تقييم لورقة البرفسوران والت وميرشايمر تنطلق هذه المقالة من نقد الموقف الساذج الذي يبرئ الولاياتالمتحدةالأمريكية من سياساتها في المنطقة العربية بذريعة هيمنة اللوبي الصهيوني على قرارها السياسي، وتؤكد في الآن عينه على اعتبار دولة الاغتصاب الصهيوني منذ نشأت أداة من أدوات الإمبريالية العالمية. ولكن، من جهة أخرى، لا بد من أخذ التطورات الجديدة بعين الاعتبار التي جعلت الحركة الصهيونية شريكاً إستراتيجياً في النظام الدولي الجديد، والتي تجعل الحركة الصهيونية مختلفة من حيث الرتبة والدور عن القواعد الإقليمية الأخرى للامبريالية في العالم الثالث كنظام جنوب فيتنام أو نظام بينوشيت في تشيلي سابقاً مثلاً. فالحركة الصهيونية، منذ بدأت، كانت عالمية الطابع والتأثير يتجاوز نفوذها ودورها الإطار الإقليمي في ما يسمى “ألشرق الأوسط”. ولكن منذ انهيار دول المنظومة الاشتراكية، وقعت قفزة نوعية في سطوة ونفوذ الحركة الصهيونية لم تشهد هذه الحركة لها مثيلاً في تاريخها. وكان يفترض أن يتقلص النفوذ اليهودي بدلاً من أن يتصاعد بعد الحرب الباردة لو كانت الحركة الصهيونية مجرد أداة أخرى من أدوات الإمبريالية العالمية، وهنا يبرز الضعف القاتل في نموذج التحليل اليساري التقليدي للظاهرة الصهيونية. ففي ظل الرئيس كلينتون بعد الحرب الباردة شهد النفوذ اليهودي في الولاياتالمتحدة قفزة نوعية، وبدأ طرح مسخرة “المخرقة” لتبرير ذلك النفوذ بشكل لم يحدث في العقود الأربعة التالية للحرب العالمية الثانية. فما الذي جرى يا ترى؟ نخلص هنا إلى أنّ تحسّن وضع اليهود والحركة الصهيونية في الغرب عامة والولاياتالمتحدة خاصة، لا يمكن تفسيره من خلال شخص كلينتون أو غيره، بل هو مرحلة جديدة تتسم بتحول الصهيونية كأيديولوجية وحركة إلى ركن من أركان الإمبريالية العالمية، دون أن يعني ذلك هيمنة الصهيونية على النظام ككل، ودون أن يعني زوال كل التناقضات ضمن إطار هذا التحالف، لا بل الترابط العضوي. فإحدى صفات العولمة الحديثة هي صهينة العالم، الأمر الذي يعني أن النضال ضد الصهيونية لم يعد ضرورة فلسطينية وعربية وإسلامية فحسب، بل ضرورة عالم ثالثية أيضاً. مدخل: حول طبيعة النظام السياسي الأمريكي بغض النظر عن سياسة أمريكا الخارجية المتوحشة في العالم الثالث عامةً، لا بد أن نقف برهةً أمام المضمون الحقيقي للنظام السياسي الأمريكي الذي يدّعي أن لديه فائضاً ديموقراطياً يصدره إلى دول العالم التي اتفق أن تواجدت مصالحه الخارجية الاقتصادية أو الاستراتيجية فيها. إذ ثمة ديموقراطية وثمة ديكتاتورية في النظم السياسية بالتأكيد. ولكن ثمة ديموقراطية شكلية أيضاً تتمحور حول مهرجانات وطقوس تجديد الشرعية لحكم الأقلية للأغلبية، مرة كل بضعة سنوات، من خلال تنافس نخب سياسية من خلفية واحدة، مثل نظام الحزبين في الولاياتالمتحدة اللذين يمثلان فعلياً درجتين من لون عقائدي وسياسي واحد. فإذا كانت الديموقراطية حكم الشعب وتقريره لشؤونه العامة بنفسه، بعيداً عن اعتقاد الأمريكيين الشائع أن أياً منهم يمكن لو أراد أن يصبح رئيساً للجمهورية، وهو الوهم الفردي الذي يمتص نزعات التغيير الاجتماعية، فإن السؤال المنطقي التالي يصبح: كم يملك الشعب الأمريكي من القوة السياسية فعلاً، سواء في تحديد السياسة الداخلية أو الخارجية؟ وما هو الثمن الذي يدفعه المرء كي يصبح رئيساً أو حاكماً لولاية أو حتى نائباً في الكونغرس؟ فالحقيقة هي أن سياسات الدولة، كقوانين مجلسي النواب والشيوخ، لا يؤثر فيهما الشعب الأمريكي إلا قليلاً. وبعد مواسم تصويت مبرمجة إعلامياً ومالياً، يشارك فيها من ثلث إلى نصف الناخبين الذين يحق لهم الاقتراع بالحد الأقصى، حسب نوع الانتخاب، تصبح مراكز صنع القرار ملعب مجموعات الضغط المختلفة. نعم، الولاياتالمتحدة نظامها انتخابي! ولكن الذي يحدد سياساتها مجموعة من مراكز الضغط والمصالح الكبرى على رأسها التكتلات المالية العملاقة والشركات المتعدية الحدود من سيتي بانك إلى شركات النفط والسلاح والتكنولوجيا المتطورة. وهذه الشركات تمتلك وسائل إعلامية جبارة تشكل من خلالها الرأي العام الأمريكي وفقاً لمصالحها. ومن الأمثلة على هذا، ملكية شركة جنرال الكتريك لشبكة تلفزيونات أن بي سي، وملكية شركة أي تي تي التي تصنع السلاح شبكة تلفزيونات أيه بي سي. وسائل الإعلام نفسها تخضع لتركيز هائل في الملكية. فالغالبية العظمى من آلاف الأقنية التلفزيونية والصحف والمجلات والإذاعات ودور النشر وشركات إنتاج الموسيقى والمسلسلات التلفزيونية والأفلام ودور عرضها عبر أمريكا تمتلكها حفنة شركات، مثل أيه ول تايم ورنر مثلاً، التي ترتبط بدورها بعلاقات مع البنوك والشركات الكبرى الأخرى من خلال مشاريع مشتركة وتحالفات وأعضاء مجالس إدارة مشتركين. وهذه التركيبة هي التي تصنع النهج الإعلامي، كما تصنع النهج السياسي للدولة، لوسائل إعلامية تبدو ظاهرياً عديدة ومستقلة. مثلاً، من يعش في أمريكا يجد نشرات الأخبار التلفزيونية للأقنية الرئيسية تغطي نفس المواضيع في السياسة الخارجية وبنفس التوجه الإمبريالي المتطرف، ولا يشذ عن القاعدة إلا التلفزيون والراديو الحكوميين الذين يفسحان قدراً أكثر بقليل فقط للأصوات غير التقليدية. فيا للمفارقة! وبحكم أهمية الإعلام وتأثيره الجماهيري، وبحكم الطابع الاحتفالي الفارغ للديموقراطية الأمريكية، يجد المرشح لمنصب النائب أو حاكم الولاية أو الرئيس نفسه مضطراً لجمع مقادير هائلة من المال لتمويل الحملة الانتخابية تصل إلى الملايين، وهو ما يفوق مجموع مخصصاته لو وصل للمنصب أصلاً. فيبقى إذن مديناً للشركات الكبرى ومجموعات الضغط المتبرعة سياسياً، ويذهب للعمل فيها فيما بعد، إذا لم يأتِ منها أصلاً، كما أتى نائب الرئيس ديك تشيني من شركة هالبيرتون النفطية، ورئيسة مجلس الأمن القومي كوندوليسا رايس من شركة شيفرون النفطية وشركة تشارلز شواب للمضاربة المالية. الخلاصة الأولى هنا هي أن نجاح اليهود في أمريكا ينبع من كونهم جزءاً لا يتجزأ من هذه التركيبة، لا من قدرتهم على جرها حيث لا تريد. الخلاصة الثانية هي أن الحديث الساذج بين أوساط بعض العرب والمسلمين عن التأثير في أمريكا إعلامياً وسياسياً يدل على جهل مطبق ببنية الحكم فيها. فالتأثير المعاكس على النظام الأمريكي، في السياستين الداخلية والخارجية، الذي يجري على عكس مصالحه، بدأ دائماً من خارج مؤسساته، ورغماً عنها، مثلاً بالمقاومة الفيتنامية أو العراقية. أما الخلاصة الثالثة، وهي الأهم في معرض الحديث عن تصدير الديموقراطية الأمريكية للوطن العربي، فهي أن