عاطف بشاى / تكون فنانا مبدعا وأيضا ذا توجه وهوى يسارى.. ثم فجأة وبعد وصول الإخوان إلى الحكم.. تؤيدهم تأييدا حارا وتعلن أن هناك مؤامرة من المثقفين «الجهلة» لإفشال مشروعهم النهضوى الحضارى العظيم.. فتلك أعجوبة من أعاجيب هذا الزمن الردىء. ففى حديث صحفى بجريدة «الوطن» اندفع المخرج «على بدرخان» يكيل الاتهامات للكاتب الكبير «وحيد حامد» ويتعمد إهانته بوصفه «بالمتخلف»، ذلك لأنه فى معالجته لمسلسل الجماعة بدا جاهلا بتاريخ هذه الجماعة السرية المحظورة وبتاريخ نضالها الوطنى العظيم منذ «حسن البنا» وحتى اليوم.. فسعى إلى تشويهها والنيل منها.. وأنا لا أعرف على وجه اليقين أى وثائق مؤكدة استند إليها «على بدرخان» تدحض وتكذب ما كتبه «وحيد» عن الجماعة.. وهو الذى اعتمد على عشرات المراجع فى بحث دقيق ومضن ليتوصل إلى قناعاته. المفارقة المدهشة أن «على بدرخان»- وتلك بديهية يعرفها العامة قبل المثقفين- لا يدرك أن الإخوان «يكرهون الفن».. ويحرمونه.. ويكفرون الفنانين.. وما تلك الهجمة الشرسة ضد الفن والفنانين فى الفترة الأخيرة والبذاءات التى كالها «عبدالله بدر» و«وجدى غنيم» «لإلهام شاهين» و«الفيشاوى» و«نور الشريف»» وغيرهم إلا شاهدا على ذلك. إنه لا يرى ذلك ويستشهد بأن «حسن البنا» شجع الفن المسرحى وقدم عروضا مسرحية.. متغافلا أن تلك العروض كانت عروضا وعظية دعوية إرشادية دينية تحث على الفضائل ومكارم الأخلاق وليست لها علاقة من قريب أو بعيد بفن المسرح أو أى فن. إنهم ضد ركائز الفن الأساسية التى تعتمد على حرية الرأى وحرية التعبير.. والخيال الفنى والخطاب الجمالى.. بالإضافة إلى أنهم ضد الديمقراطية وحق الاختلاف.. وضد تذويب الفوارق بين الطبقات، فمشكلة العدالة الاجتماعية يمكن حلها بالزكاة وعطف الغنى على الفقير.. فأى تناقض هذا الذى تعيشه أيها المخرج الفنان.. وأيضا اليسارى العتيد؟!. ثم هو بكثير من الاستهتار وانعدام الإحساس بالمسئولية تجاه ما يقوله يروج- يسانده فى ذلك السيناريست «مصطفى محرم» فى مقال له بجريدة «القاهرة» حول نفس الموضوع- لفرية خبيثة يسعيان لانتشارها ألا وهى أن «وحيد حامد» قد كتب مسلسل الجماعة بأوامر من أمن الدولة وأنه أطلع وزير الإعلام السابق «أنس الفقى» على أول خمس حلقات لكى يأخذ رأيه ويستشيره.. ويلمح «محرم» إلى أن «وحيد» يعرض الحلقات على الوزير وكأنه يسأله هل أعجب المسلسل التفصيل الزبون؟!. والحقيقة أن «الحنجوريين»- بدرخان ومحرم- يحاولان بعجز بائس أن يرتديا أثوابا فضفاضة من وطنية زائفة واداعاءات رخيصة.. فلسنا بحاجة إلى تذكير القارئ بأفلام عظيمة كتبها «وحيد حامد» مثل «البرئ» و«الغول» و«المنسى» و«الإرهاب والكباب».. و«النوم فى العسل» و«طيور الظلام» و«الإرهابى» و«عمارة يعقوبيان» و«اللعب مع الكبار».. هذه الأفلام التى يقف فيها على يسار السلطة يهاجمها بضراوة.. ويكشف عوراتها ويعرى- من خلال التجسيد العظيم لفنان