيف الذي يضيفه عليها البشر بأفعالهم وسلوكياتهم وتوجهاتهم المتشددة. ولنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم الأسوة الحسنة في الحب والتحبب، فبرغم كل أعباء الرسالة السماوية الجليلة فإنه كان لا يجد حرجا في أن يلاطف زوجته السيدة عائشة بل كان يضحك معها ويتودد إليها ولم يجد حرجا عندما سُئل عليه الصلاة والسلام: من أحبّ الناس إليك؟ في أن يقول: عائشة. وحين قيل: فمن الرجال؟ قال: أبوها. وقد جاء في صحيحي "البخاري ومسلم" ما يشهد ويؤكد على رعاية الإسلام ورسوله الكريم واحترامهما لمشاعر الحب، وأنه لا إجبار في الزواج.. ولا زواج بدون حب وألفة... حيث جاء في رواية "خنساء بنت خدام" أن أباها زوجها رجلا فكرهت ذلك وجاءت إلى النبي عليه الصلاة والسلام شاكية: إن أبي أنكحني أي زوّجني وإنّ عم ولدي أحن إليّ أي أنها ترى أن أخا زوجها سيكون أحنّ عليها وعلى أولادها.. ولربما كانت تحمل نحوه مشاعر طيبة إلا أن حياءها منعها من أن تبوح بذلك للرسول الكريم بشكل مباشر. فحَكم صلى الله عليه وسلم بألاّ تتزوج الرجل الذي اختاره أبوها لها وأن تطلق منه. وإذا كان لنا المثال والقدوة في رسولنا الكريم فلا نجد من بعده خيرا من أبي بكر رضي الله عنه مثالا ونموذجا نتبع خطاه في الحب ورقة المشاعر المتبادلة بين الرجل والمرأة والتي كانت حاضرة أيضا وبقوة في القصة التالية: كان أبو بكر رضي الله عنه يمشي في أحد طرق المدينة وسمع امرأة تنشد بألم وحرقة ويعلو صوتها بالبكاء.. وهي تطحن بالرحى قائلة: وهويته من قبل قطع تمائمي متمايساً مثل القضيب الناعم وكأن نور البدر سُنَّة وجهه ينمي ويصعد في ذؤابة هاشم رقّ لها قلب خليفة المسلمين، فدقّ عليها الباب.. ولما خرجت إليه قال لها: أحرة أنت أم مملوكة؟ فقالت: بل مملوكة يا خليفة رسول الله. فسألها عمن تغني وتنشد له: قالت: من هويت؟ فبكت ثم قالت: بحق الله عليك اتركني وشأني.. لكن أبا بكر، رضي الله عنه، ألح في طلبه وقال لها: لا أريم أو تعلميني، أي أنه لن يترك المكان حتى تخبره فقالت: وأنا التي لعب الغرام بقلبها فبكت لحب محمد بن القاسم فلما علم اسم الذي تهيم به ذهب إلى المسجد وبعث إلى مولاها فاشتراها منه ليعتقها.. ثم بعث إلى محمد بن القاسم بن جعفر بن أبي طالب وقال: هؤلاء فِتَنُ الرجال.. وكم مات بهن من كريم، وعطب عليهن من سليم. المرأة لم تخجل وباحت بحبها، في صدر الإسلام، وإن فعلت ذلك في إطار خلوق ومهذب ويتماشى مع المسموح. فلم ينهرها أبو بكر أو يعنفها، وإنما تقبل مشاعرها الرقيقة وسعى -بعد أن عتقها- إلى أن يزوجها بمن تحب ويحبها. هذا هو الإسلام، في زمن النبي وخلفائه الراشدين، زمن النقاء والصفاء.. وهذا هو الحب الذي عاش في ظلاله لم يُحارب ولم يُنكر ولم يُحرم، كما يدعي بعض المغالين المتشددين من عصرنا هذا، عصر الانحطاط والتقهقر والبعد عن حقيقة الإسلام وسنن رسوله التي شجع المحبين علي الإفصاح عن حقيقة مشاعرهم ودافع عن حق كل محب في الزواج من محبوبه بشرط أن يكون هذا الحب نقيا صافيا بعيدا عن الشهوات والتجاوزات مع ضرورة أن ينتهي بالنهاية الشرعية الزواج. كما فعل الرسول صلوات الله