نظام الحكم الأمريكي هو أقرب للديموقراطية الشكلية منه للديموقراطية الحقيقية. وهو ما جربته المرحومة الدكتورة عائدة الدباس من ربى السلط الأردنية عندما فصلت من عملها في مؤسسة فولبرايت بسبب نشاطاتها القانونية المؤيدة للعراق. ملخص ورقة أثارت مشكلة مع اللوبي اليهودي في أمريكا: ومن هذا المدخل للديموقراطية الأمريكية، مدخل المال السياسي واللوبيات والعلاقات العامة دخل اليهود للسيطرة على القرار السياسي الأمريكي حسب البعض: “فالدعم الأمريكي لدولة “إسرائيل” يتناقض مع المصالح القومية الأمريكية، ولا ينبع من اعتبارات أمريكية إستراتيجية أو أخلاقية، بل من تغلغل اللوبي “الإسرائيلي” في أمريكا”. هذا هو جوهر الاستنتاج الخلافي الذي ذهبت إليه ورقة طويلة عن اللوبي الصهيوني في الولاياتالمتحدة وضعها البروفسوران ستيفن والت من جامعة هارفرد وجون ميرشايمر من جامعة تشيكاغو الأمريكيتين، وأثارت حولها الكثير من اللغط والجدال، وغضب أنصار “إسرائيل” في أمريكا، وصل إلى حد إعلان الدكتور ستيفن والت عميد كلية كنيدي للسياسة في جامعة هارفرد استقالته اعتباراً من نهاية العام الدراسي في حزيران 2006. وكان اللوبي اليهودي قد بدأ بشن الحملات الإعلامية ضد كاتبي الورقة ليعود بعدها إلى قرار إغراقها بالتجاهل والنسيان. وتسوق الورقة المثال تلو الآخر هنا عن عمق العلاقة الخاصة ما بين أمريكا و”إسرائيل”. فالكيان الصهيوني تلقى من المساعدات المالية ما لم تقدمه أمريكا يوماً لغيره خاصة منذ حرب أوكتوبر عام 73. ومنذ الحرب العالمية الثانية، أعطت أمريكا الكيان الصهيوني ما يعادل 140 مليار دولار، مع العلم أن المساعدات الأمريكية الخارجية تقدم عادة على أربع دفعات خلال العام، أما المدللة “إسرائيل” فتتلقاها في بداية السنة المالية دفعة واحدة مما يتيح لها أن تودعها في البنوك مقابل فائدة، مما يشكل مصدراً أخر للمساعدة. كما أن الكيان الصهيوني، على عكس غيره من متلقي المساعدات الأمريكية، غير مضطر لتبرير الطريقة التي ينفق فيها المساعدات الأمريكية. فهو يستطيع تحويل 25 بالمئة منها لموازنته الدفاعية تلقائياً، مما يمكنه من إنفاقها على المستعمرات، بالرغم من وجود شرط يمنع إنفاق أموال المساعدات الأمريكية على المستعمرات. وتقاسم أمريكا الكيان الصهيوني أخر منتجاتها العسكرية تطوراً، ولا تتردد بإعطائها معلومات استخبارية لا تقدمها لحلفائها في حلف الناتو، وتسارع لاستخدام حق النقض أو الفيتو في مجلس الأمن الدولي لحمايتها من أية قرارات تنتقدها كما فعلت 32 مرة منذ عام 1982مثلاً. وفي الحرب كما في المفاوضات السياسية، تلتزم الإدارة الأمريكية عامةً جانب الكيان الصهيوني. وقد اندفعت الإدارة الأمريكية لإغداق المساعدات العسكرية والمالية على “إسرائيل” خلال حرب ال73، ثم وقفت إلى جانبها تفاوضياً منذ مؤتمر جنيف، مروراً بعملية أوسلو وملحقاتها، حتى يومنا الحاضر ويجادل الكاتبان أن مثل هذا الدعم كان يمكن تبريره ربما أبان الحرب الباردة عندما كان الكيان الصهيوني يلعب دوراً في احتواء الأنظمة العربية المتحالفة مع موسكو، ولكن ليس بعد انتهاء الحرب الباردة. بل أن الدعم الأمريكي غير المحدود للكيان الصهيوني كلف أمريكا غالياً في الكثير من الأحيان، كما في الحظر النفطي العربي