«أمّا اليقين فلا يقين وإنما **** أقصى اجتهادي أن أظن وأحدسا» – أبو العلاء المعري تقديم: تغطي كلمة اشتراكية فضاء شاسعا ومتنوعا من التيارات الفكرية والحركات والأحزاب السياسية، هدفها المشترك هو السعي إلى تنظيم المجتمع بشكل يحقق العدالة الاجتماعية والاقتصادية. ظهرت كلمة اشتراكية في العشرية الثانية للقرن التاسع عشر، وكانت تشمل مجموعة من المطالب والأفكار التي تسعى إلى تحسين وضعية العمال والمواطنين بشكل عام وذلك بتغيير النظام الرأسمالي بنظام يكون أكثر عدلا. أصبحت اليوم الحركات الاشتراكية تشكل حيزا كبيرا من الحياة السياسية، حتى أصبحت كلمة اشتراكية تشير إلى أشكال متنوعة ومتباينة، انطلاقا من الأحزاب العمالية إلى تنويعات يسارية، مرورا بالأنظمة الشيوعية الحالية. أغلب هذه التنويعات تجتمع في الأممية الاشتراكية، وفي تنظيمات قارية مماثلة. إلى وقت قريب كانت العديد من الأحزاب الاشتراكية تمارس سلطة الحكم، وخاصة بأوربا، وكانت الأمور بهذه البلدان تسير نحو الازدهار والرفاه لكن «فجأة» تضرب الأزمة المالية لسنة 2007... فوجد السؤال حول مسؤولية الاشتراكيين فيما وقع مشروعيته، بل تم طرح السؤال الأكثر جرأة: هل الاشتراكيون في البلدان الغربية مجرد موظفين لدى المؤسسات المالية العالمية ، ينفذون سياساتها دون اتخاذ التدابير الاحتياطية الضرورية ؟ ليس النبش في أصول الاشتراكية، محاولة أصولية من أجل إيجاد أجوبة لأسئلة الحاضر في الماضي، بل فقط للتعرف على المقاربات التي قدمها الاشتراكيون من جانبي التشخيص والبدائل آنذاك، وكيف تطورت الأمور إلى الآن. ثورة صناعية… وظهور قوى جديدة: لتسهيل حياته المعيشية، سعى الإنسان منذ القدم، باحثا على الوسائل التي تمكنه من التحكم في الطبيعة وتطويعها لخدمته، وقد انبهر كثيرا بالقوة الكبيرة التي تصدر عن الماء والريح واستعملها في مجالات كثيرة من مجالات العيش، لكنه لم يستطع التحكم فيهما ونقلهما كما يشاء، وبالتالي ظلت استعمالاتها محلية، إلى أن تم اختراع الآلة البخارية في القرن الثامن عشر، التي بواسطتها سيتم تحويل الطاقة الحرارية لبخار الماء إلى طاقة ميكانيكية، كأول مصدر لطاقة مسيطر عليها من طرف الإنسان. إلى جانب الآلة البخارية، مصدر الطاقة الميكانيكية التي عوضت العمل اليدوي بالمكننة، شهدت بلدان أوروبا الغربية خلال القرن الثامن عشر نهضة علمية شاملة فتنوعت الأبحاث والتجارب لتشمل مختلف فروع العلم مما أدى إلى اختراعات واكتشافات جديدة مهمة كانت السبب المباشر في قيام الثورة الصناعية خلال القرن التاسع عشر، وهي ثورة كان لها الأثر البالغ على الحياة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية سواء في أوروبا أو خارجها، فأدت إلى استعمال الآلة وإدخال طرق استغلال جديدة في الفلاحة مما أدى إلى الاستغناء عن العمال الفلاحيين،وتعويضها بيد عاملة رخيصة لا تنتمي إلى فئة الفلاحين بالضرورة، من جهة. من جهة أخرى، ومع تزايد الحاجة إلى المزيد من الإنتاج لتغطية الطلب على المواد المصنعة، عمد أصحاب المعامل إلى البحث عن الرفع من المردودية بجميع الوسائل، وظهرت ما سيسمى لاحقا بالطبقة العاملة الصناعية، طبقة عانت أشكالا متنوعة من الاستغلال البشري الجمعي ، وهي حالة سيعرفها تاريخ البشرية لأول مرة….. فاستشعر المثقفون الإنسانيون أن الثورة الصناعية في طريقها إلى القضاء على المجتمع القديم وإقامة مجتمع جديد مكانه يتسم ببروز طبقتين: طبقة أرباب العمل مكونة من الصناعيين والتجار والمصرفيين، وأخرى مكونة من جيوش العمال النازحين إلى المدن. على المستوى السياسي، كانت دول أوربا تعرف صراعات وثورات كبيرة على المستويين الداخلي والخارجي، وكان للثورة الفرنسية (نهاية القرن الثامن عشر) الأثر الكبير على الأفكار والعقليات من خلال إعلان حقوق الإنسان والمواطن. ظهرت أولى الكتابات التي يمكن أن ننسبها إلى الفكر الاشتراكي في العشرية الثانية للقرن التاسع عشر، ثم مع بداية النصف الثاني لهذا القرن لم يظهر فقط مفكرون وفلاسفة وعلماء اقتصاد وعلماء اجتماع، ينظرون للفكر الاشتراكي، بل ظهرت مع بعضهم أنواع من التنظيم كأدوات لعملية التغيير من النظام الرأسمالي إلى نظام اشتراكي. في هذه المحاولة سنتوقف عند ثلاثة نماذج نظرية للفكر الاشتراكي، من خلال ثلاثة مفكرين، أبدعوا في الفكر الاشتراكي، كانت لهم أطروحات متباينة، وكان لهم الأثر الكبير على مسار هذا الفكر وما انبثق عنه من حركات سياسية وأشكال تنظيمية، وهم كل من: بيير جوزيف برودون وكارل ماركس وإدوار برنشتاين. ثلاث مقاربات للاشتراكية: بيير جوزيف برودون (1809-1865): ولد بيير جوزيف برودون في مدينة بزانسون Besançonبشرق فرنسا في سنة 1809، كان والده صانع خمور وكانت أمه طباخة. بخلاف العديد من المنظرين الاشتراكيين