أكد الفقيه المقاصدي المغربي الدكتور أحمد الريسوني أن "صفات ولي الأمر المطلوبة مفصلة عند الفقهاء، لكنهم عندما يجدون الأمة قد استسلمت لحاكم، بأي صفة، سواء كانت وراثية أم قبلية أم بأي شكل من الأشكال، فهم يقررون أن الأمة مسئولة عن هذا الوضع.." "" ولفت إلى أنهم لا يفكرون في الثورة أو الخروج عليه؛ لأن الخروج لا ينتهي باعتبار أن الحاكم نفسه يكون قد ثار على غيره وأقام واقعا معينا، وباعتبار الفقيه ليس صاحب سلطة أو برلمان أو سيف، فهو لا يدعو إلى سكوت أو إزالة حاكم شرعي ووضع حاكم آخر، بل مهمته بيان الحكم الشرعي. جاء ذلك خلال برنامج (مباشر مع) على قناة (الجزيرة مباشر) يوم السبت 12 أبريل الماضي، والذي استضاف الدكتور أحمد الريسوني الخبير بمجمع الفقه الإسلامي بجدة، لمدارسة كيفية التغيير، والعلاقة بين الحاكم والمحكومين ودور العلماء فيه، إضافة لدواعي المراجعات الإسلامية وقضاياها. وفي أثناء الحديث عن العلاقة بين الحاكم والشعب، أوضح الريسوني أن الفقه الإسلامي القديم كان يحكم واقعا معينا، وفي غالب الأحيان كان يستجيب لما يركز عليه الواقع ومتطلباته، إلا أن ما حصل في معظم الحالات في تاريخنا هو وجود استغناء عن طلب الحكم الشرعي في القضايا السياسية، حيث نجد الحكام يفعلون ما بدا لهم بالارتكاز على مفهوم فضفاض هو "السياسة الشرعية"، وبه تقدر الأمور وتوازن، ولذلك وقع نقص كمي وكيفي في الفقه السياسي عبر تاريخ الأمة الإسلامية، مما أنتج تخبطا واضطرابا كبيرا في هذا العصر. واستطرد: "فكلما كانت الأمور محسومة كان الخلاف قليلا، وكلما كانت الأمور بدون اجتهادات دائمة ومكافئة، انفتح الباب أمام اندفاع الشباب في الفراغ، خاصة ما يتعلق بتفسير قضايا الدولة والنظرة إليها والعلاقة بها، فالتراث الفقهي قليل، وكثير منه كان خاصا بزمانه ومفصلا على متطلبات هذا الزمان، لكن بالنسبة لزماننا هناك الكثير من الخصائص يجب تداركها. ولي الأمر الفاسد وبخصوص الموقف من ولي الأمر، الذي لا يحتكم لشرع الله، وفق ما نقل عن سيد قطب، صحح الريسوني نسبة مفهوم الجاهلية لسيد قطب، قائلا: "لم يقل سيد قطب بمجتمعات جاهلية، وإنما وصف بعض الأوضاع بأنها جاهلية، كما أنه لم يدع إلى الخروج على الحاكم، وقد قرأت كثيرا من كتبه، ولكنه أعاد الاعتبار لفكرة الحاكمية، وقال: إن كلمة الله هي العليا، وهذه من بدهيات الإسلام.. غير أن سيد قطب بشخصيته وفكره القويين، مكن من ظهور أفكاره أكثر من غيره، وإلا فإن فكرة الحاكمية موجودة لدى جميع الفقهاء". وأشار الريسوني إلى أنه بعد ظهور الدولة الحديثة، والتي هي ثمرة من ثمرات الاستعمار والاحتلال والغزو، أزيحت الشريعة عن مرجعية الدولة وقوانينها، وبدأ سحب هذه المرجعية حتى داخل المجتمعات الإسلامية. وعن كيفية التعامل مع ولي الأمر الموالي لأعداء الأمة،شدد الريسوني على أن الأحاديث النبوية الواردة في الموضوع كثيرة، وهي التي التف حولها الفقه الإسلامي، والسني بصفة خاصة، وهي توضح أن الإنكار على الحاكم وعلى تصرفاته وسياسته المخالفة للشرع يبقى واجبًا على جميع الناس، وفي مقدمتهم العلماء وذوو المكانة، كما أن العمل على تغييره بكيفية لا تثير فتنة ولا حربا داخلية يبقى أمرا مطلوبا، بل إن الجويني يتساءل غير مرة في كتبه هل الحاكم إذا فسق ينعزل أو يعزل؟ وهل ينخلع أو يخلع؟ أي هل تسقط ولايته بشكل تلقائي باعتبار أن العقد الذي يربطه بالرعية قد انتقض..