على أمريكا عام 73 بسبب دعمها للكيان خلال حرب تشرين. أما مع نهاية السبعينات، فقد تحولت “إسرائيل” إلى عبء استراتيجي على أمريكا، فلم يمكن استخدامها في الخليج العربي بعد الثورة الإيرانية بل اضطرت أمريكا لاستحداث قوة التدخل السريع، كما لم يمكن استخدامها في حربي الخليج ضد العراق، واضطرت أمريكا لحماية “إسرائيل” بدلاً من العكس. حتى أن تدخل “إسرائيل” في الحرب كان يمكن أن يسبب لأمريكا أضراراً سياسية لا يمكن إصلاحها… وبعد ضربات 11 سبتمبر، باتت تعتبر “إسرائيل” شريكاً فيما يسمى “الحرب على الإرهاب” بذريعة أن القوى والدول التي تهدد أمريكا بالإرهاب وأسلحة الدمار الشامل هي نفسها التي تهدد “إسرائيل”، ولكن يرى مؤلفا الورقة والت وميرشايمر أن دعم أمريكا للكيان الصهيوني هو أحد أهم الأسباب لتعرض أمريكا للإرهاب، أي أن “إسرائيل” مسئولة إلى حدٍ بعيد عن تعرض أمريكا للإعمال الإرهابية، ناهيك عن أن المنظمات المعادية للكيان الصهيوني ليست معادية بالضرورة لأمريكا عسكرياً. وهنا يذكر كاتبا الورقة بأن “إسرائيل” حليفٌ غير موثوق، لا يتورع عن التجسس على أمريكا كما فعل أكثر من مرة، وعن تسريب معداتها الحساسة للصين مثلاً. أما الحجج “الأخلاقية” التي تساق في أمريكا لتبرير دعم “إسرائيل” فواهية أيضاً. فدولة العدو تقدم في أمريكا على أنها حملٌ ضعيف محاط بذئاب ينوون به الشر، ولكن العكس بالضبط هو الصحيح، حيث أن “إسرائيل” تتفوق على جيرانها تقليدياً ونووياً وتكنولوجياً وأمنياً، وقد كان الأمر كذلك منذ حرب 1948. و”إسرائيل” تقدم إعلامياً على أنها دولة ديموقراطية في محيطٍ من الديكتاتوريات، بينما هي في الواقع دولة تمارس أبشع أنواع العنصرية ضد العرب فيها. أما أن “إسرائيل” تستحق معاملة خاصة بذريعة الاضطهاد الذي تعرض له اليهود في الماضي، فيرى الكاتبان أن تأسيس “إسرائيل” أتى كرد تاريخي مناسب على ما تعرض له اليهود في الماضي في “المحرقة” مثلاً، وأنهم يستطيعون أن يشعروا بالأمان الآن في الوطن اليهودي، سوى أن ذلك سبب بعض الجرائم الجديدة ضد طرف ثالث بريء هو الفلسطينيون. ويؤكد الكاتبان على اعترافهما بحق دولة العدو بالوجود، وتعاطفهما مع اليهود، سوى أنهما يعتقدان أن الحديث عن الخطر على وجود دولة “إسرائيل” مبالغ فيه، وأن الحقيقة اليوم هي أن “إسرائيل” هي التي ترفض الاعتراف بالحقوق الوطنية للفلسطينيين في الضفة وغزة. المهم، كل ما سبق يدل عند كاتبي الورقة على أن حجج المصلحة الاستراتيجية الأمريكية في “الشرق الأوسط” لا تفسر الدعم الأمريكي للكيان ولا الذرائع الأخلاقية التي يسوقها الإعلام، فلا بد أن التفسير يكمن إذن في دور اللوبي الصهيوني في الولاياتالمتحدة، وفي قوته وسطوته. وهو ما يقضيان الثلاثة أرباع الباقية من ورقتهما في معالجته، مع حرص شديد على أن يظهرا بمظهر “العداء للسامية”. ولكن لب الورقة أن “إسرائيل” تتحكم بالسياسة الخارجية الأمريكية من خلال مجموعة من المنظمات ومجموعات الضغط المؤثرة على الجهازين التشريعي والتنفيذي من جهة، ومن خلال تحكمها بمفردات الحوار السياسي المتعلق ب”إسرائيل” عبر وسائل الإعلام الرئيسية من جهة أخرى. ولكن أيضاً من خلال تحالفها مع الأصوليين المسيحيين المتصهينين الذين ينعمون بدورهم بوزنٍ وتأثير