المعروفين من أمثال سان سيمون وماركس وإنجلز ولينين الذين ولدوا في عائلات ميسورة، كانت عائلة برودون من العامة. مارس عدة مهن واستقر به الأمر بإنشاء مطبعته الخاصة وممارسة الصحافة، كانت حياته زاخرة بالأحداث مر خلال فترات منها بصعوبات مادية وسياسية قاسية، وعاش المحاكمات السياسية والثورات والنيابة البرلمانية والاعتقال والنفي. توفي سنة 1865 مستنفذا طاقته، تاركا وراءه العديد من المؤلفات التي لم تحض بالتلخيص بسبب ضيق وقته. يعزو المؤرخون إلى بيير جوزيف برودون (1809-1865) تأسيس تيار الاشتراكية الفوضوية، هو الذي كان يرفض أن يتم إطلاق تسمية الفوضى على النظام الذي ينظِّر له، بل كان يصف نظامه بأنه نظام اشتراكية اللاسلطة (socialisme an-archique)، فكان يقول: « الحرية هي اللاسلطة لأنها لا تقبل حكم الإرادات بل تقبل فقط سيادة القانون».وقد قام في كتابه «في مبدأ الفدرالية والحاجة إلى تجديد حزب الثورة» بتسليط الضوء على أنظمة الحكم الأربعة الممكنة في نظره: نظام السلطة: ويقسمه إلى صنفين: أ) حكم الكل من طرف فرد واحد (السلطة في يد فرد واحد). ب) حكم الكل من طرف الكل (الشيوعية). نظام الحرية: ويقسمه كذلك إلى صنفين: أ) حكم الكل من طرف كل واحد (الديمقراطية). ب) حكم كل واحد لنفسه، (الحكم الذاتي). من بين هذه الأنظمة، يدافع برودون عن النظام الأخير (نظام الحكم الذاتي) الذي يرى فيه أنه النظام الوحيد القادر على منح الناس الحرية التي يسعون إليها، وهو النظام الذي سيحد من الفوضى التي خلقها النظام الرأسمالي داخل المجتمع. ويعتبر الحلول التي يقدمها هذا النظام قريبة من الواقع، بخلاف بعض النظريات المتكاملة المعاصرة له (في إشارة إلى آراء ماركس) التي تبتغي تطويع الواقع العنيد ليتوافق معها. ينطلق برودون في بناء نظريته حول «الحكم الذاتي» من كون أن الإنسان تتجاذبه نزعتان: الأنانية والإيثار، وأنه لا يمكنه التخلص من أي منهما، وبالتالي ما عليه إلا خلق المصالحة بينهما، فيرى أن نزعة الأنانية تجد نفسها في تنافسية السوق، ونزعة الإيثار تجد نفسها في التضامن، وبالتالي فإن المصالحة بينهما يجب أن تمر عبر إقامة ضوابط للرأسمالية دون السقوط في الشيوعية. فبالنسبة لبرودون الليبرالية طريقة حياة جيدة لكن يجب منع الرأسماليين من الاستحواذ على الاحتكارات الكبرى، وهو يعتبر أن المجتمع المثالي هو المجتمع الخالي من الرأسماليين الكبار، لأنه في ظل الخلو من الرأسماليين الكبار يمكن للرأسماليين والعمال المستقلين ان يتضامنوا فيما بينهم في تشكيلات تعاضدية ويمكنهم تأسيس أبناك، يتم تسييرها بشكل تعاضدي، تقدم القروض بدون فائدة عند الحاجة، لمواجهة جبروت الأبناك الربوية الخاصة. وكان برودون من اول المنادين بألا تكون الدولة هي الساهرة على تقديم الخدمات الاجتماعية للفئات الشعبية، ولا أن تقوم بتفويتها للخواص، بل يجب توكيلها للمنظمات العمالية التعاضدية المسؤولة. بخلاف التيار العارم في القرن التاسع عشر، كان برودون يرفض تصنيف الناس تصنيفا طبقيا، ويرفض منهج الصرامة العلمية في دراسة العلوم الاجتماعية. وكان يرفض النظرية التي تقول بتقسيم المجتمع إلى طبقتين متصارعتين، فبالنسبة له يوجد داخل المجتمع فئات اجتماعية متعددة داخل كل طبقة، ويرى أن تنافس هذه الفئات الاجتماعية مسألة إيجابية يمكنها أن تخلق دينامية محركة لتطور المجتمع. لهذا يدعو برودون إلى وضع عقد اجتماعي يتيح الحياة المستقلة للأفراد، وليس من أجل إقامة حياة اجتماعية للأفراد، لأن الإنسان اجتماعي بطبعه (عكس ما يقوله روسو). ودائما في إطار الدفاع عن حرية/استقلالية الفرد يذهب برودون إلى أن استلاب الفرد مزدوج، فهناك الاستلاب الاقتصادي الذي يؤكد عليه الماديون (ماركس)، وهناك استلاب آخر هو الاستلاب السياسي. ومن أجل إعادة المبادرة للفرد يقترح برودون النظام الفدرالي كبديل للنظام السياسي القائم في عصره، فهو يرى، في النظام الفدرالي، النظام الضامن لتوازن السلطة والحرية الفردية. النظام الفدرالي عند برودون هو النظام الذي يسمح بإقامة الحرية عن طريق القرب، لأنه يحول دون أن تقوم البنيات السياسية بالتضييق على المبادرة الفردية. النظام الفدرالي لدى برودون، ينطلق من الجماعة المحلية التي تُكوِّن مع الجماعات الأخرى بشكل إرادي وحدة جهوية، ثم تتوحد الوحدات الجهوية لتكون وحدة أكبر، وهكذا… حتى نصل إلى الوحدة الكبيرة التي يمكن ان تعتبر وطنا أو أكبر من الوطن. وفي كل مرحلة تتشكل الوحدة الأعلى بشكل إرادي من طرف الوحدات القائمة، مع إعطاء الأولية للحياة المحلية في هذا البناء لكي تقوم مقام المحرك الأساسي للحياة السياسية. ظل يؤكد في كتاباته أنه ليس هناك فوضى في التجمع الفدرالي لأنه يدمج العفوية المحلية بالنظام الفدرالي ويضمن توزيع المسؤوليات أفقيا وعموديا، وأن النظام الفدرالي» هو النظام الذي سيحل، نظريا وواقعيا، مسألة التوافق بين الحرية والسلطة، بإعطاء كل واحدة قيمتها الحقيقية وكفايتها ومبادرتها، وهو الوحيد الذي يضمن، مع الاحترام التام للمواطن وللدولة، النظام والعدل والاستقرار والسلم». وكنداء أخير طالب برودون من النظام الفرنسي، مهما كان هذا النظام الذي سيقود فرنسا، بأن يعتمد النظام الفدرالي ليعطي الإشارة للفدراليات الأوربية، بأن يكون حليفها وقائدها ومثلها الأعلى. يبدو من خلال تتبع كتابات برودون، أن هناك خيطا ناظما داخلها، وهو البحث الدائم عن حرية الفرد من الاستلاب الاقتصادي والسياسي والتي لن تتأتى إلا عن طريق النظام الفدرالي، فقد كان يراهن على استغلال ما يمكن استغلاله مما تحقق من مكاسب للمجتمع الفرنسي آنذاك، لتنمية الوعي بالحرية الفردية وبالعمل الجماعي المحلي وبنظام التعاضد من اجل فرض النظام الفدرالي على المجتمع ككل. كارل ماركس (1819-1883): عالم اقتصاد وفيلسوف ألماني، نشر العديد من الكتب، ولعبت أفكاره دورا كبيرا في تأسيس علم الاجتماع وفي تطوير النظرية الاشتراكية. ماركس هو الابن الثاني لعائلة يهودية من ثمانية أبناء، كان والده محاميا اضطرته إرادة مزاولة مهنته إلى تغيير عقيدته الدينية من اليهودية إلى البروتستانتية بين سنتي 1816 و1817، أما هو (كارل ماركس)سيتم تعميده في الخامسة من عمره سنة 1824. وقد يكون لهذا الاضطرار لتغيير الانتماء الديني بالنسبة لعائلته بالغ الأثر في نفسيته، وكأنه يبرئ ذمته اتجاه ذويه مما أصابهم من اضطهاد ديني،كان أول كتاب له بعد إنهاء دراسته بعنوان «المسألة اليهودية» (1843)، الذي دافع فيه عن حرية المعتقد اليهودي وطالب الدولة الألمانية: إما بأن تعترف بالديانة اليهودية وتمنحها التمييز نفسه الذي تتمتع به المسيحية أو أن تصبح الدولة مدنية تجعل الديانات سواسية خارج مؤسسات الدولة. بالرغم من دراسته للقانون، كان ماركس مفتونا بالفلسفة، وأصبح مهتما بالفيلسوف الألماني هيغل وهو لازال لم يتجاوز العشرين سنة، فتعرف على مجموعة من الشباب (1837) تطلق على نفسها: الهيغليين الشباب، أو الهيغيليين اليساريين، كان هؤلاء الشباب يجتمعون حول لودفيغ فيورباخ وبرونو باور، كانوا ينتقدون فرضيات هيغل الميتافيزيقية، لكنهم تبنوا أسلوبه الجدلي من أجل نقد المجتمع والسياسة والدين من وجهة نظر يسارية. هذا الانخراط الفكري والسياسي لماركس في ريعان شبابه، جعله يكرس كل حياته في الاجتهاد النظري والعملي من أجل بلوغ نظام يضمن الحرية والمساواة الاقتصادية والاجتماعية، أي النظام الشيوعي. لقد كان لأفكار ماركس تأثير كبير على التاريخ المعاصر، ولازال هذا التأثير مستمرا إلى اليوم، وأصبحت أفكاره مرجعا لدى العديد من أتباعه لتفسير التطور التاريخي للمجتمع البشري. فقد كتب في الفلسفة والسياسة والاقتصاد والاجتماع مؤلفات عديدة، بعضها لم يتم طبعه إلا بعد وفاته. تعرف ماركس في بداية شبابه على المادية الفرنسية للقرن الثامن عشر، وعلى الفلسفة الألمانية الكلاسيكية، والاقتصاد السياسي الانجليزي، والاشتراكية الطوباوية الفرنسية. بنى ماركس لفكره صرحا منهجيا «التصور المادي للتاريخ»، أراد منه أن يكون أداة علمية لتحليل التاريخ والمجتمع، وهو ما أطلق عليه فيما بعد أتباعه اسم: « المادية الجدلية». لخص ماركس صرحه هذا في فقرة يعتبرها أتباعه المرجع العلمي لدراسة تاريخ البشرية، أوردها في مقدمة كتاب «مساهمة في نقد الاقتصاد السياسي»: «في إنتاج الناس الاجتماعي لحياتهم اليومية يدخلون في علاقات محددة، ضرورية ومستقلة عن إرادتهم، وهي علاقات إنتاج تطابق درجة معينة من تطور قواهم الإنتاجية المادية، ويشكل مجموع علاقات الإنتاج هذه البنيان الاقتصادي للمجتمع، أي الأساس الحقيقي الذي يقوم فوقه صرح علوي قانوني وسياسي وتتمشى معه أشكال اجتماعية. فأسلوب إنتاج الحياة المادية هو شرط العملية الاجتماعية والسياسية والعقلية للحياة بوجه عام. ليس وعي الناس هو الذي يحدد وجودهم، لكن وجودهم الاجتماعي هو الذي يحدد وعيهم. فعندما تصل قوى المجتمع الإنتاجية المادية إلى درجة معينة من تطورها تدخل في صراع مع أحوال الإنتاج القائمة أو بالتعبير القانوني مع أحوال الملكية التي كانت تعمل في ظلها حتى ذلك الوقت. وتتغير هذه الأحوال التي هي قيد على الأشكال التطورية من القوى الإنتاجية. وفي هذه اللحظة تحل حقبة من الثورة الاجتماعية. فتعديل القاعدة الاقتصادية يجر في أذياله قلبا سريعا بدرجة أكثر أو أقل، لكل الصرح العلوي الهائل. وعند دراسة الانقلابات التي من هذا النوع يجب دائما أن نفرق بين القلب المادي الذي يحدث في أحوال الإنتاج الاقتصادية والتي يمكن تقريرها بدقة علية، وبين الأشكال القانونية والسياسية والدينية والفنية والفلسفية