وقال إن خلعه واجب، وهو الصحيح إذا فسق الحاكم وحاد عن الطريق الشرعي. غير أن الريسوني أكد من جانب آخر أن طاعة الحاكم تبقى لازمة ما دام يأمر بالمعروف ويطبق الشرع ولا يفعل ما يعارضه، وإذا قام بخلاف ذلك فالحديث صريح في هذا وهو"لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق"، وإذا تعذر تنفيذ الحكم وتغيير الحاكم لا يبقى إلا البقاء عليه والحرص على العمل السلمي، والخط الأحمر الذي أجمع عليه الفقهاء هو أن العنف ضد الحاكم لا يكون ما دام لم ينسلخ عن الإسلام علانية ولم يعلن الكفر البواح، بل يلزم التعامل معه سلميا. التغيير المشروع والمذموم ورفض الريسوني التغيير بالقوة للدولة والحاكم، فلا حق لأي أحد فردا كان أو جماعة أن يستعمل القوة داخل المجتمع، فلكل واحد فردا كان أو جماعة أو جمعية صغيرة أو كبيرة أو عالم أو غيره الحق في أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر بحسب ما يستطيع، إما بالتعليم أو الإصلاح انطلاقا من ذويه أو جيرانه أو غيرهم، لكن بالكلمة اللينة وبالتي هي أحسن والقدوة والنصيحة وبالجهر بالحق، وهذا واجب الجميع، فالمجتمع لا يمكن أن يصلحه إلا مجتمع، لذا يجب إطلاق الطاقات الإصلاحية في المجتمع كله. واعتبر الريسوني ما يقع في موريتانيا أو المغرب أو الجزائر، أو أي مكان ليس فيه احتلال، من قتل وعمليات مسلحة ضد الحكومات أو الشعوب أو السائحين، عملا ضالا وصبيانيا، فكل هذا من جنس واحد، تم تداركه في عمق المراجعات الجريئة والشجاعة، التي وقعت في مصر لدى الجماعة الإسلامية والجهاد، وهي مراجعات أثبتت لمن كان في حاجة إلى إثبات أن هذا العمل طائش وعبثي وعدمي، سواء في موريتانيا أو غيرها، فحمل السلاح في أسواق المسلمين وشوارعهم وإدارتهم بأي دعوى من الدعاوى يعتبر عملا ضالا وساقطا، ولا مكان له في فقه ولا عقل. ولفت إلى أن إغلاق باب العمل السياسي السلمي والتضييق على الأحزاب الإسلامية، كما يحصل في مصر مع حركة "الإخوان المسلمين"، ينطبق عليه الأثر "تكون في آخر الزمان فتن تترك الحليم حيرانا"، أي أن مثل هذه الأمور تقع للإنسان الحليم بعقله وعلمه، فكيف بما دون الحليم؟ وكيف بالشباب والطلبة من ذوي الحماسة؟ وبرغم ذلك، شدد الريسوني على أن الفقهاء أجمعوا على أنه لا يجوز استعمال العنف والقتل والحرب داخل المجتمع المسلم بأي وجه وتحت أي ذريعة. وعن البديل أمام ثنائية إما فتح أبواب العمل السياسيأو السلاح،قرر الريسوني أن حصر البديل في الخيارين منطق عقيم، وقال:"لا يمكن أن نكون عقيمين إلى هذه الدرجة، فهناك شيء واحد يستثنى، وهو العنف، وتبقى كل الطرق متاحة، فهناك الدعوة والتثقيف والاحتجاج بكل طرقه. وبخصوص لجوء الدولة للعنف ضد الخارجين عنها، أجاز الريسوني ذلك إذا لم يكن بد من استعماله ضد من حملوا السلاح، مستشهدا بفعل الإمام علي رضي الله عنه، وهو أول حاكم راشد ابتلي بالخوارج، الذين تمردوا وتخندقوا في أطراف من البلاد، فكان كثير من الصحابة وممن معه يقولون بقتلهم أينما وجدوا، لكن عليا قال لهم: لا نقاتلهم إلا إذا رفعوا السلاح علينا.. فليقولوا ما شاءوا، وليعتقدوا بأفكارهم ما شاءوا، وينتقدوا ما شاءوا، فهم إخواننا ومعنا ومن أهلنا ما لم يحملوا السلاح علينا. غير أن الفقيه الأصولي أوضح أن الدولة التي تستطيع حل المشكلات دون سلاح فهذا هو الخيار الأرحم؛ لأن من مقاصد ديننا أنه كلما حقنّا قطرة دم واحدة، ومن دماء المسلمين خاصة، فهو الواجب، وآخر الدواء الكي كما يقال، أما إذا اضطرت لإعادة الأمن بالسلاح فهذا لا غبار عليه شرعا، بشروطه المعروفة. المراجعة والسجون وفي حديثه عن المراجعات التي قامت بها جماعتا الجهاد والجماعة الإسلامية بمصر، أكد الريسوني الرئيس السابق ل (حركة التوحيد والإصلاح) المغربية أن الإنسان لا يمكن أن ينضج فكره وترقى ممارسته دون أن يراجع أفعاله، فمبدأ المراجعة فضيلة خلقية وعلمية وفكرية. ولذلك فإن الريسوني قرر أن تلك المراجعات أيا كانت أسبابها ونتائجها فهي منهج صحيح وسليم، والقرآن الكريم سجل عن الأنبياء عليهم السلام أمورًا صدرت عنهم ورجعوا عنها واستغفروا. ونفى أن