سياسيين كبيرين في الحياة الأمريكية. جوهرة العقد هنا بالطبع هي إيباك، أو لجنة العلاقات الأمريكية-”الإسرائيلية” AIPAC وهي رأس حربة اللوبي الصهيوني في الكونغرس الأمريكي التي تستطيع من خلال علاقاتها وأموالها أن تعاقب من يعارض “إسرائيل” وأن تكافئ من يؤيدها، وهي من أقوى مجموعات الضغط المنظمة في واشنطن. وهو مجرد مثال أخر على دور اللوبي الصهيوني في الحياة السياسية الأمريكية الذي يؤثر أيضاً بالانتخابات الرئاسية الأمريكية وعملية التعيين في الوظائف العليا في الدولة، خاصة تلك التي تمت بصلة للمنطقة العربية، والذي يتخلل مراكز الأبحاث والدراسات الرئيسية التي تسهم بصنع القرار في واشنطن، ناهيك عن العالم الأكاديمي في أمريكا برمته. وحسب كاتبي الورقة، باختصار، فإن مجمل العداء الأمريكي للفلسطينيين والعرب والمسلمين، حيث وقع، يحدث بسبب هيمنة اللوبي اليهودي على القرار السياسي في واشنطن، وليس بسبب أي عداء أصيل من لدن الإدارة الأمريكيةللفلسطينيين أو العراق أو سوريا أو إيران أو غيرها! تقييم لورقة البرفسوران والت وميرشايمر: (ملاحظة: يحتوي هذا الجزء مساهمة أساسية من أخي محمد أبو النصر) في البداية، لا بد من التأكيد أن الحديث عن لوبي يهودي في الولاياتالمتحدة ليس ضرباً من الخيال، وثمة دلائل إحصائية وسياسية لا تعد ولا تحصى على وجود وقوة ذلك اللوبي، تصل كلها إلى نتيجة واحدة هي أن اليهود يتصرفون سياسياً ككتلة منظمة مدركة لذاتها، وأن تواجدهم في المفاصل الحساسة للمجتمع والسياسة والاقتصاد والثقافة في أمريكا يتجاوز نسبتهم من السكان بما لا يقاس. فهم اثنان إلى ثلاثة بالمئة من السكان، ولكنهم أكثر من ذلك بكثير بين أصحاب البليونيرات أو صناع القرار السياسي أو مديري المؤسسات الإعلامية والثقافية الكبرى… ولكن هنا نجد نقطة الضعف الأولى في تحليل ورقة البرفسوران والت وميرشايمر. فهما يوهمان القارئ أو يتوهمان أن قوة اللوبي اليهودي تنبع من مجموعات الضغط المنظمة التي تمارس تأثيرها في واشنطن على الجهازين التنفيذي والتشريعي هناك، زائد النفوذ اليهودي في المؤسسات الإعلامية والثقافية، وكأنه لا توجد إمبريالية، وأن أمريكا مغلوبٌ على أمرها كمؤسسة حاكمة. ولكن تبقى مثل هذه النظرة تبسيطية إلى حد السخافة، حتى لو لم ننكر، بل أكدنا، وجود مثل التأثير اليهودي عبر مؤسسات الضغط والإعلام والعالم الأكاديمي. فالأساس في قوة اللوبي اليهودي تبقى القوة الاقتصادية اليهودية التي تشكل مفتاحاً ضرورياً لفهم كل ظاهرة الدور اليهودي في الحياة السياسية الأمريكية، وهو الاستنتاج الذي صاغه محمد أبو النصر في مقالته: “حول أوهام العمل العربي والإسلامي من داخل النظام السياسي الأمريكي”. والعرب إن أرادوا أن يمارسوا تأثيراً مشابهاً لتأثير اليهود في أمريكا فإن شرط ذلك سيكون بالضرورة الوصول إلى نقطة ممارسة قوة اقتصادية هائلة كجالية متحدة تكون في الآن عينه جزءاً لا يتجزأ من المؤسسة الإمبريالية الأمريكية، فإن أصبحوا جزءاً من تلك المؤسسة، لا تعود مصالحهم متماثلة مع العرب والمسلمين والمستضعفين في الأرض عامة، بل تصبح متماثلة مع مصالح الإمبريالية. إذن القوة اليهودية-الصهيونية في أمريكا لا تتلخص فقط في إيباك أو اللوبي الصهيوني في الكونغرس الأمريكي، بل أن