لإدغار موران، الفيلسوف الفرنسي صاحب نظرية التعقيد واستراتيجية الفكر المركب، في دار توبقال كتابان: الأول بعنوان «الفكر والمستقبل»(2004) وهو ترجمة لكتابه «مدخل إلى الفكر المركب»(1991)، كان قد أنجزها الأستاذان أحمد القصوار ومنير الحجوجي، والثاني بعنوان «ثقافة أوربا وبربريتها»(2007)، وهو ترجمة لكتابه الصادر عن(بايار2005)، أنجزها الأستاذ محمد الهلالي. والكتابان معا يضيئان فكر فيلسوف عنيد، يُعمل مبضع النقد والتشريح في جسد الثقافة، ليكشف عما يكمن خلف بداهة مفاهيمها وتصوراتها ونزعتها التبسيطية المريبة، من عناصر التعقيد التي تفرض على الفيلسوف التسلح بمعرفة متشعبة، تستدعي عناصرها الاستدلالية من العلوم الفيزيائية والبيولوجية ومن الآداب والتاريخ والعلوم الإنسانية. وهذه الإستراتيجية التركيبية في النقد والتحليل، هي التي انتهجها إدغار موران في جل أعماله، غير أنه في كتابه الجديد، الصادر عن دار توبقال، سيتكئ أكثر على قراءة مغايرة لتاريخ الثقافة الأوربية، في محاولة للكشف عن بربريتها، التي أخذت أبعادا أكثر خطورة في القرن العشرين. ولا بد من التذكير، في البداية، أن المقالات الثلاث المكونة لمتن الكتاب، هي، في الأصل، عبارة عن محاضرات أُلقيت بمكتبة فرانسوا ميتران الوطنية بتاريخ 171819 ماي 2005. يبدأ إدغار موران محاضرته الأولى «بربرية أوربية»، بتقديم لمحة مختصرة عن «أنتروبولوجية البربرية الإنسانية»، انطلاقا من فرضية تركيبية، تعتبر الإنسان المفكر قادرا، في الآن نفسه، على «الهذيان والحمق»، والإنسان الصانع قادرا على «إنتاج أساطير لا تحصى»، مثلما أن الإنسان الاقتصادي يمكن أن يكون «إنسان اللعب والإنفاق والتبذير». وهذا التعقيد الدّامِج لخصائص إنسانية «متناقضة» سيضيء لإدغار موران الطابع المُركَّب ل«البربرية الإنسانية»، حيث يوجد «الحمق المنتج للهذيان والحقد والازدراء» والإفراط والمغالاة (ص5). وإذا كان هذا «الحمق» يجد ترياقه في «العقل»، فإن هذا الأخير لا يخلو مفهومه من التباس، لذلك يذهب إدغار موران إلى أننا عندما نعتقد أنفسنا «داخل العقلانية» لا نكون، في واقع الأمر، إلا «داخل العقلنة» بما هي «نسق منطقي.. يفتقد الأساس التجريبي الذي يسمح بتبريره»(ص6). يميز إدغار موران، ضمن تصوره الأنتربولوجي للبربرية، بين ثلاثة مجتمعات تفصح عن النمو المتصاعد للفكرة والسلوك البربريين: هناك «المجتمعات الأولى» التي تتكون من بعض مئات الأفراد «تعاطوا للصيد وجني الثمار»، وهي مجتمعات «أنتجت تنوعا هائلا في اللغات والثقافات والموسيقى والطقوس»، عبرت عن اكتفائها الذاتي، ولم تكن في حاجة إلى غزو أراضي الغير، بالرغم من كونها خبرت حروبا محلية وربما اغتيالات. وهناك «المجتمعات السحيقة في القدم» الخاضعة ل «رابطة الأخوة» و«أسطورة الجد المشترك»، التي جعلتها أقل عدوانية وبربرية، ومن هذه المجتمعات انبثقت الحضارات الكبرى «التي تضم آلاف بل ملايين الأفراد الذين يتعاطون للفلاحة