أو بكلمة واحدة الأشكال الأيديولوجية التي يدرك الناس في ظلها هذا الصراع ويجاهدون في سبيل فضه. إذا لم يكن في الإمكان الحكم على فرد طبقا لما يراه هو عن نفسه، فلن يكون في الإمكان الحكم على حقبة مشابهة من الثورة على أساس وعيها بنفسها؛ وإنما بالعكس يجب تفسير هذا الوعي بمتناقضات الحياة المادية في أحشاء المجتمع القديم. وهذا هو السبب الذي من أجله لا تكلف البشرية نفسها إلا بمهام تستطيع تحقيقها. والواقع، لو نظرنا عن كثب لاكتشفنا دائما أن المهمة لا تظهر إلا إذا كانت الظروف المادية اللازمة لتحقيقها قائمة أو في سبيل التكون على الأقل. من ناحية الخطوط العريضة نستطيع أن نعتبر أساليب الإنتاج الأسيوية والقديمة والإقطاعية في المجتمع البورجوازي الحديث كأنها حقب متدرجة في التكوين الاقتصادي للمجتمع. وتشكل أحوال الإنتاج البورجوازية الشكل المتناقض الأخير من عملية الإنتاج الاجتماعي. ولكن التناقض ليس فرديا، ولكنه ينبعث من الأحوال الاجتماعية التي يعيش فيها الأفراد. أو أن القوى الإنتاجية التي تنشأ في أحشاء المجتمع البورجوازي تخلق في الوقت نفسه الأحوال المادية التي تسمح بفض هذا التناقض، ومن ثم فبهذا التكوين الاجتماعي ينتهي عصر ما قبل التاريخ للمجتمع البشري». بالنسبة لماركس وصديقه إنجلز، الذي قلما نجد ذكر ماركس من دونه: «تاريخ كل المجتمعات البشرية حتى اليوم هو تاريخ الصراع الطبقي»، وهو محدد في أساليب إنتاج تاريخية ثلاث: العبودية، الإقطاع، الرأسمالية.وهكذا فإن البرجوازية أطاحت بالنظام الإقطاعي، لكنها ولدت البروليتاريا، وكما كان العبيد وجها لوجه مع الأرباب، فإن الرأسماليين البرجوازيين الذين يملكون وسائل الإنتاج سيجدون أنفسهم وجها لوجه مع طبقة العمال، الطبقة المناقضة لهم، وستعمد هذه الأخيرة إلى إسقاط الرأسمالية البرجوازية كحتمية تاريخية في اتجاه المجتمع الاشتراكي الذي سيكون كمرحلة انتقالية تتسلم فيها الدولة وسائل الإنتاج، ثم تأتي مرحلة الشيوعية حيث تنتفي الفوارق والتناقضات الطبقية وكذلك الدولة كدولة. لكي يقنع الناس ألف ماركس، بمعية صديقه إنجلز أحيانا وبمفرده أحيان أخرى، العديد من الكتب، وخص الاقتصادبحيز هام منها، ويعتبر كتابه رأس المالمن أهم الكتب حول الاقتصاد السياسي في القرن التاسع عشر، تناول فيه بالنقد من خلال ثلاث كتب عدة قضايا مرتبطة بالاقتصاد الرأسمالي، فعرض نظريته الشهيرة حول فائض قيمة العمل، ورأيته لكيفية نشوء الرأسمالية الصناعية وتطوها ومآلها. وفي باب تكوين الرأسمالية الصناعية، أبرز ماركس مصدرين أساسيين لرأس المال قاما بتنشيط الثورة الصناعية، ونقرأ له: «لكن العصر الوسيط نقل نوعين من رأس المال، نميا داخل أنماط الاقتصاد الاجتماعي المختلفة، وحتى انه قبل العصر الحديث، قاما لوحدهما باحتكار منزلة رأس المال، وهما رأس المال الربوي ورأس المال التجاري» (رأس المال، الكتاب الأول، الباب 31).ثم قام بإبراز نمطيْ رأس المال المحركين للاقتصاد في العصر الحديث،وهما الرأسمال الإنتاجي والرأسمال المالي (الربوي)، فسلط الضوء على التجارة في المال التي كانت محرمة إلى زمن قريب، وذكّر بواقعة إحداث بنك إنجلترا، الذي لم تملك إنجلترا منه إلا الاسم لمدة قرنين، ولم تصبح مؤسسة عمومية مستقلة إلا في عهد توني بلير سنة 1998، تقوم بضبط الاستقرار النقدي والمالي. وكتب ماركس بشأن البنوك وبنك إنجلترا على الخصوص،يقول:»منذ ولادة البنوك الكبرى تم تزيينها بعناوين وطنية، لكنها في الحقيقة ما هي إلا جمعيات لمضاربين خواص تم إنشاءها جنبا إلى جنب مع الحكومات، وبفضل الامتيازات التي كانوا (المضاربون) يحصلون عليها، كانت هذه البنوك قادرة على إقراض الحكومات المال العمومي. من هنا نجد أن تراكم الدين العمومي يقايس الارتفاع المتتالي لأسم هذه البنوك، التي يرجع تطورها الكامل إلى تأسيس بنك إنجلترا سنة 1694. بدأ البنك المذكور بإقراض جميع مدخراته المالية للحكومة بفائدة 8 في المائة، في نفس الوقت أذن له البرلمان بسك النقود من نفس رأس المال هذا وإقراضه للجمهور على هيئة أوراق نقدية سُمِح له بإلقائها في التداول، واستخدامها في خصم الكمبيالات ودفع مبالغ مقدما على السلع أو شراء معادن نفيسة. ولم يمض وقت طويل حتى أصبحت نقود الائتمان هذه، والتي هي من صنع يدي البنك نفسه، الوسيلة التي تمكن بواسطتها من تقديم القروض للدولة ودفع فائدة الدين العمومي نيابة عنها. كان البنك يمنح بيد، ليس فقط ليسترد بأخرى، بل وعلاوة على ذلك بأن يظل الدائن الدائم للشعب، ويدينه لآخر فلس. وما لبث أن صار تدريجيا وعاء جميع الكنوز المعدنية ومركز الثقل للائتمان التجاري».