حاول محمد محمد أمزيان في دراسته »في الفقه السياسي، مقاربة تاريخية« الصادرة عن مطبعة النجاح الجديدة في الدارالبيضاء (الطبعة الأولى 1421 2001)، استيعاب القضايا المحورية في الفقه السياسي، رتركزت بالخصوص حول طبيعة والتحولات السياسية التي شهدتها دولة الخلافة، وطرق التداول السياسي فيها، وشروط التأهيل السياسي المعتبرة، وإشكالية الوحدة والتجزئة. وقد اعتمد المؤلف في هذه الدراسة المقاربة التاريخية، وحاول استنطاق الحيثيات التاريخية التي أثرت في توجيه الصياغة الفقهية. والهم الأساس لهذه الأطروحة أن تضع أمام النخب المعاصرة اختيارات أوسع وأوفق لمعالجة كثير من المشكلات السياسية التي يشهدها مجتمعنا العربي المعاصر، والذي يعتبر امتدادا لتاريخنا السياسي، كما يتيح لها إمكانيات أفضل لتقدير التصرف الأنسب، ويزودها برصيد معتبر من المفاهيم والمصطلحات القادرة على تحرير وعيها من الوقوع ضحية التوظيف السيء لبعض المفاهيم السياسية المعاصرة الطارئة. ويبقى التساؤل المطروح - كما يقول المؤلف إلى أي حد يمكن للنخب الواعية أن تستفيد من المفاهيم ذاتها، وتتسلح بالرصيد الثقافي الذي أفرزه الوعي الفقهي في تجربته مع دولة الخلافة، لتوظيفه في مطالبها المشروعة لتحقيق دولة القانون؟ وإلى أي حد يمكنها أن تستفيد من هذا الرصيد لتفعيل الوعي الرسالي لدى الأجيال المعاصرة، بالنظر الى التقدير والثقة اللذين تحظى بهما الرموز الفقهية والشخصيات التراثية؟ وماهي درجة التأثير التي يمكن أن تمارسها المقولات الفقهية في تشكيل الوعي السياسي المتحرر، وإمداده بعض المفاهيم المرنة في التعامل مع دول وأنظمة تعيش أزمة الشرعية؟ والمؤلف الدكتور محمد محمد أمزيان أستاذ الفكر الإسلامي بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بجامعة محمد الأول، وجدة - المغرب، حصل على دكتوراه دولة من نفس الكلية في الفقه السياسي في موضوع: نحو مقاربة تاريخية للفقه السياسي: دراسة في التحولات السياسية والتكييفات الفقهية. من الأعمال التي صدرت له، كتاب »البوسنة الهرسك: الأندلس الثانية« وكتاب »منهج البحث الاجتماعي بين الوضعية والمعيارية«. وهو يعمل مديراً لمجلة المنعطف التي تصدر من وجدة. تقريب الصياغة الفقهية للممارسة السياسية يقول في المقدمات الأولية التي مهّد بها لموضوعات هذا الكتاب: »تندرج هذه الدراسة ضمن مجال محدد هو مجال الفقه السياسي، إسهاما منها في تقريب الصياغة الفقهية للممارسة السياسية في التجربة الإسلامية من القارئ المعاصر، وتمكينه من الاحتكاك بهذه المادة الفقهية التي قل تداولها، وتم إغفالها في البرامج التعليمية على مستوى الجامعات والمعاهد العليا، وهو عمل من شأنه أن يعيد الاعتبار إلى كثير من مفاهيمنا المهجورة تحت ضغط التنميط السياسي والإلحاق الثقافي، ويساهم في إعادة بناء تصوّرنا للذات والتاريخ. نحن بحاجة إلى وعي متجدد بقيمة المنجزات التاريخية للنخب الإسلامية وأجيالها المتعاقبة لتحقيق تواصل فعال، ينتشل أجيال المثقفين المعاصرين من خطر العوائق المنهجية التي فرضتها القطيعة المعرفية مع التراث، إلى الحد الذي جعلها تقف موقف المتنكر المستخف بتلك المنجزات أو النافية لها بإطلاق. وهذه الدراسة حلقة من حلقات ذلك التواصل في مجال قلق وحساس، هو مجال الفقه السياسي الذي جرفه تيار الالحاق والاستتباع بما عفا أثره ومحا رسمه. لذلك لانستغرب أن يقع مثقفون كبار ضحية الوعي الزائف، ويقفوا موقف المشكك الممانع في إمكانية تحقق الوجود