هل تسير حضارتنا رأساً صوب الهاوية؟ ذلك هو السؤال الذي أدار عليه إدغار موران، عالم الاجتماع والفيلسوف الفرنسي، وأحد كبار المفكرين وأكثرهم أصالة في زمننا الحاضر، كتابَه الجديد، الذي نقدم له ههنا ترجمة عربية. إنه كتاب يجمل فكر صاحبه، من رحلة طويلة في مقاربة الواقع العالمي المتغير وسؤال الفكر الملاحق لتغيراته. والمؤلف يستعرض في هذا الكتاب أوجه الأزمة التي تتخبط فيها الحضارة الحديثة، ويتوقف بإسهاب عند الإصلاح الذي يقترحه للعالم ولنظم التفكير. ويقلب النظر في ظواهر بعينها، كالعولمة، وظهور «المجتمع العالم»، ويتمعن في الجواب الذي يمكن أن تقدمه «سياسة حضارية» في سياق ما بعد أحداث 11 شتنبر. ليخلص إلى نتيجة أنه لاسبيل لحضارتنا إلى الخروج من أنفاقها المسدودة بغير التحول. لقد أتاح التقدم العلمي إنتاج الأسلحة النووية وأسلحة أخرى للدمار الشامل، كيماوية وبيولوجية، وأتاح لها الانتشار الواسع. وتسبب التقدم التقني والصناعي مسلسلاً من التدهور في المحيط الحيوي. وخلقت عولمة السوق الاقتصادية، المفتقرة إلى تقنين خارجي وإلى تقنين ذاتي حقيقي، جزيرات جديدة للثراء، كما خلقت مناطق متنامية للفقر، كما في أمريكا اللاتينية وفي الصين. وكانت هذه العولمة، وتكون، كذلك، سبباً في خلق أزمات متناسلة، وتسير في اتساع متواصل، يتهدد بالفوضى والسديم. إن تطور العلم والصناعة والاقتصاد التي باتت اليوم تدفع الوعاء الفضائي للأرض، ليست محكومة لا بسياسة ولا بأخلاق ولا بفكر. إن الاتساع والتسارع الذي سارت إليه هذه العمليات من غير مراقبة، يمكن اعتبارهما كتغذيات راجعة (مفعولات ارتجاعية) إيجابية، وهي مفعولات تشكل قطيعة للتقنينات عن طريق التضخيم والتسريع في التكرارات المتصلة بها. وهكذا، فإن ما يبدو أنه ينبغي أن يضمن التقدم البشري يحمل بحق أوجهاً من التقدم المحلي وإمكانيات لتقدم مستقبلي، لكنها تخلق وتفاقم من مخاطر قاتلة للبشرية. ومن المفارق أن هذه التطورات ترافقها أوجه عديدة من التراجع يمكنها أن تتبدى في صورة ارتداد إلى البربرية. إن الحروب في تكاثر في كوكب الأرض، وقد بات يغلب على معظمها الأسباب والدوافع العرقية والدينية. فأينما وليت وجهك رأيت النظام في تراجع والعنف يكتسح بشتى أشكاله المناطق الواقعة في ضواحي المدن. وأصبحت الجريمة المافيوزية ممارسة جارية في سائر أنحاء المعمور. وبات قانون الانتقام بديلاً عن قانون العجالة، بزعم أنه العدالة الحقة. وباتت التصورات المانوية تستحوذ على الأذهان فهي تفتخر بأنها هي العقلانية. ويجوز لنا أن نعتبر هذا التنامي للسيرورات التراجعية بمثابة تغذية استرجاعية إيجابية مفككة ومخربة، تتضافر مع تغذية استرجاعية إيجابية للمحرك الرباعي الذي مكوناته العلم والتقنية والصناعة والاقتصاد. وتطلع علينا الهمجية الحقودة من أغوار التاريخ لتتضافر مع الهمجية المجهولة والجامدة متمثلة في التقنية الخاصة بحضارتنا. وإن تحالفهما ليهدد كوكب الأرض. وقد كنت أشرت، قبل وقت طويل، إلى أن الشرق الأوسط يقع في قلب منطقة زلزالية تمتد على جماع الكرة الأرضية؛ وتتواجه فيها الأديان، وتتواجه فيها الأديان واللائكية، ويتواجه فيها الشرق والغرب، والشمال والجنوب، وتتواجه فيها البلدان الفتية والفقيرة مع البلدان الغنية والعجوز . وقد كان الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، الواقع في قلب هذه المنطقة الزلزالية، يشكل من نفسه سرطاناً توشك أن ينتقل ليعم أصقاع المعمور. ولقد ابتدأ هذا الأمر بالفعل، على أثر التطورات الجديدة التي نجمت عن زيارة شارون إلى باحة المسجد الأقصى، فاندلاع «الانتفاضة الثانية»، وتوقف مفاوضات كامب دفيد، والتدخلات المكثفة التي صارت القوات الإسرائيلية تقوم بها في الأراضي الفلسطينية؛ كلها أمور تشكل جائرة جهنمية، ما عاد في الإمكان اليوم حصر مداها. ذلك بأن القمع القاتل الذي تنتهجه إسرائيل قد أطلق موجة من العداء لليهودية لم يسبق لها مثيل في العالم الإسلامي، جاءت لتبتعث موضوعات العداء المسيحي لليهودية (التضحية بالأطفال الغوييم في عيد الفصح اليهودي)، والعداء الغربي لليهودية القومية (المؤامرة اليهودية للهيمنة على العالم)، وتعمم العداء لإسرائيل حتى صار عداء لليهود. وأطلق العنف الأعمى الذي يحرك الانتحاريين موجة من العداء للإسلام، ليس في إسرائيل وحدها، بل وفي الغرب أيضاً، وليس عند يهود الشتات وحدهم، بل صار يعم كثيراً من الأوساط المختلفة، كما يشهد عليه كتاب أوريانا فالاسيل ضد الإسلام، التي طابقت بين هذا الدين والفرع المتعصب والرجعي منه. ولن يكون لتفاقم هذه الوضعية إلا أن يخلق بؤراً جديدة للصراع في صلب الأمم. وقد ظلت فرنسا، بساكنتها العظيمة ذات الأصول الإسلامية، وساكنتها المهمة ذات الأصول اليهودية، إلى اليوم تحول دون اسشتراء أشكال العنف الهامشية التي يمارسها الشبان الفرنسيون ذوو الأصول المغاربية والتبريرات القمعية الإسرائيلية التي يسوقها الممثلون لما يسمى «الجماعة اليهودية». لكن تفاقم الصراع الإسرائيلي الفلسطيني سيؤدي إلى مواجهة بين الحقد والعنف، وستصير فرنسا اللائكية مسرحاً لحرب عرقية ودينية تتواجه فيها فئتان من المواطنين. وزيادة على ذلك، فعلى الرغم من أن تأسيس [تنظيم] القاعدة لا يتصل بشيء بالصراع الإسرائيلي الفلسطيني، فلقد صار هذا التنظيم، بعد اعتداءات كينيا، يتبنى القضية الفلسطينية العادلة لخدمة سعاره الإرهابي غير العادل.