ثَوْرةُ السّلام في رِحاب رِسالَة الغُفْران استبشرت خيرا بثورة الياسمين، التي أطاحت بأول طاغية من مصاصي دماء شعبه المستضعف، والمهدور الكرامة. استبشرت واستفتحت، وعدت إلى حياتي الروتينية المعتادة، تحت سماء بروكسيل الرمادية، وأنا جد مفتون، بما حصل لي، من مشاهدات ورؤى خارقة وعجيبة، عقب أحداث ثورة 14 يناير بتونس الحبيبة. ومرت علي بضعة أيام، إن لم أقل أكثر، وأنا ما زلت هكذا، عالقا ما بين الحلم المُرتَجى، واليقظة الواقعية المُرّة. وجاء ذاك اليوم القاصم لظهر البعير، وسقطت القشة على متن الحيوان الخرافي فكسرت ضلوعه الوهمية، وسقطت بالمناسبة وافتضحت، كل تلك "الفزّاعات الإسلاموية"، والإرهابية، المنصوبة من قبل حكام الفساد، في ربوع المدن العربية، وسقط معها بالمناسبة، جدار الخوف العربي. لقد كان يومها يوم جمعة، الموافق ل25 من شهر يناير، من التقويم الشمسي. وكان الوقت صباحا، لهذه الجمعة المرتقب فيها، تقاطر الملايين من أبناء مصر العزيزة، على ميدان التحرير، للتعجيل بإسقاط نظام الطاغية الفاسد، حسني مبارك. وكنت حينها واقفا على الرصيف رقم (2)، في انتظار قدوم القطار المتجه إلى بروكسيل العاصمة. كنت شاردا نوعا ما، وإذا بغمامة زرقاء تتخطفني، فما شعرت إلاّ وأنا محمول على متن طبق طيار، صحبة ملاك تعرفت في قسماته فورا، على الملاك "منصور البُراقي"، الذي كان قد أقلني في سفرتي المِعْراجِيّة السابقة إلى رحاب جنان الغفران. وتعجبت من أمري، وأنا غير مصدق بالمرة، بتكرار هذا الحدث الإعجازي، وبصحبة الملاك نفسه. وإذا بصوت الملاك المتميزة نبراته، عن نبرات أصواتنا نحن البشر يخاطبني قائلا: - مرحبا بك يا أبا اليزيد، فهذا اليوم له شأنه في تاريخ الأمة العربية ! وتلا متمثلا بقوله تعالى من كتابه العزيز: - " سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق." صدق الله العظيم. وابتسم في وجهي ابتسامة المنتصر، وأشار بسبابته نحو الشاشة العريضة لمركبتنا الفضائية، فدهشت من رؤيتي لمحطة نزول، مزدانة بعدد لا يحصى، من الشعل الشُّهُبِيّة، المختلفة الألوان. وحين هممت باستفساره، جاءني رده تلقائيا: - لقد انتهت سفرتنا الخارجة عن الزمن البشري الطبيعي، وهذه المحطة البُراقِية التي تشهدها أمامك، تدعى عندنا ب"ذات الصراط، ألف لام، ميم " وتلقب عند بعضنا ب"ذات الأنوار"، وهي أقل درجة من المحطة الكبرى التي ندعوها ب"أم البرق، ياسين"، والتي نزل فيها الحبيب المصطفى،خلال رحلته المِعْراجِيَة، التي قادته لغاية سُدْرَةُ المنتهى. وما هي إلا لحظة غير اللحظات، وإذا بالملاك البُراقي منصور، يسلمني إلى ملاك آخر، كان في انتظاري، قائلا: - هذا مرشدك "نوران" ! واختفى عن نظري في رمشة عين. وكدت أشك فيما يحصل لي، وإذا بمرشدي الجديد "نوران" يطمئنني قائلا: - السلام عليكم، ومرحبا بك عندنا، في هذا اليوم السعيد، الذي لا يشبه الأيام السالفة في شيء. فقلت له مستفسرا، والدهشة تغمرني: - من ذا الذي سعى في استدعائي ثانية؟ - شيخ المعرة، بطبيعة الحال، لأمر جلل قد حدث عندنا، وهو الآن بسبب الحدوث عندكم. وهذا الخلاف، إن أحببت، ناتج عن سبب الفارق الزمني بيننا وبينكم. أو بعبارة أدق، بسبب توقيتكم الزمني النسبي، ولا زمنيتنا نحن، سكان الباقية. فأجبته قائلا: - سبحان الله ! أنا الذي لم أكد أصدق دعوته لي قبل بضعة أيام. فأجابني، وهو يلمع ويشع، في بزّته الفضائية المزركشة: - ما على الرسول إلا البلاغ. وسار بي على متن مركبة زجاجية شفافة، كنا بداخلها وكأننا في جوف قطرة ماء مكبرة. وراحت تطوي بنا الفضاءات، والمجرات الكونية المتناثرة هنا وهناك، ولا هدير محرك يسمع لها، ولا اهتزاز، ولا ذبذبة، فقلت له مندهشا: - ما سر هذه المركبة العجيبة؟ فأجابني كالملاك السابق، متمثلا بقوله تعالى: - " فلا أقسم بالشفق والليل وما وسق والقمر إذا اتسق لتركبن طبقا عن طبق". وأضاف قائلا: - سبحان الحي القيوم، ربّي ربّ العزة عما يصفون، بقوله من كتابه العزيز "يدبر الأمر من السماء إلى الأرض ثم يعرُجُ إليهم في يوم كان مقداره ألف سنة مما تعدون". واكتفى بهذه الشهادة الآياتية، الإعجازية. بينما رحت متعجبا في نفسي، وقد خطرت ببالي موسوعة "الفتوحات المكية"، للشيخ محي الدين بن عربي. وبالخصوص، الباب الثامن من المجلد الثاني، المتعلق بمعرفة أرض الحقيقة، وبحارها ومراكبها العجيبة، وخلقها المتفاوتون في البنية والأحوال. وفي هذه اللحظة فقط، من التأمل الداخلي، خطر ببالي، بأن الشيخ محي الدين، قد يكون هو الآخر، ممن جابوا في أسفارهم الروحانية، مثل هذه الآفاق الخارقة. وأدرك الملاك، بحدسه وبعلمه الملائكي، المركبان فيه بحكمة إلهية، ما كان يدور في خلدي، فبادرني قائلا: - نعم أنا من كان في خدمة الشيخ محي الدين بن عربي، إبان زيارته الأخيرة عندنا. وكما تحدث لدى النائم، تداعيات الصور والرؤى، بدون أي رابط منطقي، أو زمني يربط بينها، وجدت نفسي للحظة، عند مدخل ساحة ميدانية، لا تقدير ممكن لمساحتها اللاّ متناهية، بتقديراتنا الفيزيائية الأرضية. وقد قفل مرشدي الملاك "نوران" سابحا بقطرته المائية، عبر سعة آفاق لا حدود لها. وكان إحساسي الوليد من جراء هذا التحول الفجائي، تسوده الطمأنينة، والهدوء. بل وسكينة ربانية، منبعثة من أعماق روحي، هذه الروح المجهولة، التي تعرفت لأول مرة في حياتها، على طبيعة هذه النعمة الإلهية. إحساس لا يعادله أي إحساس، أو أي ركون وخضوع إلى ملذات شهوانية جسدية. إحساس إذا صح التعبير، باللاّ نهاية التي لا تتحدد بأي مظهر خارجي زائف. إحساس بالتصالح الكوني، مع الإنسان الكامل. وشعور حقيقي، بمعرفة وإدراك ما معنى "الخلود الأبدي". وفي غمرة هذه التأملات، النابعة من أعماق روحي الجديدة، ومن إنساني الذي لم أتمكن من سبر أغواره، بهذا العمق من قبل، جاءني الخطاب، من رجل تمثل لي فجأة، على مدخل ساحة الميدان، في هيأة مخلوق تعرفت في