وسلامه عليه حين تزوج من السيدة خديجة بعد قصة حب مثالية وظل على وفائه لها ولم يتزوج عليها في حياتها.. وحتي بعد وفاتها ظل يذكرها دائما بالخير. فإذا كان الحديث عن في الإسلام لا ينضب، والتاريخ الإسلامي ممتلئ بالعشرات من قصص الحب، فإن الشعر العربي هو الآخر زاخر بالآلاف من قصائد العشق والهوى والهيام منذ زمن بعيد، حيث تغنى الشعراء بلواعج الصبابة وصوروا أشجان الذات وحكوا سيرة الوجدان منذ زمن المعلقات الذي لم يكن يتطرق فيه شاعر عربي إلى غرض من أغراضه إلا ووجد نفسه واقفا على أطلال الحبيبة معرجاً على الغزل إذا لم يكن مكتفياً به ومقتصراً عليه كمجنون ليلى قيس بن الملوح، وقيس بن ذريح صاحب لبنى وغيرهما كثير. حيث نجد في الشعراء الحسيين من عمر بن أبي ربيعة ومرورا بأبي نواس وأبي دلامة وغيرهم من العذريين أيام بني أمية-نسبة إلي قبيلة عذرة، التي اشتهرت بكثرة عشاقها المتيمين الصادقين في حبهم- الكثير من الشواهد المؤكدة على أن الإسلام لم يحتقر الحب أو حرمه، بل إنه احترمه كعاطفة إنسانية فطرية نبيلة وانزله المكانة العالية، بعد أن هذبه طبعا وحدد علاقة الناس به-الرجل والمرأة- في قوله تعالي : "وجعل بينكم مودة ورحمة" الروم21. بخلاف الطهرانيين الطارئين على الثقافة العربية الذين يسيطر عليهم الهاجس الجنسي سيطرة تعيقهم عن التفكير السديد والخلاق، الذين أحاطوا الحب، في العقود الأخيرة، بكثير من الرهبة والسرية، وربطوا بينه وبين الجنس والمرأة ربطا جعل منه عاطفة تنضح بالجنس والإغواء والفاحشة، وطاردوا لذلك المحبين، وحرموا كل بواعث الغرام، وجففوا منابع الود والاشتياق، وحرضوا على محاربته وتغييبه من اللغة والخطاب، وشجعوا على تعقيمه في الفنون والآداب، وناضلوا من اجل قتله في كل مجالات الحياة، لأنه، حسب اعتقادهم، باطل يدعو للعشقِ والهيام، وُيسوّقُ للإباحية وحب اللذة والشهوة المرتبطة بالجسد. الشيء الذي أبعد الدين عن خصائصه الأصلية، والتصاقه بالطبيعة، وانصياعه للفطرة البشرية، ما أفرز أجيالا مأزومة تحاول اختراق الحب الممنوع بكل الطرق الرعناء المشوهة والضارة، لأنه كما يقال: كلما ازداد الحذر والمنع، ازداد الهوس بالممنوع ليصبح حالة مرضية، وقاعدة "كل ممنوع مرغوب فيه" معروفة وثابتة. فما أحوجنا إذا نحن أردنا أن نحى حياة سعيدة مطمئنة، يتحقيق فيها التوازن العاطفي والنفسي والجسدي، وتزول منها الكراهية والتعالي والأثرة والتمييز والعنصرية، أن نستذكر قصص الحب عند الأولين وتجاربهم فيه، سواء منها الموغلة في القدم، أو الحديثة، لا فرق، للاستفادة منها، مادامت مشاعة للجميع وليست حكرا على أحد دون الآخر، لأنها عمل إنساني لا يحده حدود ولا تؤطره جغرافيا، ولذلك أمرنا رب العزة سبحانه وتعالى في محكم كتابه العزيز بالاعتبار حين قال عز وجل "فاعتبروا يا أولي الأبصار" وقال "لقد كان في قصصهم عبرة" لأن الاعتبار يوقف عجلة الصراعات العبثية التي لا طائل من ورائها، شريطة أن يكون ببصيرة وتبصر سليمين.. وأختم بقوله تعالى: عسى الله أن يجعل بينكم وبين الذين عاديتم منهم مودة، والله قدير والله غفور رحيم" الممتحنة. [email protected]