القنوات الفضائية والشبكة العنكبوتية كشفت الحقائق وفضحت الأسرار؛ بل إنها أزالت الحدود المزعومة بين البلدان، حيث أصبح المغاربة يعرفون عن إخوانهم المشارقة الشيء الكثير، ونفس الأمر حصل عند المشارقة مع تسجيل فارق كبير، وفي مجال الإفتاء وعند زيارتنا لبعض المواقع الإلكترونية المتخصصة في الفتاوى الشرعية وجدنا نسبا عالية لإقبال المغاربة على استفتاء الفقهاء المشارقة. فهل يا ترى لا يوجد عندنا فقهاء قادرون على الإفتاء أم أن الفقهاء المشارقة أرسخ علما وأفصح لغة من الفقهاء المغاربة أم أن المغاربة مولعون باتباع الغير ليس إلا أم ثمة أشياء أخرى ؟ التجديد فتحت تحقيقا في الموضوع للبحث عن أسباب إقبال المغاربة على استفتاء المشارقة، ثم لمعرفة رأي المختصين وكيف يقيمون الظاهرة، لنصل إلى الأمور التي ينبغي القيام بها. نماذج يبرر بعض المغاربة إقبالهم على طلب الفتوى من المشارقة بعدة أسباب، في المقابل يتشبث آخرون بالرجوع إلى الفقهاء المغاربة لأنهم أدرى بأحوالهم، وفئة أخرى تفضل الاجتهاد عبر مساعدة الأصدقاء فقط، التجديد توجهت بالسؤال للمغاربة فكانت إجاباتهم متباينة. أنور 28 سنة طالب باحث، قال بأنه يسأل الفقهاء المغاربة ليتلقى الإجابة منهم، لكنه في الغالب يغير وجهته نحو الفقهاء المشارقة لأنهم يتوفرون على وسائل متطورة للتواصل، وغالبا ما تكون إجاباتهم تشفي غليله، لذلك يحب الاطلاع على إجاباتهم عبر الشبكة العنكبوتية التي لا تكلفه وقتا كبيرا، أما عندنا يضيف أنور الأمور يعتريها بعض التعقيد وضعف الوسائل. سميرة 48 سنة ربة بيت، عندما تحدث لها نوازل تتوجه إلى أقرب فقيه تعرفه لتسأله فتطمئن لإجابته، والفقيه عندها هو الذي يحافظ على الصلوات في المسجد، وغالبا ما يكون إمام المسجد هو المؤهل لذلك، فهي تفضل التوجه إلى إمام المسجد أولا. أما عبد الرحمن 52 سنة أستاذ، فإنه متشبث بالتوجه إلى الفقهاء المغاربة في كل ما يطرأ عليه من فتاوى ونوازل لأنه حسب رأيه هذا هو الخيار الأسلم والأصح لأن فقهاءنا المغاربة هم أدرى بواقعنا وأحوالنا ومتغيراتنا، وهي أمور ضرورية حتى تكون الفتوى أقرب إلى الصواب، فهو يفضل الارتهان لفتاوى المغاربة ولا يغير وجهته إلى المشرق إلا إذا اضطر إلى ذلك اضطرارا. إدريس 35 سنة موظف بشركة، لا يكلف نفسه عناء كبيرا للبحث عن إجابة المفتين فيما يقع له من نوازل فقهية؛ وإنما يكتفي بسؤال أقرب أصدقائه حتى يجد من يقنعه في الإجابة، ومريم38 سنة موظفة، تسجل قلة المؤسسات والهيئات الرسمية التي تهتم بإجابة الناس على تساؤلاتهم، وتقول كان هناك برنامج وحيد يبث في القناة الأولى إلا أنه لايقنعنا ونشعر أنه بعيد عن اهتماماتنا، لذلك تضيف أختار التوجه إلى المشارقة لسهولة التواصل معهم وبشكل مباشر، حتى ذلك الرقم الأخضر الذي وضعته وزارة الأوقاف رهن إشارة المواطنين أجده في غالب الأحيان مشغول، هذا إذا عرف الناس أن هناك خطا هاتفيا لإجابتهم على فتواهم. الأسباب والدوافع هي في الحقيقة متعددة ومتنوعة ولعل أول دافع كما قال الدكتور عبد الرحمن البوكيلي دكتوراه في الدراسات الإسلامية هو حاجة الناس المتزايدة إلى معرفة دينهم وإلى السير وفق ما يحب الله تعالى ويرضاه، فلا يخفى على أحد أن هناك صحوة كبيرة يعرفها عالمنا في هذا الزمان. الأمر الثاني أن هذا النوع من الإفتاء عبر القنوات الفضائية قرب الهوة بين العلماء وبين الناس، فيكفي أن يأخذ الإنسان هاتفه ليجد نفسه أمام العالم وفي حوار معه بشكل مباشر، فهذا فعلا نشط هذا الأمر وزاد منه، كما أن الفتاوى من طبعها تتناول قضايا الناس وهمومهم وأحوالهم ومستجداتهم، وهذه كلها تضفي عليها حساسية