كلما شعرت بالفراغ ، ونازعتني الرغبة في الاختلاء بنفسي ، قصدت ساحة دار المخزن للجلوس منفردا بعيدا عن صخب الناس . أتطلع إلى تهدئة أعصابي وتحسين مزاجي . خلوة أجدد بها شحن طاقتي ، تمنحني شعورا بالحرية من قيود الحياة . من شرفة "كومندانسيا" المحاذية لبرج اليهودي ، وقفت مطلا على ضفاف نهر لوكوس مسافرا عبر الزمن ، مستحضرا زمن الفنيقيين ، الوطاسيين والسعديين ، وحضارات عديدة تعاقبت على هذا الوادي . هواء عليل يصعد إلى وجهي ، أنظر إلى حركة المراكب يحلق فوقها سرب أبيض من النوارس بمرسى المدينة ، لحت ببصري نحو أطلال ليكسوس القابعة فوق هضبة "الشميس" ، المدينة الأسطورة ! مدينة شامخة ضاربة في القدم تتنفس عبق التاريخ . استغرقت في التأمل أقلب بين ثنايا الماضي البعيد . تماثلت أمام أعيني معركة "المليحة" ضد البرتغاليين على ضفاف النهر ، وهجمات الإسبان والفرنسيس على ثغر العرائش من جهة البحر . وقفت ساهما في مكاني برهة ، صرت هائما على وجهي ، وما هي إلا لحظات حتى تهادى إلى مسمعي صوت شيخين طاعنين في السن يجلسان القرفصاء وراء جدران مسجد الأنوار ، منهمكان في لعبة الورق . في المساء ، يتحول فضاء كومندانسيا إلى مرتع لشيوخ نالت منهم تضاريس الزمن فاحدودبت ظهورهم ، يشعرون بالتعب بعد كل هذه السنوات التي أثقلت كواهلهم ، معظمهم من جنود "ريجولاريس" قاتلوا بضراوة إلى جانب فرانكو بإسبانيا . يفترشون قطع الكارتون وينغمسون في لعبة الورق و"ضاما" قصد التلهي وقتل الوقت ، وكأنه آفة لا بد من قتلها . ينتحي الفيلالي إحدى زوايا الساحة رفقة غريمه في اللعبة الحارثي وهو بحار سابق أنهكه تجديف القوارب ، أما الفيلالي فهو جندي متقاعد عبوس القسمات ، خدم فرانكو بإخلاص ، وفقد عينه اليسرى بإحدى معارك الحرب الأهلية الاسبانية الشرسة . راقني حديث الرجلان ، كانا يرتديان الجلباب الصوفي ، ساورني الفضول فأقتربت منهما أكثر واقتعدت مصطبة إسمنتية ، عدلت جلستي ورحت أرقبهما أستمتع بالنزال الذي أخذ يحمى وطيسه . خمنت أنهما يلعبان "الروندا" . على الرغم من إعاقته البصرية إلا أن الفيلالي لاعب ذكي ، وهو الذي راكم خبرة واسعة في خبايا لعبة "الروندا"، يحسب أوراقه جيدا ويلم بكل تقنيات اللعبة وهفواتها المحتملة ، فيما الحارثي شخص عنيد لا يستسلم بسهولة ، يحاول مجاراة ألاعيب وحيل خصمه الماكر ، وبعد محاولة يائسة منه لتخمين ما تبقى في يد الفيلالي من أوراق ، يسقط الحارثي مهزوما أمام خصمه اللدود الذي أطاح به بضربة "ميسا" القاضية . بعد برهة قصيرة ، أقبل شيخ مبتور الساق طويل القامة بخطى حثيثة ، كان يعتمر عمامة صفراء ، يمشي ببطئ مستندا إلى عكازه الخشبي ويدعى "السرجان اليزيد" ، جلس القرفصاء وانضم إلى الرجلين في لعب "الكارطا" ، هذه المرة قرروا أن يلعبوا "صوطا" ، وهي لعبة تقتضي أن تتخلص من كل أوراقك ومن بقيت ورقة "صوطا" وحيدة في يده في الأخير فهو الخاسر الأكبر . قام الحارثي بتوزيع الكارطا بالتساوي بين اللاعبين بعد "ضمسها" ، التقط الثلاثة أنفاسهم وشرعوا في اللعب بتركيز وخشوع فائق . احتدمت المنافسة وبدا الفيلالي متفوقا منذ الوهلة الأولى ، كيف لا وهو اللاعب الماكر ! أخذت الأوراق تتآكل من بين يديه ، فيما ملامح الغضب علت قسمات وجه اليزيد ، كيف يقبل السرجان بهزيمته أمام جندي كان البارحة يشتغل تحت إمرته في الجيش الإسباني ، أضف إلى ذلك أنه كان مقربا من الجنرال الريفي أمزيان الذي كان قائدا عاما لجيش"ريجولاريس" طيلة مدة الحرب الأهلية . أخذت الشكوك تراود اليزيد وهو يرى غريمه الفيلالي يتخلص من أوراقه بسرعة البرق ، كان يظن أنه يغشه ، استشاط غضبا وأخذ يصرخ وينعت جنديه السابق بالقديس الأعور ، فيما لبث الفيلالي صامتا يتحمل الشتائم من طرف رئيسه السابق في الجيش ، يتابع لعبه برباطة جأش دون أن يغفل عن السبحة التي لا تفارق يده اليمنى ، وأخيرا استنفذ كل أوراقه وانسحب منتصرا من لعبة "صوطا" وهو في حالة انتشاء . صار السرجان اليزيد مكروب النفس ، أطلق زفرة قوية واستجمع قواه من جديد لمواجهة خصمه الآخر العنيد الحارثي . في هذه الأثناء بدا واضحا أن الحارثي يتقدم عليه ، وملامح النصر تلوح في الأفق ، صعدت فورة الدم إلى رأس السارجان واصبح يشعر بالتوتر سيما وهو يقترب من الهزيمة ، صاح بقوة في وجه الحارثي بعدما أمطره بوابل من نعوت قدحية قائلا : أنت غشاش يا (مول المقذف) ، أنت مجرد جداف قوارب ، محاولا أن يحط من قيمته . فما كان من الحارثي إلا أن رد الصاع صاعين منتفضا في وجه السرجان اليزيد مرددا : أخرس يا "بورجيلة وحدة" ، لا يعور ولا يعرج إلا البلا المسلط ! لحظتها ، تدخل الفيلالي بعدما أخذته العزة مؤازرا رفيق دربه معتقدا أن الحارثي أهانه هو أيضا كونه أعور العين اليسرى . صار المشهد ضاجا بالصراخ وتحول إلى مشادة عنيفة ، رفع السرجان عكازه وهش بها على الحارثي مما زاد الوضع تأججا ، لكن الفيلالي تصدى له ومنعه محتدا : هدئ من روعك يا أحمق ، هل فقدت عقلك ، هذا لعب الدراري ! نحن في لعبة "كارطا" ولسنا في معركة ضد "الروخوس". في خضم هذا الصخب وزوبعة الأصوات صدح المؤذن السربوت بصوته الجهوري من أعلى المئذنة وكأنه يعلن نهاية المنازلة ، ليمتثل الجميع للآذان ويعود الهدوء . حملق الثلاثة في وجوه بعضهم البعض مطلقين ابتسامة الصلح والرضا ، وقاموا مهرولين لصلاة المغرب وكأن شيئا لم يحدث ، فيما ظل السرجان متأخرا يجر عكازه .