"إن منظورنا المتكامل للتنمية الشاملة، يقوم على تلازم رفع معدلات النمو مع التوزيع العادل لثماره، وعلى جعل التماسك الاجتماعي، الغاية المثلى للتنمية البشرية والنجاعة الاقتصادية، ومن هذا المنطلق عملنا على تزويد المغرب بالبنية التحتية اللازمة لتقدمه وإطلاق مشاريع هيكلية كبرى، وانتهاج استراتيجية طموحة، للقطاعات التي تشكل الركائز الأساسية والمستقبلية لاقتصادنا، كالسياحة والصناعة والسكن والطاقة والموارد المائية، وكذا القطاع الحيوي للفلاحة بإطلاق مخطط المغرب الأخضر". من خطاب جلالة الملك بمناسبة عيد العرش لسنة 2009 بقلم الأستاذ عبد الله الفردوس في عز الشهر الفضيل، وأجواء الدروس الحسنية الرمضانية، بادر جلالة الملك بفتح ملف الماء مجددا، حيث ترأس بالقصر الملكي بالرباط ، بداية الأسبوع الماضي، اجتماعا خصص لهذا الموضوع الحيوي، قدمت خلاله أمام جلالته النتائج الأولية لعمل اللجنة التي يترأسها رئيس الحكومة والتي من المنتظر أن تشرع، بشراكة مع بعض تنظيمات المجتمع المدني، في تنظيم مجموعة من الأنشطة والمبادرات التي تخص ترشيد استعمال الماء والحفاظ على الثروة المائية. وكما جاء في البلاغ الإخباري بهذا الشأن، فإن جلالة الملك حريص كل الحرص على الاهتمام بإشكالية الماء، وأنه دعا خلال هذا الاجتماع إلى تشييد منشآت مائية جديدة، من سدود بسعة مختلفة، وسدود تلية…، وذلك في أقرب الآجال وفي مختلف مناطق المملكة. المبادرة الملكية هذه، والعناية السامية والمتواصلة بموضوع الماء، لا شك أنها تحمل دلالات قوية بما تحمله من بواعث الثقة والأمل، وبما تعبر عنه وتجسده من إصرار وعزم على تمكين بلادنا من مواجهة إشكالية الماء، وضمان أمنها المائي، ومن هذه الدلالات البالغة: * أن موضوع الماء الشروب والمخصص للري، يوجد في قلب الاهتمامات والانشغالات الملكية، كما نلمس من كون التوجيهات الملكية الجديدة، بخصوص مواصلة بناء السدود، جاءت بعد أقل من مسافة سنة على المجلس الوزاري (أكتوبر 2017)، الذي أثار فيه جلالة الملك إشكالية الماء، وكلف في حينه رئيس الحكومة بترأس اللجنة المشار إليها. * أن التجاذبات وحالة (الشد والجذب) التي تستبد بالمشهد السياسي، في بعض الأحيان، يجب أن لا تطغى على المصلحة العامة أو أن تؤدي إلى الإضرار بحاجيات وحقوق المواطنين. * أن ضمان توفير حاجيات البلاد من الماء الشروب ومياه الري، مسألة توجد في صلب التحديات التنموية التي يرفعها المغرب وفي قلب الرهانات التي يسعى لربحها. * أن مسؤولية مواجهة مخاطر ندرة المياه هي من المهام التي تستوجب التتبع المستمر والمراقبة الدورية والدقيقة لمدى إنجاز الأهداف المسطرة. من الناحية العملية والتدبيرية، وعلى المستوى الحكومي، كانت الحكومة قد التزمت، على لسان رئيسها وفي اجتماع المجلس الوزاري لشهر أكتوبر 2017، بالاستمرار في سياسة بناء السدود الكبيرة والصغيرة والمتوسطة، وبرمجة محطات التحلية ومعالجة المياه العادمة الموجهة للاستغلال في السقي، وإعمال قانون الماء الصادر سنة 2015. وبالنسبة لانتظارات المواطنين ووعيهم بأهمية الموارد المائية، يبدو أن الأمر صار يتحول إلى قلق، وخاصة في بعض المناطق التي زحف نحوها (شبح العطش)، كما هو الشأن، مثلا، بالنسبة لجهة الجنوب الشرقي وجهة فاسمكناس، والمناطق الشمالية، وغيرها من الجهات والأقاليم التي دقت ناقوس خطر الخصاص، صيف السنة الماضية، والتي كادت أن تعتبر كمناطق (منكوبة)، لولا التدخلات المستعجلة للتخفيف من محنة السكان التي تشتد مع فترات الأزمات والجفاف أو قلة التساقطات. وقد حدث ويحدث هذا القلق بالرغم من أن موضوع الماء أخذ باهتمام السياسيات العمومية، ومنذ أن تم سن (سياسة السدود)، من لدن المغفور له جلالة الملك الحسن الثاني، وهو التوجه الذي تعزز بعناية واهتمام جلالة الملك محمد السادس، وبما تحقق في السنوات الأخيرة من تدابير وإنجازات، همت، بالخصوص، وضع القانون الجديد للماء (الصادر سنة 2015)، تشييد مجموعة من السدود الجديدة ليصل عدد السدود بالمملكة حاليا إلى 140 سدا، الشروع في بناء محطات لتحلية المياه بمنطقة سوس، تعميم التزود بالماء الصالح للشرب، إنجاز منشآت مائية كبرى، وضع المخطط الوطني للماء الذي حدد مجموعة من الأهداف والمشاريع الكبرى، الشروع في تنفيذ الاستراتيجية الجديدة لإنجاز السدود التلية بتعاون مع المتدخلين المحليين، إلخ … ومن هنا، وبالنظر إلى مجموعة من العناصر والمعطيات والدراسات، فلا يمكن الاستهانة بإشكاليات الوضعية المائية، وبما تطرحه من تحديات ورهانات على أكثر من مستوى، ولعل التحدي الأول يتمثل في كون المغرب مهددا في موارده وثروته المائية حسب بعض التوقعات: * تقارير البنك الدولي تقول إن المغرب يوجد ضمن الدول التي ستعاني من ندرة المياه جراء حالات الجفاف والاستغلال الجائر للمياه الجوفية، وقد يخسر 6 بالمائة من ناتجه المحلي الإجمالي. * دراسة أنجزها مكتب دولي لفائدة كتابة الدولة في الماء، تفيد بأن المغرب يوجد من بين خمسة بلدان في المنطقة، سجلت فيها ارتفاعات قياسية في درجات الحرارة، ومن المتوقع أن تصل إلى مستويات أعلى في السنوات القادمة، مع تسجيل تدني معدلات هطول الأمطار. * المصاعب الموجودة على مستوى جل الأحواض المائية، من توحل السدود وانعكاساتها السلبية على سعة التخزين، عدم انتظام التساقطات المطرية، تزايد مصادر تلوث الموارد المائية، كثافة الضغط على المياه الجوفية وتهديد استدامتها. هذا، ومن جانب آخر، فإن حاجيات البلاد من مادة الماء ما فتئت تتزايد سواء في ما يتعلق بالاستهلاك الفردي أو في ما يهم استعمالها في النشاط الفلاحي أو غيره من الأنشطة الاقتصادية والسياحية… وكل هذه العناصر والمعطيات تعطي لموضوع الماء أهمية استراتيجية كبيرة، باعتبار أن الموارد المائية تشكل اليوم شرطا من الشروط الأساسية لكل مشروع اقتصادي وتنموي واجتماعي، كما أنها، أي الموارد المائية، تعد من الشروط الضرورية لاستقرار الساكنة القروية وتحسين ظروفها المعاشية والحياتية، وهو أيضا ما يتناغم مع المجهودات المبذولة لمحاربة الفقر والسعي إلى ضمان الأمن الغذائي. وإلى ذلك تنضاف بعض العناصر الجديدة التي حملها قانون الماء لسنة 2015، فهذا القانون الذي عوض أو نسخ القانون السابق (رقم 9510)، جاء بمقاربة جديدة لتدبير الشأن المائي، وتتمثل في فتح المجال لإقامة شراكات مع الخواص أو القطاع الخاص لإنجاز مشاريع مائية. وصلة بهذه المقاربة الجديدة، نص المخطط الوطني للماء، المنتظر تفعيله، على إمكانية تحويل مياه السدود من جهة إلى جهة أخرى حسب الحاجة، وبحسب الوفرة ووجود الفائض، ومع مثل هذه التدابير الجديدة تتاح إمكانيات تظافر جهود الدولة مع إمكانيات واستثمارات القطاع الخاص الذي بإمكانه أن يقدم مساهمته الإيجابية في هذا المجال أيضا، كما أن إقرار مبدأ تحويل المياه من منطقة إلى منطقة محتاجة، فيه تجسيد عملي للتضامن والتآزر المنصوص عليه ، ضمنيا وحرفيا، في القانون التنظيمي للجهوية المتقدمة. وهنا نقف على خلاصة مركزة… خلاصة مؤداها أن موضوع الماء يشكل ورشا حيويا يتقاطع في أبعاده المتعددة مع مختلف الأوراش التنموية الأخرى، ولعل في ذلك ما هو كاف لتفسير الاهتمام الملكي بتتبع الموضوع ومسار تدبيره ونتائجه، حيث إن جلالة الملك دائم الحرص على بلوغ كل المخططات والأوراش التنموية وجهتها وغاياتها المقصودة، وهو ما أكد عليه جلالته في خطاب عيد العرش لسنة 2009، حيث قال جلالته :"إن منظورنا المتكامل للتنمية الشاملة، يقوم على تلازم رفع معدلات النمو مع التوزيع العادل لثماره، وعلى جعل التماسك الاجتماعي، الغاية المثلى للتنمية البشرية والنجاعة الاقتصادية، ومن هذا المنطلق عملنا على تزويد المغرب بالبنية التحتية اللازمة لتقدمه وإطلاق مشاريع هيكلية كبرى، وانتهاج استراتيجية طموحة، للقطاعات التي تشكل الركائز الأساسية والمستقبلية لاقتصادنا، كالسياحة والصناعة والسكن والطاقة والموارد المائية، وكذا القطاع الحيوي للفلاحة بإطلاق مخطط المغرب الأخضر". ومن دلالات هذه النظرة الملكية، ومن رمزية الطموح الوطني الذي تعبر عنه الأوراش المفتوحة والأهداف المرسومة، يستمد المغرب والمغاربة عزيمتهم وإصرارهم على مواصلة المسير على طريق المزيد من الإنجازات، ورفع التحديات، وإيجاد الحلول المبتكرة والناجعة للمشاكل التي قد تظهر في هذا القطاع أو ذاك، بما في ذلك طبعا قطاع الماء، حيث ضرورة بذل المزيد من الجهد والاجتهاد لمجابهة كل الإشكاليات، بما فيها الإسراع بتنزيل مراسم قانون الماء، إنجاز السدود الموجودة في طور البناء، تسريع وتيرة بناء محطات التحلية، استكمال تزويد ساكنة العالم القروي بالماء الشروب، إلى غير ذلك من المهام والتدابير اللازمة لضمان الحاجيات المتزايدة من الماء.