وتجعل الناس يقبلون عليها. أما الأستاذ محمد المهدي بوزيد عضو المجلس العلمي المحلي بالرباط فيرى أن الناس بصفة عامة لهم نفسية الإقبال على الغير، هذا في كل شيء، إذا كان هنا مغني أجنبي نرى الإقبال المكثف عليه لأن مطرب الحي لا يطرب كما يعتقدون، وإذا جاء محاضر في مجال فإنه يجد إقبالا كبيرا هذا على عكس الإقبال على المحاضرين المغاربة، ثم إن هذه القنوات الفضائية قد فتحت الأبواب على مصراعيها في هذا المجال بتقنيات عالية وبأساتذة ذاع صيتهم في العالم، بالإضافة إلى الدعايات والإشهارات التي جعلت الناس يقبلون على هذه القنوات، أما عندنا فهناك ضعف، وقناة السادسة رغم بساطتها وقلة إمكانياتها فهي تسعى للتطوير، مشددا على أهمية التفكير في الوسائل التي تمكننا من جلب الناس إلينا مع التذكير على أنه لايمكن لأي مواطن في أي منطقة كان أن يستفتي غير صاحب البلد، ثم إننا نؤاخذ العلماء الذين يفتون المغاربة دون علم بأحوال البلد المختلفة عن أحوال بلدانهم. أخطاء قاتلة الدكتور أحمد عزيوي أستاذ التعليم الثانوي وعضو جمعية أساتذة التربية الإسلامية يرى أن ظاهرة تناسل الفتاوى عبر الفضائيات فيه من التجاوز الكثير، فمن الأخطاء الفادحة التي يقع فيها مثل هؤلاء هو أنه عوض أن يدعوا الناس إلى ما يرقق قلوبهم ويقوي إيمانهم ويجعلهم يقبلون على الله عزوجل يشغلون أنفسهم بأمور لا علم لهم بها فيضلون ويُضلون، فمن هؤلاء من هُيئت لهم بعض القنوات وبعض المنابر ونصبوا أنفسهم مفتين دون تحقيق شروط الإفتاء، وهذا الأمر أصبح يشكل خطرا على الأمة الإسلامية حيث وقعت الفتنة والبلبلة لما صار الكل يقبل على الفتوى ويريد أن يظهر بمظهر الفقيه الجرئ، ومن الأخطاء التي يقع فيها أمثال هؤلاء أنهم لا يميزون بين فتاوى الأعيان وفتاوى الأمة، حيث أن فتاوى الأعيان يجوز أن يفتي فيها كثير من الفقهاء كأمور الصلاة والصيام والحج وغيرها من الأمور الخاصة، أما فتاوى الأمة لا يجوز للأفراد إن كانوا علماء وفقهاء ومجتهدين أن يفتوا فيها منفردين ولكن عليهم أن يجمعوا لها الرجال الفطاحل من الفقهاء والمجتهدين والمتخصصين في علم الاجتماع وعلم الاقتصاد والطب حتى تكون الفتوى مفيدة ونافعة؛ لأن فتاوى الأمة الخطأ فيها يكون ضرره عاما والصواب فيها يكون خيره عاما، ولذلك لايجوز التجرؤ على فتاوى الأمة وعلى التفرد بها، فينبغي أن تجمع لها المجامع وأن تجمع لها المؤسسات العلمية وتعقد لها المؤتمرات حتى تحفظ الأمة في دينها ودنياها، بل ينبغي إقامة مؤسسة الحسبة على الإفتاء، والتضييق على من ليس أهلا للإفتاء، لأننا أصبحنا نجد في هذه الفضائيات الفتاوى تتناسل يوما بعد يوم حيث أن المفتي لا يرد سؤالا كيفما كان نوعه وإن كان بعيدا عن المستفتي فإنه لا يتورع من الإفتاء. لا يمكن التعميم الأستاذ بوزيد يستنكر ما يقدم بصفة علانية عبر الإعلام سواء كان عند العلماء الكبار وعند الفقهاء أو حتى عند طلبة العلم، ويرى أن الفتوى من الأمور المخصوصة وليس من الأمور العامة بمعنى أنه إذا كان صاحب الفتوى يريد أن يعرف حكم الشرع في مسألة ما، فالجواب يهمه وحده ولا يمكن أن يعمم على غيره، فالمفتي كالطبيب والمستفتي كالمريض، فلا يمكن للمريض أن يذهب عند الطبيب الذي يصف له الدواء فيستعمله مريض آخر يعاني من نفس المرض، وهذا ما يستنكر على الفتوى بصفة عامة عبر القنوات، فلا يمكن لأحد من العلماء إفتاء الناس عبر الهواء، إلا إذا كان السؤال فيه طلب علم وفيه طلب الاستفادة بالاستفسار عن أمر بسيط، أما غير ذلك فهو لايكون على العامة. أما عن دور المؤسسات المعنية بالإفتاء في المغرب فإن الأستاذ المهدي يشير إلى أن المجلس العلمي