تميزت الحياة السياسية في سوريا بتحولات كبيرة حيث سلكت مسالك مختلفة منذ تاريخ تأسيس الجمعية السورية العلمية عام 1857 حيث ضمت مفكرين كبارا مثل محمد أرسلان و إبراهيم اليازجي صاحب كتاب " تنبهوا و استفيقوا أيها العرب " ومطلق صرخة القومية العربية إلى أن استقرت هذه الحياة على تبني الحركة العقدية القومية المتمثلة في حزب البعث الاشتراكي، وقد شهدت سوريا منذ ذلك الوقت إلى يومنا عديد التغيرات مرورا بعام الوحدة المصرية السورية سنة 1958 تحت مسمى الجمهورية العربية المتحدة، و التي شهدت انفصالا سريعا بحلول عام 1961، و وصولا إلى حكم الرئيس حافظ الأسد لسوريا سنة 1970 بعد ما سمي بالتصحيح البعثي ( حزب البعث التصحيحي )، و إلى غاية حكم نجله من بعده بشار الأسد العام 2000 حتى يومنا هذا.. حزب البعث العربي.. صاحب فكرة إنشاء وتأسيس هذا الحزب على يد زكي عرسوزي ( علوي الطائفة Zaki Arsouz )سنة 1934( فيلسوف سوري)، لكن أكثر المنظرين شهرة من بعده هما ميشال عفلق ( مسيحي) و صلاح بيطار سنة 1944، وقد كتب ميشال عفلق من قبل مقدما لمجيء حزب البعث بفلسفة اشتراكية قائلا في مقالة بعنوان:" ثروة الحياة" ، " ما نظرت إلى الاشتراكية كواسطة لإشباع الجياع و إلباس العراة فحسب، ولا يهمني الجائع لمجرد كونه جائعا، بل للممكنات الموجودة فيه، التي يحول الجوع دون ظهورها"، فكان عفلق يرى بأن الاشتراكية وسيلة قادرة على النهوض بالقومية، وبقي البعثيون يناضلون من أجل تبني أفكارهم وتطويرها و محاولة تقنين الماركسية المادية الاشتراكية وتكييفها مع الشخصية العربية حتى سمي حزبهم بحزب البعث العربي الاشتراكي سنة1953، فكان البعثيون ينادون بحق الملكية الخاصة، الحق في الإرث، اللائكية، الحق في العدالة و المساواة و العيش الكريم. سوريا البعث .. بعد إلغاء حكم الطبقة البرجوازية التقليدية في دول عربية كثيرة من بينها سوريا بعد الحرب العالمية الثانية، اجتاحت سوريا رياح الاشتراكية العربية كغيرها من الدول، حيث جاء إلى الحكم عن طريق الانقلاب العسكري حسني الزعيم وكان ذلك عام 1946 أي بعد الاستقلال بثلاث سنوات و بعد أن عرفت سوريا اضطرابات ما فتئت تتكرر و تهدد في كل مرة الاستقرار السياسي في البلاد، حيث حكم سوريا سامي الحناوي و أديب الشيشكلي، ثم كانت الوحدة مع مصر سنة 1958 بعد حادثة تفجير مجموعة من الضباط السوريين للأنبوب الرئيسي الناقل للبترول من العراق إلى أوربا عبر الأراضي السورية سنة 1956، وهذا تضامنا مع مصر بعد العدوان الثلاثي عليها، لكن فشل الوحدة عجل باستلام حزب البعث العربي الاشتراكي لمقاليد الحكم في سوريا منذ سنة 1963 حتى هذه الأيام، وقد تميز نظام الحكم السوري في عهد البحث بتطبيق الفلسفة البعثية بحذافيرها، حيث حكم حافظ الأسد سوريا من بعد صلاح جديد بالحديد و النار رغم بعض الاستثناءات التي ميزت حكمه، وقد كان حافظ الأسد يعتقد بأنه حامل لرسالة و ليس لسياسة، وهو ما جعل الأسد يحتكر السلطة دون إشراك الطبقة الشعبية البسيطة في الحكم بوصفه بطلا قوميا وقائدا فذا وزعيما خالدا، وقد تعززت هذه الفكرة مع مر الزمن حتى بعد وفاة الأسد حيث حافظ النظام على حيويته من خلال تولية نجله بشار الحكم العام ألفين بعد تعديل الدستور، وبالتالي تواصل حكم الجيش في سوريا بواجهة سياسية بعثية حتى بعد سقوط بغداد عام 2003 ونهاية حزب البعث في العراق. نهاية الاشتراكية العربية.. إن الحرب على العراق سنة 2003 كانت كفيلة بإنهاء حكم البعثيين في العراق الذي يعد واحدا من أهم معاقل حزب البعث في الوطن العربي بعد سوريا، وبعد انتفاضة الشعب السوري ضد النظام البعثي الطائفي العلوي في سوريا هذه الأيام بات وشيكا جدا تداعي حزب البعث قريبا ومن الداخل، ومع استمرار الاحتجاجات والمظاهرات ومجابهتها باستخدام العنف و القوة وسقوط مزيد من القتلى الأبرياء، نستطيع أن نؤكد بأن شرعية النظام السوري سقطت في الماء، رغم محاولة هذا الأخير إنقاذ ما يمكن إنقاذه بعدما فلتت الأمور من بين يديه، ورغم محاولة السلطة السورية القفز على الواقع و الانقلاب على إرادة الشعب، فإن النتيجة الحتمية أن حزب البعث انتهى وللأبد بعدما بقي منظّروه يوهمون الشعوب المستعبدة بإقامة المجتمع المتحرر من القيود، المتحرر من استغلال الإنسان لأخيه الإنسان، مثلما وعدوا هذه الشعوب بتحقيق العدالة الاجتماعية، وتحرير المضطهدين و تحقيق الرقي و الازدهار و التنمية، وبانتهاء حزب البعث و النظرية الليبية العالمية الثالثة، وأفول نجم كثير من الأحزاب الاشتراكية في باقي الدول العربية و المنطوية تحت راية الأممية الاشتراكية العالمية نقول بأن الاشتراكية العربية فشلت أخيرا وانتهت إلى الأبد، أمام الرغبة الجامحة للشعوب العربية في التغيير و إقامة المجتمع الجديد و الدولة الحديثة..