التاريخي لشيء اسمه الفقه السياسي« (ص 4). وتحدث المؤلف بعد ذلك عن الأصول المؤسسة للفقه السياسي وأكد أنها متجذرة في النظام الفقهي الاسلامي، وأنها ليست استثناء أو شذوذا فيه، فهي لم تنشأ من فراغ ولم تكن مجرد آراء ومواقف مبتورة من سياقها الاستدلالي وأصولها الضابطة لها، يستوى في ذلك أن تكون هذه الأصول نصوصا من الكتاب والسنة أو إ جمالا أو قياسا أو استنادا الى محض المصلحة. وبرهن المؤلف على هذا الطرح بعدة براهين. ثم قدم منهج الدراسة وهو المقاربة التاريخية باعتبار أن هذا العمل ينطلق من فرضية أن الفقه السياسي لم يتلبور من فراغ وإنما كان في مجمله إفرازا من إفرازات التاريخ السياسي الذي عكس أحداثه، واستجاب لضغوطاته، بل وخضع في كثير من الأحيان لإكراهاته، ومن هنا أهمية استحضار البعد التاريخي في تأويل الخطاب الفقهي. ويقول المؤلف إن هذا المسلك سوف يبتعد بنا عن تلك القرءة الوضعية التجميعية للنصوص الفقهية التي تغيب الحيثيات التاريخية، وتقتصر على المعالجة النصية المجردة من سياقها، لتعيد الاعتبار للمعطيات الظرفية التي انفعل بها الفقهاء وتحكمت في تنظيراتهم. ودفعا لظاهرة التكرار التي طبعت معظم الكتابات السياسية التي اهتمت بإبراز الفكر السياسي الاسلامي عامة، تشتد الحاجة الى مثل هذه الدراسة التي تتخذ من التاريخ مدخلا أساسيا في تحليل المادة الفقهية وتفسيرها. ولتحقيق هذا المقصد حصر المؤلف المقاربة التاريخية للفقه السياسي في مسلكين اثنين يكمل أحدهما الآخر، أولهما إبراز تاريخية الفقه السياسي أي إبراز المشكلات والقضايا التي تعبر عن الاستجابات الفقهية المتكررة للمتغيرات التاريخية الظرفية، وثانيهما التأويل التاريخي للفقه السياسي، أي تعرف الاعتبارات الآنية والضغوط الراهنة التي كان يلحظها النّظير الفقهي والتي ساهمت في تشكل مختلف الرؤى الفقهية. وتوخّى المؤلف موضوعية التأويل اعتماداً على الضوابط التالية . * تعرف المؤثرات الفاعلة في الصياغة الفقهية، وقد تطلب ذلك مراجعة الحيثيات التاريخية التي صاحبت هذه الصياغة والتي يتوقع أنها خضعت لتأثيرها. * يلاحظ وجود مواقف فقهية متعاصرة عايشت نفس الوقائع والمعطيات، وانتهت مع ذلك إلى تخريجات متباينة وأحيانا متضاربة، وهذا يتطلب تعرّف الاعتبارات والمقاصد التي لاحظها هذا الفقيه أو ذاك في تقديره وترجيحه. *بحكم أن الصياغة الفقهية تخضع لمنطق استدلالي، فقد كان استدعاء الأصول المؤسسة للتنظيرات الفقهية أمراً حتميا لفهم العديد من المواقف التي قد يساء فهمها في غياب أصولها المؤسسة، وهذا مايفسر كثرة الاستجداء بهذه الأصول وحضورها في هذه الدراسة، نصوصا كانت أو إجماعاً أو قواعد أو أصولا فرعية. * الدراسة المقارنة والبحث عن المشترك من الأحكام، وقد أفاد هذا الضابط في فهم بعض المواقف الفقهية التي تظهر ثباتا وتشابها رغم امتدادها في الزمن وكان لتغييب هذا المعطى أثر سيء في تقديم تفسيرات خاطئة لبعض المواقف الفقهية المتأخرة، مع أنها كانت في مواقعها امتدادا لمواقف مثيلة ضاربة في التاريخ. * التمييز بين ماهو مبدئي وماهو ظرفي في التنظير الفقهي، وهذا مايفسر حضور أجزاء مهمة من التنظير الفقهي في مستواه المبدئي، وقد أتاح هذا المسلك مراجعة كثير من التأويلات المعاصرة التي استعصى عليها التمييز بين ماهو مبدئي وبين ماهو ظرفي في التنظير الفقهي، وانتهت إلى نفي إلى كثير من الأحكام وتبني مقولة التنازل مع أن الفقهاء اعتبروها من الثوابت. ويرى المؤلف أنّ هذا الاختيار