(رأس المال، الكتاب الأول، الباب 31). في هذه الفقرة يكشف ماركس جانبا كان غامضا لدى العموم آنذاك حول نفوذ المجموعات المالية التي تشكلت في عصر الرحلات التجارية الكبرى بالبندقية في إيطاليا، والتي انتقلتإلى هولندا، ثم إلى إنجلترا، وبعد ذلك إلى الولاياتالمتحدةالأمريكية، والتي لازالت تسحب خيوط الاقتصاد والسياسة إلى اليوم. وسيكشف لينين في كتابة « الإمبريالية أعلى مراحل الرأسمالية» كيف أن الرأسمال المالي لهذه المجموعات، وهو رأسمال بضعة بنوك احتكارية كبرى،لعائلات معروفة، اندمج في رأسمال اتحادات الصناعيين الاحتكارية، وأصبح متحكما في العالم. لقد كان ماركس يعتقد اعتقادا راسخا أن الرأسمالية تتجه موضوعيا نحو نهايتها: أولا، لأن الرأس المال الاحتكاري، بعدما نزع ملكية العامل الذي يعمل لحساب نفسه، تحول إلى انتزاع ملكية الرأسمالي الذي يستغل عمال كثيرين، مما يعني القضاء على عدد كبير من الرأسماليين بواسطة عدد قليل منهم (الرأسمالية تأكل أبناءها)، ومع هذا التناقص المطرد في عدد كبار الرأسماليين تزداد أعداد الطبقة البروليتارية والمهمشين، فتزداد بالضرورة مظاهر الفقر والظلم والاستعباد والانحطاط والاستغلال، مما سيؤدي إلى بروز تناقضات أساسية تتحدد في التناقض بين الطابع الاجتماعي للإنتاج وشكل التملك الاحتكاري الخاص، وهذا بدوره سيؤدي إلى اتساع الشعور بالظلم والاستغلال الذي يمارس من قبل فئة قليلة مالكة ضد بقية فئات الشعب، وسيترتب عن هذه التناقضات «أزمة سياسية» عميقة، ستتسبب في نشوء حالة «ثورية»، تتجسد بنشاط الجماهير السياسي الواسع من خلال التمرد على الواقع بأشكال ومظاهر متعددة. وإذا بالذين «سلبوا غيرهم ملكيتهم، يُسلبون ما يملكون». وهنا يستعين ماركس بأحد أسس المنطق الجدلي، «قانون نفي النفي» فيقول: السلب (négation) الأول يتعلق بسلب الملكية الخاصة القائمة على أساس العمل الفردي. ولكن النظام الرأسمالي يولد القوة التي تسلبه أي تنفيه، وهذا هو سلب السلب (نفي النفي)، هذا السلب الثاني لا يؤدي إلى عودة الملكية الخاصة ولكنه يعيدها على أساس الملكية المشتركة للأرض وأدوات الإنتاج. على مستوى الفعل السياسي، كان ماركس منسجما مع إيمانه بحتمية الاشتراكية، فانخرط في بناء الأداة التنظيمية للطبقة العاملة حاملة مشروع التغيير، فقام في سنة 1864 بمعية عمال ومناضلين اشتراكيين بكل من سويسراوفرنسا وبلجيكا وألمانيا، بتأسيس العالمية العمالية، وتم تكليفه بكتابة العرض الافتتاحي. في سنة 1867 سيلتحق بهذه الجمعية عمال ومناضلون اشتراكيون من كل من إيطالياوهولندا والنمسا والولاياتالمتحدةالأمريكية. في سنة 1869 ستعرف الجمعية انقساما بين أنصار ماركس وأنصار ميكائيل بكونين (814-1876)، بسبب الاختلاف حول كيفية إدارة الجمعية على المستوى التنظيمي. فبينما كان ماركس يميل إلى مركزة التنظيم وخلق الأحزاب السياسية، كان أنصار بكونين يميلون إلى اللاسلطوية واللاحزبية. فلا غرابة إن كان لينين وهو أحد أتباع ماركس يضع الانتماء للحزب الثوري تحت شرطين أساسين: الأول هو أن على كل منخرط أن يكرس حياته للحزب وألا يزاول أي أنشطة اجتماعية أخرى، الثاني هو قبوله بالمركزية الديمقراطية. إدوار برنشتاين (1850-1932): ولد برنشتاين في مدينة برلين من عائلة يهودية سنة 1850، كان والده يهوديا معتدلا، وكان لعمه الراهب هارون برنشتاين شهرة شعبية كبيرة بفضل كتبه العلمية التبسيطية، فكانت شهرة العم هارون ذات فضل على إدوار في الأوساط السياسية فيما بعد. عانى برنشتاين كباقي يهود ألمانيا من المعاداة للسامية آنذاك. ستظهر عليه أثناء دراسته، قدرته على تمثل المفاهيم الرياضية، وميوله واهتمامه بالأدب،وستمكنه نباهته في الحساب من إيجاد فرصة عمل مع احد البنكيين في سن مبكر، مما سيسمح له بتقديم يد العون لعائلته المكونة من 9 أفراد. سياسيا، تأثر برنشتاين كثيرا بالزعماء السياسيين الاشتراكيين لبداية القرن التاسع عشر، وخاصة منهم الألماني أوغيست بابل. وكانت له حياة مزدوجة بين 1871 و1878، حيث كان من جهة موظفا لدى بنك عائلة روتشيلد الشهيرة، ومن جهة أخرى كان يؤطر الندوات في أوساط الاشتراكين الديمقراطيين الألمان. انخرط سنة 1872، عن طريق الحزب الديمقراطي الاشتراكي العمالي الألماني، في العالمية العمالية التي كان يقودها رائدا الفكر الاشتراكي آنذاك ماركس وإنجلز. سيبدأ حياة المنفى سنة 1878، بعد أن تبنت دولة ألمانيا قوانين متشددة ضد الاشتراكيين، مما دفعه إلى الانضمام إلى الماركسيين، فعاش في سويسرا لمدة 10 سنوات إلى أن تم طرده منها سنة 1888، فالتحق بلندن وعمل سكرتيرا لإنجلز، قبل أن يعينه هذا الأخير الوصي التنفيذي لإرثه. وبعد عودته إلى ألمانيا سنة 1901، عاش مفكرا ومنظرا داخل الحزب الاشتراكي الديمقراطي الألماني، ولفترة قصيرة داخل الحزب الاشتراكي الديمقراطي الألماني المستقل قبل عودته إلى حزبه الأول، يتدافع مع رفاقه في ظروف سياسية مضطربة هي