هذا اللوبي نفسه ليس سوى أحد الأجزاء الأوضح نسبياً في ظاهرة أكبر بكثير هي ظاهرة القوة اليهودية في الولاياتالمتحدةالأمريكية. بيد أن القوة اليهودية الصهيونية ليست مقتصرة على وسائل الإعلام والترفيه فحسب. فالمال اليهودي تركز تقليدياً في القطاعات غير المنتجة، لا في الصناعات الثقيلة مثل صناعة السيارات مثلاً أو في البناء أو الفولاذ، بل في المصارف والتمويل والأسهم والسندات والعملات الصعبة. وبعد أن فك الرئيس الأمريكي الأسبق ريتشارد نيكسون ارتباط الدولار بالذهب عام 1973، ازدهر رأس المال المضارب، مما دفع بالمصالح اليهودية إلى الأمام قطاعاً بعد قطاع في الاقتصاد المتعولم والمضارب بتسارع كبير في الثمانينات والتسعينات. فاليوم لا يتمثل النفوذ اليهودي-الصهيوني ببساطة بمجموعة خبراء العلاقات العامة اليهود القادرين على التحدث بلباقة، على ظن البعض، الذين يدعون نواب الكونغرس إلى الغداء ويقدمون لهم رحلات مجانية إلى فلسطينالمحتلة. بل أن هذا النفوذ اليوم موجودٌ كما نعلم داخل البيت الأبيض ووزارة الدفاع كما لم يوجد من قبل، وهي الظاهرة التي أفصحت عن نفسها في ظل بيل كلينتون، ولكنها أيضاً الظاهرة التي تفاقمت في ظل الرئيس الحالي بوش الابن. والمسؤولون الأمريكيون مثل ريتشارد بيرل وبول ولفوويتز ودوغلاس فيث وغيرهم ليسوا أعضاءً في اللوبي اليهودي، بل هم أعضاء كاملو العضوية في الحلقة الداخلية التي تصنع السياسة في واشنطن، وهم صهاينة إلى درجة أنهم كانوا مستشاري نتنياهو في الوقت نفسه الذي عملوا فيه في الحكومة الأمريكية. بالتالي، لا ننكر العلاقة الخاصة جداً ما بين أمريكا والكيان الصهيوني، ولكن سبب دعم الإمبريالية في أمريكا، وفي أوروبا قبلها، للحركة الصهيونية يعود لتقاطع المصالح بين الطرفين، لا بسبب العلاقات العامة الذكية للوبي الصهيوني، حتى لو افترضنا جدلاً عدم وجود قوة اقتصادية يهودية متميزة في العالم. فأوروبا الاستعمارية رأت من مصلحتها أن تنشاً دولة الكيان الصهيوني في أواسط القرن التاسع عشر لمنع قيام الوحدة العربية، والإمبريالية ما زالت مستمرة بدعم الكيان الصهيوني لنفس السبب: تقاطع المصالح والحاجة الإمبريالية-الصهيونية المشتركة لإبقاء الوطن العربي ضعيفاً ومجزأً. وشتان ما بين هذا الموقع وموقع العرب والمسلمين الأمريكيين الذين يضرون بالمصالح الإمبريالية في الهيمنة على موارد وجغرافية المنطقة العربية بقدر ما ينجحون في عملهم لتحرير فلسطين وتوحيد الوطن العربي. وبيت القصيد هنا هو أن الرأسماليين اليهود الكبار بمصالحهم الصهيونية يتقاطعون تماماً مع المصالح الإمبريالية الكبرى للإمبرياليين الأمريكان من غير اليهود، ويشاركون بشكلٍ كاملٍ بالتالي في صناعة القرار الإمبريالي الأمريكي. وهذا يعني أن اليهود “يشاركون تماماً” في الحياة “الديموقراطية” الأمريكية بالضبط لأنهم أعضاء في “مجلس إدارة” شركة أمريكا المتحدة. أما حث الأفراد المسلمين، حتى ولو كانوا أثرياء، بأن “يصبحوا جزءاً من العملية السياسية الأمريكية” فيعني فعلياً بأن عليهم أن “يشتروا أسهماً” في شركة أمريكا المتحدة. وهو ما يعني بالضرورة إلحاق العرب والمسلمين الأمريكيين بالنظام الإمبريالي-الصهيوني الذي يستغلهم ويخضعهم. نستنتج من كل هذا أن مقالة البروفسوران