كتب الدكتور أحمد الريسوني الخبير بمجمع الفقه الإسلامي الدولي بحثًا مقدمًا لندوة التميز البحثي في فقه القضايا المعاصرة بعنوان " الاجتهاد المصلحي مشروعيته ومنهجه" وقد أثار البحث قضية هامة من قضايا السياسة الشرعية ومما جاء في هذا البحث: المسئولون والموظفون الذين تسند إليهم وظائف وتكاليف تكون محرمة إما في أصلها أو يدخل الحرام والفساد في بعض صورها ولوازمها. فمن تولاها وهو كارهٌ لها، ولما فيها من الفساد، ولكنه قبلها ليقوم بما هو مستطاع من تقليص مستمر لفسادها وضررها، مما لا يفعله غيره ممن يبقون الأمر على ما هو عليه، أو يزيدونه فسادًا على فساد، فهذا يعتبر مُصلِحًا ومحسنًا، وهو مأجورٌ على عمله في تقليل الحرام والفساد، والظلم والضرر،معذور فيما يقع تحت يده أو يسكت عنه من فساد لا يقصده ولا يرضاه ولكنه لا يملك تغييره. فعلى سبيل المثال: العمل في الإدارات الحكومية التي تمنح رخص بيع الخمر أو إنتاجه أو استيراده أو تتولى المراقبة القانونية للنشاط التجاري والصناعي في هذه المجال. ومثلها الإدارات المكلفة ولمشرفة على إنتاج التبع (الدخان) وبيعه.ومثلها الإدارات المكلفة بالإشراف على فتح ا لفنادق وتسييرها، وكثير منها يكون ميدانًا لرواج الخمور والمخدرات، وغيرها من المحرمات. فهذه الأمور وأمثالها عادة ما تكون لها شروط وضوابط ومراقبة قانونية تترتب على مخالفتها عقوبات قد تصل إلى المنع والإغلاق والسجن. فمن تساهل وتغاضى في ذلك مع أصحابها لأي سبب أو دافع،فإنه إنما يسهل ويشجع ويوسع دائرة الحرام والفساد وهو بذلك شريك لهم. ومن ضيق الخناق في الترخيص لهم، وتشدد في مراقبتهم ومحاسبتهم وإلزامهم بكل الشروط والضوابط والتبعات والعقوبات المتعلقة بهم ونجح بذلك في تضييق الحرام والفساد فإن عمله على هذا النحو يصبح جائزًا أو مطلوبًا ومأجورًا عليه وهو لا يحاسب على مالا يرضاه ولا يد له في إيجاده وإبقاءه، ولا سبيل له إلى منعه وإزالته بل يجازى ويؤجر على ما نجح في تقليصه وتقليله. ومن هذا الباب أيضًا قبول تولي إدارة مؤسسة إعلامية كإذاعة أو قناة تلفزيونية- فيها كثير من الفساد والمخالفة للشرع، لكن بغية تكثير صلاحها ونفعها، وتقليل فسادها وضررها على أن يحصل هذا بالفعل، لا أن يكون مجرد أمنية ونية. ولاشك أن هذا مسلك خطر وحرج، لا ينبغي لكل أحد أن يغامر بولوجه، كما لا تجوز الفتوى لكل أحد بجوازه، وإنما يلجه صاحب العزيمة والشكيمة الذي (يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه) على أن يكون واثقًا من إمكانية تحقيق الإصلاح المتوخى، وأن يكون على تمام القدرة والاستعداد للانسحاب إذا ذلك في ظرف من الظروف.ومن الأمثلة الكبيرة والبارزة في هذا الباب، نموذج حزب العدالة والتنمية في تركيا الذي يوصف بأنه أسلامي أو ذو خلفية إسلامية ... فحكومة هذا الحزب تنخرط في نظام علماني لا ديني، بدستوره وقوانينه وسياساته الداخلية والخارجية وارتباطاته الدولية، وهي تعلن التزامها بذلك وتلتزم به فعلاً وخاصة بالطبيعة العلمانية اللادينية لهذا النظام، ولكنها تعمل بنجاح على ترويض هذا النظام ومؤسساته، وتعديل ما يمكن تعديله من قوانيينه وسياساته، بما يقلل شروره ومفاسده، ولو بتدرج بطيء، وهذا بالإضافة إلى ما تقوم به وتحققه من إنجازات ومكاسب كبيرة في المجالات الاقتصادية والتنموية والسياسية، الداخلية والخارجية. فغلى سبيل المثال نجد هذه الحكومة بالاعتراف بما يسمى بدولة إسرائيل، وهو لاشك منكرٌ وزورٌ، وملتزمة باستمرار جميع علاقاتها معها ...، مع هذا الكيان الغاصب الظالم، وهذا كله وضع موروث ليس لحكومة حزب التنمية والعدالة يدٌ فيه ، ولكن الذي فعلته هو أنها نقلت العلاقات التركية الإسرائيلية مما كانت عليه من الانسجام والوئام والالتزام التام بالمصالح والمواقف والمطالب الإسرائيلية، إلى حالة توتر علني وتراجع مستمر، بل نقلتها إلى أشكال من الصراع الظاهر والخفي، المباشر وغير المباشر، وهو ما فتح الطريق لتحول عميق وسريع في مواقف الشعب التركي ومزا العام ، الذي أصبح أكثر إحساسًا بالوحدة والأخوة الإسلامية أكثر تأييدًا ومناصرة للقضية الفلسطينية، وأكثر رفضًا ومناهضة لإسرائيل. وهذا ربح تاريخي للشعب التركي والقضية الفلسطينية .