ظروف النصف الأول للقرن العشرين (الحرب العالمية الأولى والاضطرابات الاجتماعية). توفي برنشتاين يوم 18 دجنبر 1932، بعد 12 يوما من الانتصار الانتخابي للنازية الذي سيوصل هتلر إلى الحكم. استفاد برنشتاين كثيرا أثناء وجوده في إنجلترا مع مؤسسي الماركسية، فدرس هذا الفكر عن قرب، واطلع على أمهات الكتب لماركس وإنجلز، المنشورة والتي كانت لا زالت لم تنشر بعد آنذاك، ولا بد أنه ناقش رفيقه ومشغله إنجلز في العديد من الأفكار والمفاهيم. لمكر التاريخ، بعد وفاة إنجلز سنة 1895، سيحقق الاشتراكيون الديمقراطيون الألمان نجاحا انتخابيا باهرا سنة 1898 بمليونين ومائة ألف صوت بعد أن رفعت الدولة الحضر عليهم . ورغم أن مقدمات قلق فكري حول عدة مفاهيم ماركسية أخذت تنتاب برنشتاين قبل وفاة إنجلز، فإنه بقي متأملا، لكن الانفتاح الديمقراطي للدولة الألمانية دفعه إلى القيام بالمراجعة التي كانت تختمر في عقله، فقام سنة 1899 بكتابة مؤلفه الشهير «الاشتراكية النظرية والاشتراكية الديمقراطية العملية»« le socialisme théorique et la social-démocratie pratique ». في كتابه هذا: الاشتراكية النظرية والاشتراكية الديمقراطية العملية، عبر برنشتاين عن حرجه الكبير لنقده لأستاذيه ماركس وإنجلز، وكان يقول، بعد تحوله للمراجعة، بأنه يستند إلى كتابات ماركس و أنجلز المتأخرة، التي اعتبرها «ماركسية ناضجة» أكثر من ماركسية ما قبل سحق كومونة باريس عام 1871. تحسبا للتهجمات التي سيتعرض لها من قبل أتباع ماركس بعد نشر كتابه،قام ببسط أسباب النزول ، فكتب يقول: «في أي مكان حيث لا يظهر أي استعداد، ليس لتبني، بل لتقبل، كتاب الجرد هذا (كتاب برنشتاين)، كما هو الحال عند أولائك الذين يشكلون خصوصا المدرسة الماركسية، أُورد سببين لذلك: السبب الأول عاطفي في الأساس، حيث من الصعب على أتباع مفكر ما انتقاد أفكاره، وأكثر من ذلك، فإن مثل هذه الانتقادات تثير بسهولة جدا شبهة افتراض شخصي. والسبب الآخر هو أنه بكلمة ماركسية لا نقصد فقط مجرد نظرية علمية، بل عقيدة سياسية. ومن الطبيعي أن أولئك الذين يشاهدون الاثنتين (النظرية العلمية والعقيدة السياسية) مرتبطتين بشكل مطلق ويتمسكون بقوة بالعقيدة السياسية سينظرون لعملية النقد للنظرية العلمية، ولو بشكل جزئي، بمثابة هجوم سياسي، وكفعل عدائي اتجاه الطبقة التي يرفع من شأنها المذهب السياسي الماركسي كقوة مسيطرة، ألا وهي البروليتاريا». في كتابه السالف الذكر دائما، سجل برنشتاين في البداية، اعتراضه على الفكرة القائلة أن بناء الاشتراكية يقوم على حتميتها التاريخية الموضوعية، لأن أي تحول يحدث بفعل مجموعة اجتماعية، ليس مسألة موضوعية صرفا، لأن هناك دائما تداخل بين الموضوعي والذاتي. ولتحديد الفرق بين «الموضوعي والذاتي» كان برنشتاين مطالبا بتحديد القياس، فاعتبر أن الذي يحدد القياس هي عناصر الوعي والإرادة والعزم البشري، فأتي بالمثال التالي: إن الحاجة إلى الأكل هي قوة موضوعية، لكن الرغبة في تغيير الأكل هي قوة ذاتية، ما هو ضروري لتحقيق فكرة أو هدف مرغوب فيهما، خارج العادات السائدة ليس ضرورة موضوعية، لأنه غير مؤسس على ضرورة موضوعية. في مجال ما، حيث لا تشير إرادة الإنسان إلى الاتجاه، يمكن أن نتحدث عن قوة موضوعية، ولكن حيث أن الإرادة تشكل عنصرا أساسيا نحن أمام قوة ذاتية. ويمكن تناول الموضوع على المستوى التاريخي كالتالي: حيث تكون هناك أهداف جماعية مقصودة (مرجوة) نحن أمام حركات تاريخية واجتماعية لقوى ذاتية، ولكن حين تكون هناك حصيلة اجتماعية، كنتيجة غير مقصودة لتصرفات أفراد أو جماعات نحن أمام قوى موضوعية؛ في التنافس الاقتصادي، مثلا، كل فرد له أهداف محددة، لكن النتيجة دائما غير ما كان منتظرا، هنا لدينا ما يبرر كلمة موضوعي. ويخلص برنشتاين إلى أنه حسب التمييز السالف الذكر بين مفهومي «موضوعي» وذاتي» يستحيل اعتبار الاشتراكية ضرورة أساسية موضوعية بحتة، لأنه إذا كانت كذلك فإن الجهود التي تبذلها الأحزاب الاشتراكية هي شيء لا لازمة له، وهي تبديد حقيقي للطاقة. بعد هذا التوضيح النظري الذي جاء في مقدمة الطبعة الفرنسية لكتابه «الاشتراكية النظرية والاشتراكية الديمقراطية التطبيقية»، تناول برنشتاين بالنقد، النص «المقدس» لدى أتباع ماركس، المقتطف من مقدمة كتاب نقد الاقتصاد السياسي، المشار إليه أعلاه، فكتب: «أود أن أشير بشكل عابر إلى أن آخر جملة في النص ألا وهي: [أو أن القوى الإنتاجية التي تنشأ في أحشاء المجتمع البورجوازي تخلق في الوقت نفسه الأحوال المادية التي تسمح بفض هذا التناقض، ومن ثم فبهذا التكوين الاجتماعي ينتهي عصر ما قبل التاريخ للمجتمع البشري]،وكلمة «الأخير»في الجملة التالية: [وتشكل أحوال الإنتاج البورجوازية الشكل المتناقض الأخير من عملية الإنتاج الاجتماعي]، هي