ويبنون المدن وينشئون دولا وأديانا كبرى، ويبنون جيوشا ويطورون التقنيات بوفرة»(ص7). ثم هناك «المجتمعات التاريخية» التي ارتبطت بسلطة الدولة وبالغلو الجنوني الذي دفعها إلى تنفيذ غزوات لضمان «الحصول على المواد الأولية أو احتياطات المؤونة»، كما دفعها إلى ممارسة عمليات الإبادة والتخريب والسلب والاغتصاب والاسترقاق (ص 7). ويربط إدغار موران تاريخ هذه المجتمعات بتاريخ الحروب التي «لم يهدأ لها ساكن»، لكن هذا التلازم لم يمنعه من ملاحظة أنها مجتمعات «أنتجت إلى جانب البربرية ازدهار الفنون والثقافة وتطور المعرفة وظهور نخبة مثقفة» (ص8 ). ويعطي إدغار موران أمثلة متنوعة عن تطور النزعة البربرية الأوربية، بدءا من «العصر القديم» لدى الرومان واليونان، وصولا إلى «العصر الحديث» مع تشكل «الأمم الأوربية الحديثة: إسبانيا، فرنسا، البرتغال، إنجلترا». وفي كل ذلك، يؤكد إدغار موران على تلازم مستعص بين الحضارة والبربرية، جعل أوربا تختبر كل «أشكال البربرية الخاصة بالمجتمعات التاريخية» (ص11) كالتعصب الديني، والتطهير العرقي، وتصفية المجتمعات الصغيرة العتيقة، والاسترقاق، والاستعمار، ونشر الأمراض. هناك خمسة قرون من «البربرية الأوربية» لم تخل، في رأي موران، بالرغم من ضراوتها، من «مفعولات حضارية» نَتَجت عنها «اتصالات خلاقة» و«امتزاجات بين الثقافات». وإذا كان من الصعوبة الحسم في جوهرية الخصائص الايجابية أو عرضيتها، فإن هذا الواقع ينبغي أن يدفع، في رأي موران، نحو «التأكيد على التعارض والتعقيد الملازمين لتحديد ما ينتمي إلى البربرية وما ينتمي إلى حضارة» (ص 20). في المحاضرة الثانية «الترياقات الأوروبية»، يكشف إدغار موران عن الكنوز المطمورة في «الثقافة الأوربية»، والتي تشكل «مضادات واقية» بإمكانها أن تكشف، ليس فقط الوجه الآخر للحضارة الأوربية، وإنما أيضا أحد عناصر الترياق الكفيلة ببعث الروح في فكرة الأخوة الإنسانية. وهذا النقد المتفائل يرتبط، في الواقع، بأطروحة الفكر المركب التي يصدر عنها إدغار موران، والتي تجعله يقول بوجود متزامن ل «فكر عقلاني تقني وعملي، وفكر سحري وأسطوري ورمزي» في كل المجتمعات، حتى البدائية منها(ص25). عناصر الترياق يجدها إدغار موران في «النزعة الإنسية الأوربية» التي بدأت تتكون إبان النهضة، لكن جذورها الأولى تعود، في رأيه، إلى اليهودية والمسيحية، حيث «الإنسان هو صورة عن الله، وحيث يتجسد الله في الإنسان» (ص24). وهو التصور الذي أدى، في رأيه، إلى «احترام الحياة الإنسانية»، لكنه قاد أيضا إلى «النزعة الساذجة المتمركزة حول الإنسان»، التي ستصبح «مصدرا لجنون العظمة». إن «روح الأخوة» ستنبثق من المنبع الديني المسيحي، لتنضم إلى المنبع الثاني المتمثل في «العقلانية اليونانية»، وبذلك «سيرتبط العاطفي بالطابع الجليدي للعقلانية لتشكيل النزعة الإنسية الأوربية»(24). يميز إدغار موران، في هذه النزعة، بين وجهين: الوجه الأول الوهمي أو «الهاذي» الذي يجعل