قسماته، كما في حلته الفاخرة، على رجل سبق لي والتقيت بِه، في رحلتي السماوية السابقة. وقد سار ماشيا نحوي ومنشدا في آن: إنما التّهْنِآتُ لِلْأكفاءِ ولِمَن يُدنّي من البُعَداء فقلت على البديهة: - أبو الطيب المتنبي ! فأجابني: وأَسْري في ظَلامِ اللَّيْلِ وَحْدي كَأَنّي مِنْهُ في قَمَرٍ مُنير - مرحبا بعودتك يا أبا السعود! فهذا يوم نؤرخ له بدمائنا وكرامتنا العربية، التي كان يحسبها العالم بأنها قد مضت بلا رجعة. فاستفسرته عن هذه الدعوة الفجائية: أوليس شيخ المعرة هو من دعا في طلبي؟: - بلى، ولكن لأسباب طارئة كلفني باستقبالك، وإخبارك عن سبب هذه الدعوة الفجائية. وبالمناسبة إن شيخنا أبا العلاء كما تعرف، قد راح في مهمة لغوية عاجلة. لقد راح إلى الجنة "العثمانية" مستقصيا لمصادر وأصول مصطلح "البَلْطَجِيّة"، الذي دخل مجتمعكم المدني، كما قاموسكم الجنائي مؤخرا. ولسوف يكون حاضرا معنا في احتفالات عرس هذه الليلة الميدانية الخالدة. ولقد أوصاني أن أطلعك على هذا الحفل المبارك، المتعلق بالمستجدات الثورية على أرض مصر الغالية. نعم تلك البلاد الحبيبة التي قلت فيها زمن كنت من أبناء الفانية: أَقَمْتُ بِأرضِ مِصرَ فلا ورائي تخبُّ بيَ الرّكابُ ولا أمامي ومَلّني الفِراشُ وكان جَنْبي يملُّ لقاءه في كُلِّ عام وقليلٌ عائدي سقِمٌ فُؤادي كَثيرٌ حاسدي صَعْبٌ مُرامي لقد كنت سقيما حين مقامي بها يومها، ومتذمرا من حكامها الذين كانوا يعيثون فيها فسادا آنذاك. أما اليوم فبعد ثورة شباب "الفيس بوك"، ثورة (ال25 يناير)، ثورة محاربة الفساد، واسترجاع الكرامة، التي لا تساوم على مبدئها، والرأي الحر المسالم، الذي أصبح قادرا على الإطاحة بأكبر حاكم متكبر ومتسلط، فإنني أحمد الله أنني تكهنت بهذا، ونبهت ودعوت إليه في إحدى قصائدي، التي تبنت حكمتها إذاعة الجزيرة، حيث أقول: الرّأيُ قبلَ شجاعةِ الشُّجعانِ هو أوّل وهي المحلُّ الثّاني فإذا هما اجْتَمعا لِنفْسٍ حُرّة بَلَغت في العَلْياءِ كُلَّ مَكان ولَرُبّما طَعنَ الفتى أقْرانَه بالرّأْيِ قبلَ تَطاعُنِ الأَقرانِ لَوْلا العُقولُ لكانَ أدْنى ضَغيم أَدْنى إلى شَرَف في الإنْسانِ كان ينشد، وأنا حال كوني شاردا، ولا ازداد إلا امتنانا بهذه الأبيات الرائعة. وما أن انتهى، حتى أخذني بالأحضان ودموع الكبرياء جارية على شواربه قائلا: - أبشر يا أبا اليزيد، فلقد منّ المولى عز وجل على شباب الكنانة، ومدهم بجنود من عنده، لا يعلم عددها إلا هو. وها هم الآن، وفي هذه الأثناء بالذات، في ميدان التحرير، وقد خرجوا بالملايين، يهتفون بالعهد الجديد للعروبة والإسلام، من بعدما أطاحوا بالطاغية المتكبر العنيد، الذي كان يحسب نفسه بعناده المستميت، من سلالة الفراعنة الخالدين. فلتحيا العروبة والمجد للشهداء ! فتعجبت من تسارع هذه الأحداث، التي تركتها حين سفري إلى هنا، في حيز الإمكان، فقلت له: - والله أنني لم أكن أتصور نبأ سارا مثل