بقلم: ذ.عبد العزيز شكود. [email protected] لم يكن اختيارنا لهذه النماذج من تاريخ العقل البشري بالصدفة، بل لما ساهم به هؤلاء من تغيير داخل سيرورة البحث والتفكير العلمي، فإذا قلنا بمفهوم الثورة فمعناه هدم البديهيات والإعلان عن ميلاد فكر جديد بمناهج وطرق تفكير مختلفة عما هو سائد، وهذا ما حدث من خلال هذه المحطات التي سنعالج من خلالها هذا الموضوع، فهم لم يقتصروا على إعادة الإنتاج_بلغة بورديو_ بل عملوا على تقعيد المنهج، إعادة النظر في بنية العقل، التأسيس للنظرية ومن ثم الإبداع وإنتاج الجديد. 1_الثورة التطورية: غالبا ما يرتبط التصور العامي لنظرية التطور بفهم قاصر لا يتجاوز ثنائية حلال_حرام، وهي زاوية النظر التي تعامل بها النظريات العلمية و الفلسفية القادمة من الغرب، بمعنى أخر ما زلنا نعاني رهابا مرضيا فيما يخص قدرتنا على استقبال الفكر العلمي حتى إن لم نتفق معه لنجعله جسرا نحو إبداع الجديد انطلاقا منه، فنظرية داروين حررت العقل من الأوهام التي جمدته وأخمدت حركيته، وبالتالي فهذه النظرية لا تلخص في فكرة التحول من القرد إلى الإنسان كما هو شائع بين العامة، بل في التحول من حالة اللاعقل إلى حالة العقل، من حالة الجمود إلى حالة الإبداع، النقد ومن ثمة الإنتاج باابداع وإتقان، لقد أفاقت نظرية داروين الإنسان من حالة الكمون العقلي إلى حالة اخذ مطرقة "نيتشه" وإعادة الصناعة العلمية والفكرية من نقطة البداية، ليكون بذلك دور نظرية التطور هو تقديم صورة توضيحية للعلاقات المختلفة والممكنة بين مختلف الكائنات، على اعتبار ان هناك نقطة تشارك بين مختلف الموجودات، وبالتالي القدرة على تقديم تفسيرات كافية لأصل وسر هذا التنوع.فمن داخل الوحدة يخرج الاختلاف و التنوع، كانت هذه الرسالة الأولى التي قدمها العقل الثائر. 2_الثورة الماركسية: لقد أعادت الماركسية خلال القرن19 النظر هي الأخرى في طرق التفكير، من الناحية السياسية، الاقتصادية، الاجتماعية وحتى الفكرية، حيث قلبت نظام العالم بنفس الطريقة التي حول بها كوبرنيك نظام العالم على المستوى الفزيائي الفلكي، فميلاد ماركس معناه ميلاد مفاهيم جديدة أثرت على المعجم المستخدم وعلى البناءات العقلية بعد هذه المرحلة (الصراع الطبقي، البنية التحتية والفوقية، الاستغلال، الاغتراب...)هذه المفاهيم أدت في جوهرها إلى تفكيك النظام العالمي من نظام القطب الواحد إلى نظام الثنائية القطبية (الرأسمالية_الاشتراكية) وبالتالي أصبحنا مطالبين بالانتماء و الولاء لأحد هذه الأقطاب، هذا هو الفهم العامي العادي لثورة مؤلف "الرأسمال" لكن في الحقيقة للفكر الماركسي أبعاد أخرى أعمق تتمثل في قدرتها على إلغاء المألوف، وجعل الكل يساهم في التطور والتطوير، على اعتبار ان اقتصار البناء الاجتماعي على فئة بعينها يؤدي إلى التراجع، الفوضى ومن ثمة بروز الثورات الاجتماعية والسياسية المختلفة، فالثورة الفرنسية مثلا لم تكن إلا اجتثاث لنظام يعتمد نظرة أحادية إلى الطبقات الاجتماعية، فالمهم في الفكر الماركسي ليس أهمية الرجل كفيلسوف، اقتصادي وعالم اجتماع بل إن أهميته تتجلى في كونه فكرا عاشقا للتغيير وإعادة القراء ة المستمرة فيما هو مألوف، للبحث عن اللامفكرفيه بلغة "فوكو" انطلاقا من شعار "الرغبة في التغير كمبدأ، تقديم البديل كأساس والإبداع كهدف". 3_الثورة التحليلنفسية: يخص هذا النموذج مقاربة الأساس النفسي للإنسان، يتعلق الأمر بالتحليل النفسي الذي ساهم في إحداث تغيير كبير على مستوى طرق تفسير السلوك الإنساني وعلاج الكثير من الاختلالات التي تحدث على مستوى شخصية الإنسان، إذ ساهمت المدرسة في تغيير نظرة الإنسان عن ذاته وذوات الاخرين، تحول على مستوى البنية المفاهمية المستخدمة، فتم تعويض مفهوم الجنون بالاضطراب النفسي وفاقد العقل إلى مستخدم سيئ للوظائف العقلية، وتحول المريض نفسيا من وباء ينبغي تجنبه إلى إنسان ينبغي دعمه ومرافقته، هكذا فتح التحليل النفسي أفاقا جديدة للتشخيص ومن ثمة العلاج، لكن المهم في الثورة التي أحدثها "فرويد"، ميلاني كلاين ولاكان هو فتح الطريق أمام اجتهادات جديدة انبثقت من رحمها نظريات تحولت بدورها إلى مدارس قائمة الذات كمدرسة الشكل_الجشطالت_في ألمانيا، ثم الاتجاه المعرفي والبيوعصبي الذي نشط في أمريكا، والاهم من كل هذا ان هذه الثورة انتزعت لنفسها الاعتراف بالمرض النفسي والطب النفسي بكل مفاهيمه وطرق علاجه كما هو الشأن بالنسبة للطب العضوي وبالتالي فإبداعات "فرويد" وأنصار التحليل النفسي ساهمت في استفزاز باحة الإبداع داخل العقل الإنساني إن صح هذا القول على اعتبار أن زمن الخلط بين العلم واللاهوت قد ولى دون رجعة، وان البحث عن المسكوت عنه لتطوير سيرورة الإبداع أساس أية محاولة للخلق والابتكار. وعموما لقد مكنت هذه النماذج _تطورية داروين، تفكيكية فرويد وتحليلية ماركس_من إعادة برمجة العقل الإنساني وتوجيهه نحو الإبداع، الأكيد إننا لاننظر إلى هذه الاعمال من زاوية تراكمية كمية، بل الأهم أن نعرف كيف فكر هؤلاء، وكيف أبدعو من خلال الجرأة,قوة المبدأ وصرامة المنهج.