والت وميرشايمر، بقدر ما تحويه من حقائق مهمة حول اللوبي اليهودي الموجود فعلاً ودوره، تتجاهل حقيقة أن ذلك اللوبي يبقى جزءاً لا يتجزأ من المؤسسة الحاكمة الأمريكية، ويمارس دوره بتلك الصفة، وليس من خارج تلك المؤسسة الحاكمة. وعلينا أن نكون واضحين تماماً هنا: عدونا هو الطرف الأمريكي-الصهيوني الذي يشكل طرفاً واحداً في أمريكا أولاً، وضمن صيرورة العولمة ثانياً. إذن، النتيجة الموضوعية التي نصلها من قراءتنا لمادة البروفسوران والت وميرشايمر أنها تبيض صفحة الإدارة الأمريكية في الوقت الذي تعيش فيه تلك الإدارة مأزقاً حقيقياً بسبب سياساتها في بلادنا التي تمثل في آنٍ معاً مصلحة المؤسسة الإمبريالية الحاكمة والحركة الصهيونية المترابطة معها عضوياً على الصعيدين الأمريكي والعالمي. مرة أخرى، ما يقوم به البروفسوران والت وميرشايمر هو تحميل اللوبي اليهودي في أمريكا مسؤولية السياسات الأمريكية المعادية للفلسطينيين والعرب والمسلمين، وكأن أمريكا كيان مسالم، لا كيان إمبريالي عدواني، في بقية أرجاء العالم، من جنوب أمريكا إلى جنوب شرق آسيا، حيث لا توجد مصالح يهودية يمكن تحميلها مسؤولية العدوانية الإمبريالية!! ومن المعروف أن الهزائم والنكسات تصعد الخلافات الداخلية، لأن الهزيمة يتيمة بينما النصر له ألف أب، فلا شك أن المأزق الذي وضعت المقاومة العراقية أمريكا فيه، وتصاعد العداء الشعبي العربي والإسلامي لأمريكا، قد دفع بجناح المستعربين في الإدارة الأمريكية، وهو جناح الأقلية في الإدارة الأمريكية الداعي لتحسين العلاقة مع الدول العربية وعدم التهاون إلى هذه الدرجة مع “إسرائيل”، إلى التعبير عن نقمته من عدم إبقاء أمريكا مسافة كافية من العدو الصهيوني وسياساته، محاولاً في الآن عينه أن يبيض صفحة الإدارة الأمريكية، وهو ما يعبر في النهاية عن صراع الكتل المختلفة في المؤسسة الإمبريالية الحاكمة، ولكن على قاعدة الالتزام بالقاسم المشترك وهو المصلحة العليا للمؤسسة الإمبريالية ورأس المال المالي الدولي الذي يقف خلفها. والخلاصة تبقى أن اليهود في فلسطين ليسوا مجرد جماعة وظيفية، و”إسرائيل” ليست مجرد قاعدة للإمبريالية، واللوبي اليهودي في أمريكا حقيقة لا جدوى من إنكارها، ولكنها كتلة متماسكة نسبياً قائمة لذاتها هي في الآن عينه جزء لا يتجزأ من المؤسسة الحاكمة الإمبريالية. وهذه المؤسسة الحاكمة هي عدوة كل شعوب الأرض وعلى رأسها العرب والمسلمين، وهي عدوة حتى لو لم يوجد لوبي يهودي أبداً، ولكن اللوبي كجزء من المؤسسة الحاكمة الإمبريالية ليس مجرد ذراع سياسية للكيان الصهيوني في أمريكا، بل هو جزءٌ عضويٌ من البنية الاقتصادية-الاجتماعية لرأس المال المالي المضارب والمرابي، أي للرأسمالية في عصر العولمة. وبصفته هكذا، يصبح اللوبي اليهودي بدوره عدواً لكل شعوب الأرض، وتصبح الصهيونية أكثر من حركة استعمار فلسطين، بل تصبح سمةً أساسية للرأسمالية في حقبة العولمة، فقد ترافقت عولمة الرأسمالية مع صهينتها، وهو ما ترابط مع تصاعد خطاب المِخرقة الأجوف بالذات مع انتقال الرأسمالية من النموذج القومي إلى النموذج المعولم. بالعربي الفصيح، تقدم اليهودية كديانة أفضل الشروط لنمو نزعات المضاربة والمراباة عالمياً، فنحن نتحدث هنا عن تنين ذي رأسين…