مجرد تصريحات غير ذات قيمة، وتافهة على المستوى النظري، فهي تمثل الآن جزء من التطبيقات ويمكننا في هذه الحالة عدم الوقوف عندها». كما لاحظ برناشتين أن عبارات النص المذكور تتخللها يقينية مطلقة، ولاحظ أن ماركس يقابل الكلمتين «وعي» و»وجود» يشكل تعسفي في العبارة التالية:[ليس وعي الناس هو الذي يحدد وجودهم، ولكن وجودهم الاجتماعي هو الذي يحدد وعيهم]، وهذا يجعل ضمير وإرادة الناس يبدوان تابعين تماما لعامل التطور المادي. كما تطرق في نقده للماركسية إلى ما ورد في كتاب البيان الشيوعي فقال: أولا لم يحدث أي تدهور للوضع الاقتصادي منذ صدور «البيان»، ثانيا لم يتراجع عدد مالكي وسائل الإنتاج، بل ازداد عددهم، ثالثا لم يقترن النمو الهائل للثروة الاجتماعية بانخفاض أباطرة المال، بل ما حدث هو العكس فقد ازداد عدد الرأسماليين على مختلف درجاتهم. رابعا تغيرت أحوال الطبقات الوسطى، لكنها لم تختف من السلم الاجتماعي، خامسا لا يتم تمركز الإنتاج هذه الأيام بنفس القوة والسرعة اللتين كان قد تنبأ بهما ماركس، أما في المجال السياسي، هناك اختفاء تدريجي لامتيازات البرجوازية الرأسمالية أمام تقدم المؤسسات الديمقراطية. فخلص برنشتاين إلى أنه أمام تأثير المؤسسات الديمقراطية والضغط المتزايد للحركة العمالية، فقد انطلق عمل مضاد للاتجاهات الرأسمالية الاستغلالية، عمل مضاد لا يزال مترددا ويتلمس طريقه، ويوسع مجال عمله، لكن له أثر إيجابي من حيث دمقرطة عموم الدول الأوربية مما سيقطع الطريق أمام إمكانية حدوث كارثة سياسية،معتبرا أن كل شخص متعصب من أنصار إحداث الكوارث السياسية سيسعى جاهدا حتى الموت لعرقلة التحول الديمقراطي الملاحظ، كما تم في السابق. فتقدم برنشتاين بتوصية تحث الاشتراكية الديمقراطية أن تتوقف عن التفكير كحزب للبروليتاريا صرفا، لتصبح حزبا ديمقراطيا منفتحا على الطبقات الوسطى كذلك. وهنا تجدر الإشارة إلى أن تسمية الحزب الاشتراكي الديمقراطي تنازعها الثوريون والإصلاحيون في القرن التاسع عشر، ثم آلت في الأخير إلى الإصلاحيين. وتجدر الإشارة كذلك إلى أن برنشتاين استشعر منذ سنة 1899 خطر وجود أدبيات أصبحت محافظة داخل الفكر الاشتراكي بشكل عقائدي تقوم بتخوين كل من يجرأ على صياغة انتقادات، كأن الأمر لم يعد يتعلق بالفكر بل بعقيدة لها طقوسها وتعاليمها. ملاحظات لا بد منها… قبل الختم: ملاحظة قد تبدو هامشية، لكنها ذات أهمية بالنسبة لنا، تتعلق بأحوال الوجود(على حد تعبير الفيلسوف الوجودي كيركجورد) للمفكرين الاشتراكيين المذكورين أعلاه: ماركس وإنجلز ولينين أبناء عائلات ميسورة، أما برودون وبرنشتاين فهما من عائلات من العامة، فالأوائل حصلوا على تكوين أكاديمي عال، كانوا صارمين ويقينيين في منهجيتهم ورادكاليين في تصريف قناعاتهم، أما الآخريْن فقد كانا عصاميين في تكوين نفسيهما، نسبيين في قناعاتهما، منصتيْن لنبضات التاريخ ومتفاوضيْن مع صيرورته. في مسألة التنظيم السياسي، نلاحظ أن اختيار أي شكل تنظيمي مرتبط أساسا بالهدف السياسي للإطار الحزبي. فالحزب الاشتراكي الثوري يعتمد المركزية الديمقراطية والانضباط لتعليمات القيادة، أما بالنسبة للحزب الاشتراكي الإصلاحي فالديمقراطية شيء متحرك لا يقبل الجمود، فهي مفتوحة على كل الأشكال التنظيمية التي تمكن من إدماج عدد أكبر من المواطنين في التفكير والتسيير، ولعل فدرالية برودون تقدم نموذجا واضحا للأحزاب الاشتراكية الديمقراطية للابتعاد عن المركزية قدر ما أمكن والتوجه نحو الجهوية والمحلية أكثر في المسألة التنظيمية، لأن هذا التوجه يُمكِّن من جهة، من التخلص من العلق اللاصق بهيكل التنظيم الذي يقتات من ريعه ويمنعه من التوسع، ومن جهة أخرى، يفتح المجال للكفاءات الميدانية الجهوية والمحلية القريبة من انشغالات وهموم المواطنين للانخراط في الأحزاب الاشتراكية. على سبيل الخلاصة… بعد قرابة قرن من الزمن على رحيل آخر شخصية من بين هذه الشخصيات الثلاث، ماذا بقي من تأثير لها على المجتمعات المعاصرة؟ لقد نادى برودون بالفدرالية، وبالشكل الذي تصوره تبدو اليوم الأقرب إلى التنظيم الإداري في العديد من الدول الكبرى كروسياوالولاياتالمتحدةالأمريكية، وإلى التنظيم الإداري الجهوي في الدول الديمقراطية والتي تصبو إلى الديمقراطية، في إطار، ما يصطلح عليه اليوم، باللامركزية واللاتمركز المؤديان إلى إشراك المواطن في رسم السياسة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية للبلاد. كما أننا نرى أن عددا من مؤسسات المجتمع المدني التي كانت تخالج عقل برودون أصبحت جلية على أرض الواقع من نقابات وجمعيات مهنية وتعاضديات مهنية وحقوقية وبيئية وتنموية، فقط مسألة إنشاء أبناك تعاضدية تمنح القروض بدون فائدة لازالت صعبة التحقق. أما بخصوص تأثير ماركس، فلا يمكن