الراهن العربي: دينامية الشارع، همجية الحاكم وقصور النخبة في مقال سابق، كنت أشرت إلى قراءة استشرافية أعدّها خبراء أمريكيون، لحظة نهاية الحرب الباردة، صنفوا فيها العالم إلى جزأين: مناطق للسلام وأخرى للفوضى. ومظاهر الفوضى عديدة: تلاشي السلطة الحكومية، تمزق الدولة، تفاقم النزاعات القبلية والعرقية والدينية، ظهور المافيا العالمية السفاحة، تضاعف اللاجئين إلى عشرات الملايين،، تكاثر الأسلحة النووية، وأسلحة الدمار الشامل، انتشار الإرهاب وارتكاب المجازر والتطهير العرقي..... هذه الصور، لعالم في حالة فوضى كانت محل استشراف كتابين واسعي الانتشار صدرا سنة 1993، وهما كتاب " خارج النظام" ل" زبغنيو بريجنسكي" و"عاصمة الجحيم" ل" دانييل باترك". الفوضى، من هذا المنظور، هي "نظام" ذو روح همجية، يقف على الطرف النقيض من نظام الحضارة. الشرق الأوسط الكبير ينتسب بجدارة واستحقاق إلى مناطق الفوضى قبل أن تضع الحرب الباردة أوزارها؛ فكل أقطاره، منذ الاستقلال، كانت تعيش حالة فوضى، وكل قطر دخل استقلاله "الفوضوي" بخلفيات ومقاصد ظاهرة وأخرى خفية؛ ومع نهاية الحرب الباردة شرع كل قطر يبحث عن سبل التعايش مع فوضاه، دون أن يفكر بشكل عقلاني في صياغة رؤية دستورية ديمقراطية تضمن له شروط الخروج إلى بر السلام. بل أصرت أغلب الأنظمة على "دسترة الفوضى". الفساد تجل من تجليات هذه الفوضى، بل أخطر تجلياتها وأكثرها فتكا، وكلما تمادت الدولة والمجتمع في الصمت عنه ازداد استفحالا كمرض ماكر، وازداد جسد الدولة وهنا وهزالا. يتساءل مثقف مغربي، الدكتور إدريس لكريني عن الظاهرة الأكثر خطرا: الإرهاب أم الفساد؟ ويرى أن الفساد هو إرهاب. أبناء هذا الشرق الأوسط الكبير، اليوم، حالهم كحال الأيتام في مأدبة اللئام: لئام بني جلدتهم ولئام مافيا الغرب. مغربنا الكبير جزء من الشرق الأوسط الكبير، وهو بالتالي ينتمي إلى هذه "الفوضى" التي تزداد شهيتها انفتاحا كوحش جائع كلما افترس ضحاياه اشتد جوعه. هذا الوحش فريد من نوعه، هلامي ومتعدد الأذرع والأفواه، ينتشر في جسد المجتمع والدولة كنسيج العنكبوت: الفساد بلوبياته المتخصصة في نهب المال العام، وتزوير الحياة السياسية وبقرطة الإدارة... شبكات المتاجرة بالتهريب والمخدرات والدعارة... جماعات غامضة تمارس الإرهاب باسم الإسلام... وتدخلات أمنية تثير الحيرة والاستغراب كما قد تثير الخوف.. بعد فوز بوتفليقة بعهدة ثالثة، كتب المؤرخ البريطاني المتخصص في دراسة الشرق الأوسط المعاصر روجر أوين مقالا تحت عنوان : « بوتفليقة وتجديد الرئاسة : دينامية الأنظمة وتناقضاتها الداخلية » تحدث فيه عن الانتخابات الرئاسية التي مكنت بوتفليقة من البقاء رئيسا مدى الحياة، وقد طرح في مقاله سؤالين : السؤال الأول : ما سبب استمرار هذا الوضع في العالم العربي في زمن أصبحت فيه الدموقراطية هي المعيار في الحكم؟ السؤال الثاني : كيف يمكن تحليل بنى السلطة الموجودة في هذه الأنظمة؟ ويخلص في مقاله إلى تنامي التيار الرافض حتى من داخل هذه الأنظمة نفسها التي تحكم كيانات غير عادية، ويقترح على الغرب أن يرسي نموذجا سياسيا واقتصاديا بديلا وناجحا في إحدى الدول المهمة في العالم العربي. الجزائر من الدول التي تعيش وضعا حرجا، بعد أن استفحل في جسدها سرطان الفساد وانتشرفي هرم السلطة. هذا هو واقع الحال المغاربي، الحريات تتعرض للتضييق والحقوق تتعرض للانتهاك والفساد ينتشر كما تنتشر النار في الهشيم، تدني مستوى المعيشة واتساع رقعة الفقر والبطالة، أما الإفلات من العقاب فحدث ولا حرج. فمن يحمي الفساد؟ ومن يحمي المفسدين؟ أغلب المفسدين يمارسون النهب بطرق قانونية، وإذا حدث وافتضح أمر أحدهم، فله أكثر من حليف في جهاز القضاء. هل هناك أمل في الأفق؟ أرجو من القارئ أن يعذرني، فكل كتاباتي تتمحور حول الهم المغاربي، وبالتحديد، الهم المغربي الجزائري. الأمل موجود، وإن لم يكن موجودا، فما علينا سوى خلقه؛ أو على حد تعبير الفيلسوف الألماني نيتشه: إذا لم يكن لك أب جيد، فما عليك إلا أن تبتكر واحدا. أثق في المغرب، ولا أقول أخاف أن تخيب ثقتي، بل أقول: هل نحن المؤمنين (تخصيصا) بمغرب ديمقراطي، هل لنا القدرة على دعم المبادرات الملكية؟ أطرح هذا السؤال، لأن هناك من يعمل على إفشالها واحتوائها. المغرب هو آخر قلعة للسلام في فضائنا المغاربي، وهذا الفضاء هو ساحة معركة تدور بين جبهتين: جبهة السلام وجبهة الفوضى؛ جبهة تحاول الانتصار للديمقراطية والتنمية وحقوق الإنسان... بينما الثانية تجندت سرا وعلنا لتعميم الفوضى. لقد تبين الخيط الأبيض من الأسود، ففي الوقت الذي يبادر الملك محمد السادس، ويقترح بدائل ديمقراطية كفيلة بعلاج نزاع الصحراء وما ترتب عنها من مشاكل وأزمات، يصر النظام الجزائري على تحويل الأزمات إلى كوارث، وبالتالي، تأجيج الفوضى التي زرعها في أرض الجزائر بمهنية عالية، والاستماتة في تعميمها مغاربيا. المعركة- ظاهريا. تبدو بين دولتين، غير أن الصراع في العمق يدور بين مشروعين: مشروع الديمقراطية والعقلانية، ومشروع الاستبداد والقمع والفوضى؛ مشروع يصغي ويبصر ويحاور ومشروع أصم وأعمى وأخرس. إن مشروع الديمقراطية والعقلانية لن ينجح إلا في المغرب وبإرادة مغربية، حتى ولو أجمعت كل عصابات العالم على إفشاله؛ وبالمقابل، وإذا انعدمت هذه الإرادة أو تقاعست، فلن تقوم لهذا المشروع قائمة حتى ولو أجمعت على إنجاحه كل القوى الديمقراطية في العالم. ثمة أمل يحتاج من القوى الديمقراطية وحدة الصف، مغربيا فمغاربيا. فجبهة الفساد، التي ترعى الفوضى بوعي أو بدون وعي، عناصرها تتحالف فيما بينها أو تتواطأ وتتبادل الخبرات. فمن يبتلع الآخر: السلام أم الفوضى؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟ عن الصحراء الأسبوعية 10يناير 2011