هذا، وبمثل هذه السرعة، خصوصا وأن ركائز الحكم الفاسد، كانت تبدو متأهبة للعدوان والإجرام، بكلابها "البَلْطَجِيّة" المسعورة، التي سلطتها على مَدنيّين عزل، وبإذاعاتها الرسمية المسترسلة ليل نهار، في بث الأكاذيب والافتراءات، وبموقف الجيش نفسه، الذي بدا غامضا ومترنحا بين، بين ... وقاطعني قائلا: "ويمكرون ويمكر الله، والله خير الماكرين" يا أبا اليزيد. لا تستغرب بسبق الأحداث عندنا، لأننا نعيش خارج دائرتكم الزمنية النسبية. ونحن نعي بحكمة ربانية، خصنا بِها المولى، نحن أبناء الخالدة، وركبها في طبعنا التمثيلي، بحيث أنه بإمكاننا الرُّؤْيَوي الخاص بنا، أن نرى مجريات الأحداث الدنيوية كمتلقين ومتفرجين، قبل حدوثها بزمن طويل عندكم، وهذا فضل ومنحة ألاهية وكرامة لنا نحن سكان الباقية. لا قدرة لنا على التدخل في هذه الأحداث، بل معاينتها فقط. بل إننا لا نتأثر بها مثلكم. وهذه الفرحة التي نبديها حيالها، هي من باب الكرامة العربية الإسلامية، وفضيلتها، التي كنا ذات يوم من أيام الدنيا، من أبنائها. وهي من جهة أخرى، مناسبة للوقوف أمام انتصار الحق والعدالة كما الحكمة الإلهية، التي ألهمنا إياها، ووعدنا ، الذي لا يخلف الميعاد. ثم توقف فجأة عن الكلام وتطلع إلي متفرسا في قسماتي وقال: - أو ما انتبهت لبزتك المشعة، هذه التي عليك الآن؟ وفوجئت بالفعل وأنا أتفقد أحوالي، ولباسي الجديد الذي لم انتبه إليه من قبل، وحين أردت استفساره بادرني قائلا: - أو لم تحس وتشعر بتبدل روحي في إنسانك؟ - بلى ! أجبته، وهذا من لما أسلمني الملاك إلى هذه الخالدة. - كل هذا بسبب البزة المِعْراجِيّة التي عليك. هذه التي ألبسك إياها الملاك "منصور" قبل أن يأتي بك إلى هنا. ومن خاصية هذه البزة السحرية، أن تجعل منك أنت الإنسان الفاني، أنت الذي لم يذق طعم الموت الدنيوي بعد، أن تعيش مؤقتا بيننا، بروح أهل ديارنا الفردوسية، وبكل كمالياتها وملذاتها المطهرة، وبتصوراتها الحاسوبية التي تفوق قدرة كل خيال بشري. وتمثل بقوله تعالى" هو الله الخالق البارئ المصوّر له الأسماء الحسنى يُسبّح له ما في السماوات والأرض وهو العزيز الحليم". - بالفعل، هذا ما شعرت به من لما وعيت روحي بهذه الفضاءات اللّا متناهية. وأجابني مسترسلا: - سميها ما شئت، نفسا أو روحا، إلا أنها في دقة سرها ومعجزتها الإلهية، لا تشبه باقي النفوس، ولا سائر الأرواح البشرية في شيء. على كل حال، لقد تنحى الطاغية عن الحكم، وها هو ذا فضيلة الشيخ القَرْضاوي الآن، في هذه الجمعة الأرضية المباركة، يؤم بالجماهير المليونية، صلاة جمعة النصر، في ميدان التحرير، تحت كاميرات إذاعة الجزيرة. - سبحان مبدل الأحوال ! - نعم لقد استحضرناك يا أبا الخير، لتكون ضيفنا الليلة، وشاهدا بيننا على هذا العرس المثالي، الذي دعوناك إليه، كممثل لكل الدول العربية الإسلامية السعيدة بهذا النبأ، بل ولكل المعذبين في الأرض المنتظرين لساعة الخلاص والفرج.