لأي مؤرخ الحديث عن القرنين التاسع عشر والعشرين دون ذكره. فقد كان لنظرية ماركس وقعا كبيرا على أجيال متعاقبة، فمنذ اندلاع الثورة الروسية سنة 1918 وقيام الاتحاد السوفياتي، انطلقت العديد من الحركات الاشتراكية للاستيلاء على السلطة، حتى بلغ أن دول كوكب الأرض انقسمت بعد الحرب العالمية الثانية إلى قطبين: قطب رأسمالي بزعامة الولاياتالمتحدةالأمريكية وقطب اشتراكي بزعامة الاتحاد السوفياتي يتصارعان سياسيا واقتصاديا وأيديولوجيا على شكل حرب باردة، وساخنة في العديد من البؤر. هذه الوضعية عمرت أكثر من 70 سنة، ثم انتهت لأسباب متعددة ، ومناقشتها تحتاج إلى مقال خاص، فتحول النظام الاشتراكي في روسيا إلى الرأسمالية، لكن بمنظور خاص هو الإبقاء على دور الدولة في ضبط السوق وفتح الأوراش الكبرى. كذلك تغير الأمر بالنسبة للصين، فقد انفتحت على نظام السوق وأصبحت تنافس أقوى الاقتصادات العالمية. لألمانيا، موطن برنشتاين، تاريخ في الرعاية الاجتماعية منذ عهد بيسمارك، لذلك لا غرو إن انتشر الفكر الاشتراكي الديمقراطي كما دافع عنه برنشتاين: ضرورة مساهمة الدولة في الاقتصاد إلى جانب القطاع الخاص في إطار الاقتصاد المختلط، مع توفير الحماية الاجتماعية للمواطنين، والبحث عن توافق سياسي بين الدولة وأرباب العمل والأجراء. كانت أفكار برنشتاين تبدو مستحيلة التحقق في البداية من منظور ماركسيي ذلك العهد، لكن التاريخ سينصفه، بعد أن ألهمت أفكار جون مينار كينز الواردة في كتابه «النظرية العامة حول العمالة، والفائدة، والمال» (1936) علماء الاقتصاد بسبب تأكيده، من وجهة نظر ليبرالية، على ضرورة تدخل الدولة للزيادة في الإنفاق العام، بهدف تنشيط الطلب، لأن تراخي الطلب هو السبب المباشر للانكماش الاقتصادي، ومنذ تلك اللحظة (تدخُّل كينز) أصبح الهدف الرئيسي للمسؤولين السياسيين والاقتصاديين هو اجتناب البطالة بمواصلة الاستثمار وإنعاش الاقتصاد، ولو عن طريق تدخل الدولة. لقد ساهمت أزمة 1929 وشهرة كينز في أن يتقبل المسؤولون الاقتصاديون والماليون والسياسيون، بأوربا والولاياتالمتحدةالأمريكية، لوصفاته من أجل الخروج من الأزمة. وستلتقي فيما بعد أفكار ووصفات كينز، وخاصة منها المتعلقة بضرورة تدخل الدولة واستحالة بلوغ العمالة الكاملة، مع المشروع الاقتصادي والاجتماعي للاشتراكيين الديمقراطيين. هذا التوافق سيمكن العديد من الأحزاب الاشتراكية الديمقراطية، بالخصوص في أوربا، من الوصول إلى سدة الحكم عن طريق المؤسسات الديمقراطية في العقود الأخيرة للقرن العشرين. مع نهاية القرن العشرين وبداية القرن الواحد والعشرين، كانت الأحزاب الاشتراكية الديمقراطية تتقلد مسؤولية الحكم في أغلب دول أوربا الغربية فعاشت شعوب هذه الدول حياة الرعاية والرفاه منقطعة النظير. لكن مع بداية الأزمة الاقتصادية/المالية المندلعة منذ 2007، وجد أطر الأحزاب الاشتراكية الديمقراطية، ليس في أوربا وحدها، أنفسهم بين سندان مطالب الشعوب ومطرقة المؤسسات المالية. فأصبح لزاما على الاشتراكيين الديمقراطيين الاختيار بين التوجه يسارا متمسكين بالمكاسب والمطالب الاجتماعية للفئات التي من المفترض أنهم يمثلونها، أو التوغل يمينا للتناغم مع المؤسسات المالية لتخفيف الصدمة عليها على حساب المكاسب الاجتماعية. ولعل هذه الأسئلة وأخرى، التي تداولها ويتداولها الاشتراكيون عبر العالم، بخصوص كيفية مواجهة الأزمة الاقتصادية المالية في العالم وما يمكن أن يقدمه الاشتراكيون كحلول بديلة بعيدا عن الامتثالية للمؤسسات المالية السالفة الذكر، هي ما دفع إدريس لشكر الكاتب الأول لحزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية من طرح السؤال الكبير في المؤتمر الوطني العاشر أثناء إلقائه لكلمة الافتتاح: «هل يمكن أن تُنتهج سياسة أخرى ؟» ليجيب عليه في حالة المغرب متمسكا بالمقاربة الاشتراكية: «نقول نعم، فالكل يتعلق باسترجاع المبادرة الوطنية في مجال التدبير المالي والاقتصادي، فالمغرب في حاجة اليوم إلى صياغة نمط من التنمية لا يراهن فقط على العوامل الخارجية والعولمة، ولكن البلاد في حاجة إلى نمط تنمية، يحرك قوى الإنتاج الوطنية ويقوي القدرة الشرائية من اجل تنمية السوق الداخلية، نمط يفتح إمكانيات جديدة أمام ولوج الشركات الصغرى والمتوسطة لمصادر التمويل، وفي هذا الصدد على الحكومة وخاصة مديرية الخزينة ان تنكب على دراسة سياسة القرضية والمصرفية وان تبتكر في مجال أدوات التمويل. إننا ندق ناقوس الخطر من أن التمادي في السياسة النقدية والمصرفية المالية، قد يؤدي إلى مزيد من عوامل الإفلاس المقاولاتي، وبالتالي من فقدان مناصب الشغل، مع ما يترتب عن ذلك من تقهقر للمستوى المعيشي للأسر المغربية، وتفاقم عجز صناديق الاحتياط الاجتماعي بسبب تراجع نسبة التشغيل».