تكون المراجعة مرتبطة فقط بالسجون، حيث قال: "المراجعات تمت داخل السجون وخارجها، وليس كل من قاموا بالمراجعات كانوا داخل السجون، فالمراجعات التاريخية التي قامت في مصر وفي المغرب وفي تونس وفي ليبيا وسوريا تمت داخل البلد وخارجه، داخل السجن وخارجه، والعبرة بما أسفرت عنه هذه المراجعات، وعلى أي أساس تمت وما حجتها ونتائجها، وبهذا نقيم الأمور. وأوضح الريسوني أن ربط المراجعة بالسجن ليس لكونه سجنا، وإنما لكونه فضاءً للمراجعة، حيث يقيم الإنسان فيه سنوات، بخلاف خارجه، حيث يكون الإنسان في صراعات وتدافعات وتحديات لا تبقي وقتا للتفكر الهادئ، كما أن السجون من جانب آخر كثيرا ما أنتجت تطرفا، لكن هذا لا يطعن في مصداقية المراجعات. وفرق الريسوني في جماعات العنف بين صنفين: فهناك اتجاه قرر منذ البداية هذا الخيار على أنه جهاد، وأنه الطريق الفعال والشرعي للتغيير، وهناك جماعات جُرت إلى العنف في بعض الأحيان، مثل ما وقع في الجزائر وفي ليبيا، وهناك جماعات راجعت أسلوبها دون وجود العنف، ولذلك فالمراجعات متعددة، سواء ممن اختاروا العنف خيارا أساسيا وإستراتيجيا أو باعتباره حدثا وقع وجرت إليه هذه الجماعات. وفي محاولة لتقديم مثال لما ذهب إليه، أعطي الريسوني نموذجا بحركة النهضة بتونس، حيث يوضح أن أصحابها قاموا بمراجعات لعدة سنوات، وقاموا بنقد ذاتي صريح وقاس أدى إلى نهج أساليب جديدة في عملهم الداخلي، ولم يكونوا في يوم من الأيام حملة سلاح، كما أن إيمانهم بالديمقراطية والمرأة والعمل السلمي وعلاقتهم بالمعارضة يرددونه في كل مناسبة. وعما يكون من تركيز حركات الإسلام السياسي على السلطة لبلوغ الحكم دون الحركات المتصوفة الأخرى، وبعدها عن العمل الدعوي، شدد الريسوني على أن إطلاق مثل هذا الكلام يبقى أمرا خطيرا، وعلى من يقوله أن يتقي الله فيما يقول، برغم أني لا أبرئ أي حركة، لأن السعي إلى السلطة كجماعة حق مشروع إذا لم يكن بقتل أو عنف، أما السعي الفردي بفتنة وقتال أو غير ذلك فهو المذموم والمرفوض في الإسلام، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: "إنا لا نولي هذا الأمر أحدا طلبه أو حرص عليه". وببن الريسوني أن سعي جماعة مثل حزب العدالة والتنمية في تركيا، له قوة ومفكرون واقتصاديون ومخططون وشعبية، إلى السلطة يبقى سعيا مشروعا، ولكن القول بأن الحركة الإسلامية لا هم لها إلا السلطة فهذا تقول كبير جدا، فالحركات الإسلامية غيرت مجتمعات وعادات وثقافات كانت سائدة، وهذا كله ليس سلطة، وهناك من انتقدها كونها لا تهتم بالسلطة بتاتا. فقه الأقليات بديل للفتاوى الجاهزة وبالنسبة لواقع المسلمين بالغرب،ألمح الريسوني إلى أن للمسلمين بالغرب أوضاعا خاصة، ولذلك يخطئ كثير من الدعاة عندما يشدون الرحال من الشام أو من الجزيرة العربية أو المغرب، ويذهبون بفتاواهم الجاهزة وبقراءاتهم التراثية ويضعونها على كاهل المسلمين في الغرب، وينسون أنهم حالة خاصة جدا، ولهذا ظهر اليوم ما سماه كثير من العلماء "فقه الأقليات"، وهو صواب تماما؛ لأننا أمام واقع جديد، وهناك عشرات الملايين من المسلمين يعيشون مهاجرين، وهم لا يحتاجون إلى تجديد الفقه، بل إلى فقه جديد، واليوم بادر بعض العلماء بوضع قواعد لهذا الفقه مثل الشيخ عبد الله بن بية، الذي له اجتهادات تؤصل لهذا الفقه، وغيره من العلماء. وعن الاختراق الذي يمارسه الغرب في ثقافة المجتمعات الإسلامية، ذهب الريسوني إلى أن الاختراق الثقافي يجب أن يقابل بتحصين المجتمعات ماديا ومعنويا وثقافيا وروحيا، مشيرا إلى أن الاختراق اليوم متبادل، فنحن نخترق أوروبا أيضا، والمتطرفون الأوروبيون يحذرون من أسلمة المجتمعات الأوروبية، لذا فقضية الاختراق أصبحت قدرا لا مفر منه إلى أجل غير مسمى. عن إسلام اونلاين.نت