الإنسان «الذات الوحيدة في الكون، ويخصه بمهمة غزو العالم. إنها المهمة التي يسندها ديكارت إلى العلم: جعل الإنسان سيدا ومالكا للطبيعة». وهي المهمة التي سيستأنفها فلاسفة آخرون، إلى أن تصل لحظة الانفجار، ابتداء من 1970، عندما أدرك الجميع أن السيطرة على الطبيعة تقود إلى «تدهور المحيط الحيوي»، وبالتالي إلى «تدهور الحياة والمجتمع الإنسانيين». ثم هناك الوجه الثاني الذي ينبغي أن نتجه إليه في النزعة الإنسانية، والذي يفرض «احترام جميع الكائنات الإنسانية كيفما كان جنسها، عرقها وثقافتها وأمتها»(ص25). لكن المؤسف أن «الغرب الأوربي» جعل هذه النزعة الإنسية تقتصر على المنتسبين إليه، وأقصى منها الشعوب الأخرى المختلفة التي اعتبرها بدائية وبربرية، ولم يجد فيها أبدا «فرصة للاغتناء والمعرفة». إن التأمل المركب لتاريخ أوربا سيقود إدغار موران إلى إقرار فكرتين معقدتين، تتمثل الأولى في اعتبار أوربا مقر السيطرة والغزو، هي أيضا فضاء تشكل الترياق، أي «الأفكار التحررية» المستلهمة من النزعة الإنسية، وتتمثل الفكرة الثانية في السيرورة التي يسميها ب«العهد الكوني»، التي بدأت، برأيه، بغزو الأمريكيتين والطواف البحري للملاحين البرتغاليين والإسبان حول الكرة الأرضية. وبقدر ما كانت هذه السيرورة مرتبطة ببربربة الغزو والاستعباد، بقدرما كانت تحمل، برأيه، «بذور القضاء على الإستعمار والتخلص من الاستبعاد»(ص 32). إن العولمة الثانية (الأمريكية)، مهما بدت مختلفة عن العولمة الأولى(الإسبانية)، فهي تحمل، في رأيه، «الآمال التحررية للبشرية»(ص33). وهذه النزعة التفاؤلية لا تخفي، مع ذلك، قلق موران العميق تجاه الأرض السفينة الفضائية التي «تسير اليوم بأربعة محركات: العلوم، التقنية، الاقتصاد، والربح». وهذه المحركات تجعلها منقادة نحو «كوارث دون أن يتمكن أحد من التحكم فيها»(ص 38). يخصص إدغار موران محاضرته الثالثة ل«التفكير في بربرية القرن العشرين»، فيشير، في البداية، إلى بربرية ارتبطت بفكرة الأمة، ظهرتْ في نهاية القرن الخامس عشر، ويعود إليها هذا الهوس بالتطهير والنقاء والصفاء الديني والإثني الذي سيتحكم في كثير من نزاعات وحروب القرن العشرين، مع الأنظمة التوتاليتارية الفاشية والنازية. ولم يخل النظام الستاليني بدوره من بربرية التطهير التي مست العقول المختلفة، وجعلت الدولة مجرد أداة في يد الحزب. إن الوعي ببربرية أوربا، يقتضي، في رأي إدغار موران، «المطالبة بإنسية جديدة» (ص57)، تتم عبر الاعتراف بجميع الضحايا، بحيث لا يُقرأ تاريخ المأساة الإنسانية فقط انطلاقا من معاداة السامية، وإنما يشمل كذلك السود والغجر والأرمن وكل جغرافيات الاستعمار الغربي، دون نسيان الفظاعة النووية الأمريكية في هيروشيما. وحتى لا تبقى أوربا أسيرة وعي شقي، لا بد أن «يُدمج في وعي البربرية الوعي بأن أوربا تنتج، عبر الإنسية، الكونيةَ والتطورَ التدريجيَ لوعي عالمي، كما تُنتج ترياقَ بربريتها الخاصة» (ص 58).