الكوميديا الكبير «عادل إمام»- فسادها.. وينحاز إلى مجتمع الفقراء الذين يعانون من شظف العيش والظلم الاجتماعى. هذه الأفلام التى تعتبر من أهم علامات السينما المصرية فى تاريخها كله يرونها إنما صنعت بناء على عقد مبرم بين «وحيد حامد» و«عادل إمام» وبين السلطة الفاسدة التى ينهالان عليها بنقدهما الحاد وسخريتهما المريرة فى مقابل أن تثبت تلك السلطة للشعب أنها تسمح بهامش من حرية التعبير والتنفيس الذى يقيهم شر الغاضبين «فأي عبط ذلك»!! وهل يمكننا بنفس هذا المنطق المعوج أن نقول مثلا إن الأعمال الدرامية المتواضعة التى يكتبها «محرم» مثل «الحاج متولى» أو «زهرة وأزواجها الخمسة» أو «سمارة» أنها نتاج تحالف السلطة معه لإلهاء الناس وتغييب عقولهم وتزييف وعيهم بموضوعات ميلودرامية تافهة لصرفهم عن مشاكل واقعهم وبؤس إحساسهم الطاغى بالظلم الاجتماعى حتى لا يثوروا على تلك السلطة الفاسدة؟! وهل يمكننا بنفس هذا المنطق المعوج أن نقول مثلا إن الإخوان قد استقطبوا «على بدرخان» للهجوم على «وحيد حامد» بناء على تعليمات من المرشد؟! ولا شك أن «وحيد حامد» فى «الجماعة» قد نجح نجاحا كبيرا فى اختيار أسلوب السرد المناسب.. وصنع تلاحما عميق الدلالة بين الشكل والمضمون وأنشأ حوارا ومواجهة بين زمنين.. وخلق توافقا فكريا بين الماضى والحاضر.. وجدلا حيويا متشابكا بين ما فات وبين ما يحدث الآن بنوع من التنبؤ والاستشفاف فى غايات الجماعة وأهدافها وهو ما سوف يتم استثماره فى الجزء الثانى من المسلسل. أما الادعاء الساذج - الذى أكده «محرم» وآخرون - أن «الكاريزما» التى أسبغها المسلسل على شخصية «حسن البنا» والتى تمثل خطرا داهما على الأثر المطلوب تحقيقه من خلال المسلسل لأنه يجعل منه شخصية ساحرة خلابة آسرة تبهر العقول، مما يشى بخطأ كبير وقع فيه «حامد».. هذا الادعاء يدين مروجيه ويوصمهم بعدم الفهم الصحيح بفن رسم الشخصية الدرامية بأبعادها النفسية والاجتماعية والفكرية المختلفة.. ففى الدراما الجيدة لا يكتب المؤلف المبدع تفاصيل الشخصية انطلاقا من «حب» أو كره مسبق لها.. ولا يتخذ منها موقفا أخلاقيا محددا.. ولا يشرح لنا موقفه منها.. ولا يحثنا على إدانتها أو محاكمتها.. وإلا تحولت إلى شخصية نمطية كرتونية بلا روح أو عمق.. و«وحيد حامد» مبدع كبير.. وليس من أولئك السطحيين الذين يحددون مسبقا إن كانت الشخصية «طيبة» أم «شريرة» وما كان أسهل عليه أن يرسم شخصية «حسن البنا»- كما تعودوا فى الدراما الرديئة- فظا قاسيا متجهما يرفع حاجبه الأيمن ويجحظ عينيه فيتطاير الشرر منهما.. ويصرخ فى انفعال هادر فتنفر العروق فى رقبته ويصبح نموذجا شريرا يدعونا إلى كراهيته والنفور منه. إن الهجوم الجارح.. والإهانة المتعمدة والغل الطافح ضد «وحيد حامد» و«عادل إمام» ليس له من تفسير سوى أنهم للأسف انعكاس لزمن الكراهية الذى نعيشه.. وتجسيد حى لمقولة سارتر الشهيرة: «إن الجحيم هو الآخرون».