الأعلى يتصدر الفتوى الكبيرة، فكلما كان هناك أمر يتعلق بالبلد أو بأمر عسير إلا ويرفع أمره عن طريق المجالس العلمية المحلية برسالة مكتوبة إلى هيئة الإفتاء التي يترأسها أمير المؤمنين فهو صاحب القرار الأخير، ولكن هناك أعضاء المجلس العلمي الأعلى الذين يفتون في هذه المسألة ويجيبون عنها كتابة، وهناك لجان إفتاء تعين من طرف المجالس العلمية المحلية، ويؤكد على أن جميع الهيئات والمؤسسات الرسمية مفتوحة أبوابها. للإفتاء ضوابط يؤكد الدكتور عزيوي على أنه لا يمكن التجرؤ على الإفتاء حيث أنه لا يجوز لمن لا علم له بالكتاب والسنة وبأقوال العلماء والأئمة وباختلاف الفقهاء وبالناسخ والمنسوخ وبالأصول والفروع وبالقواعد والكليات أن يتصدر للإفتاء، فلابد بحسبه أن يكون المفتي ورعا تقيا عارفا بالواقع الاجتماعي والاقتصادي والسياسي، عالما بالأعراف والعادات والتقاليد، وأن يكون هذا المفتي عالما بالأحكام وطرق استنباطها وعالما بالواقع الذي يستفتى فيه وواقع المستفتي، وأن يكون عالما بتنزيل هذه النازلة وهذه الأحكام، والذي يسمى بتحقيق المناط أو فقه التنزيل، فهناك من له علم بالأحكام وله علم بالواقع ولا يحسن تنزيل الأحكام على الواقع، وهذه كارثة يقع فيها كثير من المفتين، وهناك من يعرف الأحكام والتنزيل ولا علم له بالواقع، وهذا كذلك يسبب خللا وفوضى في الإفتاء والفتوى. ومن الشروط أيضا أن يكون المفتي له علم باللغة العربية وباللغة العامية التي يسأل بها المستفتي، وأن يدرك أن الفتوى تتغير بتغير الأزمنة والأمكنة والأعراف، يقول الإمام القرافي رحمه الله : ينبغي للمفتي إذا وضع لمستفتي لا يعلم أنه من أهل البلد الذي فيه المفتي ألا يفتيه بما عادته أن يفتي به حتى يسأله عن بلده، وهل حدث لهم عرف في ذلك البلد موافقا لهذا البلد في عرفه أم لا، وهذا أمر متيقن واجب لا يختلف فيه العلماء، وأما العادتين متى كانتا في بلدين ليسا سواء كان حكمهما ليس سواء، وقال الإمام مالك رحمه الله فيما نقل ابن حمدان في صفة الفتوى: لا ينبغي للعالم أن يفتي حتى يراه الناس أهلا لذلك ويرى هو نفسه أنه أهل لذلك، وما أفتيت حتى شهد لي سبعون، فلا يمكن أن ينصب الواعظ ولا الخطيب نفسه للتصدر للإفتاء دون توفره على الشروط والضوابط. الدور المطلوب ينبغي حسب الدكتور عزيوي أن يوحد العلماء أنفسهم ويجمعوا كلمتهم ويجعلوا لأنفسهم موقعا خاصا وقناة خاصة تحسم وتبث في هذه الفتاوى التي تتسبب في كوارث إذا أسندت لغير أهلها، وعلى المجالس العلمية أن تطالب بحقها في قنواتنا الفضائية والأرضية المغربية، وأن يعطى المغاربة ما يستحقون من الوقت للإجابة على فتاواهم ونوازلهم حتى لا يلجأوا إلى غيرهم فيسألوا من ليس أهلا، أو لا يفهم خطاب المجيب فيقعون في الفتنة فيضلون ويُضلوا غيرهم، كما ينبغي للمجالس العلمية أن تكون لها مجلات متخصصة في الإفتاء حتى لايكون المجال مفتوحا لفوضى الإفتاء، وانتشار التطرف والتشدد والإرهاب. من جانبه نبه الدكتور البوكيلي إلى حسن استثمار وسائل الإعلام وحسن الانفتاح عليها والمزيد من فتح أبوابها، إذ أن القنوات التي تفتح في الغالب هي القنوات التي تدعو إلى غير الله بمختلف الأشكال والأساليب والوسائل، ثم لابد أيضا من مراعاة الخصوصيات المذهبية والقطرية والحساسية السياسية والطائفية، فمراعاتها مطلوبة جدا إذا كنا فعلا نرمي إلى نفع الأمة وإلى تعزيز عناصر قوتها، ويحسن أيضا أن يغلب التوجيه والإرشاد على الأحكام والفتاوى، إذ توجيه الناس وإرشادهم وتناول قضاياهم وأحداثهم ومشاكلهم بنفسية الدعوة إلى الله تعالى أمر مهم، فهذه أمور إذا روعيت سيزداد خير هذا العمل وسيحجم شره.