المنهجي الذي ارتضته هذه الدراسة جعلها تبتعد كثيرا عن أسلوب الموازنة والترجيح بين الآراء، أو البحث عن الخطأ والصواب في المواقف الفقهية، فضلا عن طلب التقصي في تتبع تفاصيل المذاهب، ولم يكن يعنيها من التراث السياسي جملة أكثر من جانبه الفقهي، وهذا مايفسر غياب أجزاء مهمة من هذا التراث، مما لايمكن اعتباره ثغرة أو نقصا بقدر ما هو التزام بمجال البحث المحدد سلفاً. وحرص المؤلف - في مقاربته لهذا الموضوع - على أن يبقى لصيقا بالنصوص التي تشكل مادة الفقه السياسي بمعناها الشمولي أحكاما واستنباطات ومواقف. ولم يعتمد فقط على مصادر الأحكام الفقهية أو الموسوعات الفقهية العامة، بل اعتمد إلى جانبها على الموسوعات التاريخية وكتب الطبقات والتراجم لسد الخلل الحاصل في المصادر المباشرة، واستدراك مافاتها من إفادات وإضافات لايسع أي باحث في هذا المجال أن يستغني عنها في استكمال المادة العلمية اللازمة قبل المغامرة في طرح قضايا هي ألصق بالتاريخ منها بالتقريرات النظرية المجردة. الخلافة التاريخية والتكييف الفقهي لمسألة الشرعية والقسم الأول من هذه الدراسة »الخلافة التاريخية والتكييف الفقهي لمسألة الشرعية« هو مساهمة للإجابة عن مسألة هي أكثر المسائل إشكالا في التراث السياسي الإسلامي، وأشدها تعقيدا واضطرابا، هذه المسألة تمس الموقف الفقهي من طبيعة الممارسة السياسية التي جسدتها تجربة الدول الاسلامية عبر تاريخها، تلك التجربة التي كانت حبلى بالصراعات السياسية والانقلابات المتلاحقة، وخضعت لسلسلة من التحولات التي أجهضت الرصيد السياسي الذي بلورته تجربة الخلافة الراشدة، وجردت الفعل السياسي من بعده القيمي وفضائه الثقافي. في هذا السياق، تقدم المصادر التاريخية، وحتى الشواهد الفقهية المتناثرة، رؤية واضحة عن عمق التحولات التي جنحت بتجربة الخلافة إلى دولة الملك رغم احتفاظها بإطارها الشكلي واحتفاظها بوجودها التاريخي باعتبارها أعلى جهاز سياسي في مؤسس الحكم. ويكمن الإشكال هنا على حد تعبير المؤلف في فهم الموقف الفقهي من هذه المؤسسة التي كانت تشذ عن المعايير الفقهية الضابطة لشكل الخلافة الشرعية ومضمونها، حيث إن الفقهاء، رغم وعيهم بهذا الشذوذ ، ومع اعتراف المؤلف بتفاوت مواقفهم وتباين مواقعهم، بقوا في مجملهم على إعلان ولائهم لها بغض النظر عن طبيعة هذا الولاء، كما كانوا يحتلون وظائف سامية في أجهزتها القضائية والتشريعية والإدارية ... ومن هنا تأتي ضرورة رصد مظاهر تلك التحولات باعتبارها الوعاء التاريخي الذي تحرك فيه الاجتهاد الفقهي من جهة، ورصد الآليات النظرية التي تحكمت في الاجتهاد الفقهي من جهة أخرى لفهم نوع الولاء الذي كان يظهره الموقف الفقهي ونوع الاعتراف الذي كان يقر به لدولة ما بعد الخلافة الراشدة. ومن هنا خصص المؤلف الفصل الأول من هذا القسم لتوضيح العلاقة بين الخلافة الشرعية والخلافة التاريخية، بين الخلافة والملك : صراع القيم (سياسة القهر: الملك لمن غلب، وسياسة الإغراء: تشييء القيم). ثم تحدث في المبحث الثاني من هذا الفصل عن صراع المرجعيات (بين المرجعية الدينية ومرجعية العصبية) و (جدلية السياسي والشرعي أو افتراق السلطان عن القرآن). ودرس في الفصل الثاني التكييف الفقهي لشرعية الخلافة التاريخية، من خلال ثلاثة مباحث هي: الخلافة الصورية من منظور الوعي الفقهي، ومسألة الشرعية بين النفي والإثبات، والمستندات المؤسسة للتكييف الفقهي (النصوص الشرعية، القواعد الفقهية، السوابق التاريخية).